الاقتصاد الدولي

د. بارق شٌبَّر – مجموعة اليورو في مواجهة أزمات مديونية جديدة

بعدما تمكن بالكاد في ايار الماضي من ادارة أزمة مديونية اليونان وبتكاليف اقتصادية واجتماعية باهظة يواجه الاتحاد النقدي الأوروبي (مجموعة اليورو) والذي يضم 16 دولة من مجموع 27 دولة اعضاء في الاتحاد الأوروبي وللمرة الثانية في هذا العام أزمة مديونية جديدة تعصف باقتصاد أحد الأعضاء المؤسسين للمجموعة في عام 1999 وهو أيرلندا. وبالرغم من أن بوادر هذه الأزمة ظهرت في بداية هذا العام، الا أن أبعادها الحقيقية ومضاعفاتها لم تكن واضحة لأصحاب القرار الاقتصادي السياسي في الاتحاد الأوروبي عموماً وفي مجموعة اليورو خصوصاً وأدى ذلك الى فشل احتوائها في وقت مبكر.

خلفيات وتداعيات الأزمة

تكمن المفارقة الكبرى في أن الاقتصاد الأيرلندي كان يتسم حتى ربيع عام 2007 بديناميكية عالية وجاذبية كبيرة للاستثمار الأجنبي بسبب الضرائب المنخفضة، ما انعكس في التشغيل الكامل لقوة العمل وتحقيق معدلات نمو عالية بلغت نحو 6% سنوياً وفي تضاعف أسعار العقار عدّة مرات منذ بداية الألفية الثانية. ولكن مع انهيار المصرف الاستثماري الأميركي ليمان برذر في ايلول(سبتمبر) 2008 وانفجار الأزمة المالية العالمية كان القطاع المصرفي الأيرلندي الأكثر تضرراً من بين القطعات المصرفية في بقية الدول الأوروبية، بسبب امتلاك البنوك الأيرلندية لكميات ضخمة من السندات المالية الفاسدة والأصول الهالكة. وفي تحرك جريء للحكومة الأيرلندية فقد أعلنت في بداية عام 2009 عن تقديم ضمانات كاملة لجميع الودائع في البنوك الأيرلندية، ما يعني ضمان ودائع بقيمة 80 مليار يورو في بنك واحد وهو البنك الانجلو ايرلندي الذي اُعلن عن تأميمه بالكامل بسبب تعرضه للافلاس الحتمي. وبلغت كلفة هذه العملية لوحدها وحتى الآن اكثر من 30 مليار يورو ومن المتوقع ان ترتفع خسائر المصارف الايرلندية الى حوالي 50 مليار يورو في هذا العام تتحملها الموازنة العامة بالاضافة الى الأعباء الأخرى. وعلاوة على خسائر البنوك المتزايدة التي تحملها الحكومة الأيرلندية على جانب الانفاق في الموازنة العامة، يتعرض جانب الايرادات الى ضغوط كبيرة بسبب التراجع الحاد في الايرادات الضريبية على خلفية انكماش الاقتصاد الوطني بمعدل 8% في العام الماضي. ومن المتوقع ان ترتفع نسبة العجز في الموازنة العامة الى الناتج المحلي الاجمالي الى حوالي 32% في هذا العام والذي يُعد وفق مبادئ علم الاقتصاد انذارا بالخطر، حيث تمثل هذه الحالة عشر مرات ما مسموح به ويمكن مقارنتها مع حالة ارتفاع درجة حرارة الانسان الى 40 مئوية. وكانت معاهدة تأسيس الاتحاد الأوروبي النقدي والتي تسمى باتفاقية ماسترخت للاستقرار المالي والملزمة لجميع اعضاء مجموعة اليورو والتي أبرمت في عام 1992/1993 .حددت سقفاً أعلى للعجز في الموازنة العامة وهو ما نسبته 3% فقط من الناتج المحلي الاجمالي لتلك الدولة، بالاضافة الى ضوابط أخرى تخص الدين العام.

مصيدة المديونية

سجلت مديونية أيرلندا امام المصارف الأجنبية في حزيران 2010 ما قيمته 731 مليار دولار وفق بيانات بنك التسويات الدولي في بازل وهذا يمثل ما نسبته 320 % من حجم أداء الاقتصاد الأيرلندي السنوي بالمقارنة مع نسبة 60% المسموح بها في اتفاقية ماسترخت المشار اليها سابقاً.

وبالرغم من الاجراءات التقشفية التي بدأت بها الحكومة الأيرلندية قبل عامين إلا أنها لم تتمكن من استعادة ثقة المستثمرين الذين يشككون في قدرتها على تسديد ديونها، ما أدى الى مطالبة المُستثمِرين بمعدلات فائدة مرتفعة على القروض الجديدة التي تحتاجها الحكومة لتسديد الديون المستحقة (القديمة). وبالمقارنة مع الحكومة الألمانية التي تدفع معدل فائدة يقل عن 2,5% سنوياً لتمويل عجز موازنتها العامة، يتعين على الحكومة الأيرلندية دفع معدل فائدة يفوق ما نسبته 8% سنوياً لتمويل احتياجاتها المالية، ما يعني ارتفاع حجم خدمة الدين وزيادة الأعباء على الموازنة.

وفي ظل الانكماش الاقتصادي وتراجع الايرادات الضريبية يرتفع العجز وبذلك ترتفع الحاجة الى المزيد من الاقتراض وهذا بدوره يؤدي الى ارتفاع أكبر في معدلات الفائدة بسبب ارتفاع مخاطر عدم التسديد وإعلان الإفلاس. ومما لاشك فيه أن هذا السيناريو يشكل كابوساً لمجموعة اليورو، حيث سستتكبد المصارف الألمانية والبريطانية والفرنسية والبلجيكية التي تملك سندات أيرلندية خسائر جسيمة تتسبب في مضاعفات على موازنات هذه الدول. ويتوقع ان تفقد مجموعة اليورو وبالأخص الدول ذات المديونية المرتفعة (البرتغال، اسبانيا وايطاليا) الثقة في الأسواق المالية وتتجه نحو هاوية الإفلاس، وهذا قد يعني انهيار العملة الأوروبية الموحدة، ما يشكل مخاطر كبيرة على مستقبل الاتحاد الأوروبي كأكبر كتلة اقتصادية في العالم تشكل ما نسبته 21% من الانتاج العالمي بالمقارنة مع الولايات المتحدة بنسبة 20%.

خطة الإنقاذ المقترحة

تحسباً لمثل هذا التطور اتفقت مجموعة اليورو إبان عملية انقاذ اليونان من الافلاس المحتم في ايار الماضي على تأسيس الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي بقيمة 750 مليار يورو يسهم فيه صندوق النقد الدولي بمبلغ 250 مليار يورو. ويتعين على الدول الاعضاء التي تواجه أزمات مديونية التقدم بطلب الى المساعدة الى الصندوق. وفي حالة الموافقة يذهب الصندوق الى الاسواق المالية ويقترض المبلغ المطلوب مع اعطاء ضمانات من حكومات الدول الاعضاء في المجموعة، ويبلغ معدل الفائدة في أسواق المال حالياً 2,5%. ومن ثم يمنح الصندوق هذا المبلغ كقرض الى الدولة المعنية وبمعدل فائدة سنوي يبلغ 5% ، ما يعني ان الصندوق سوف يحقق ربحاً مجزياً في حالة عدم فشل الدولة المقترضة في التسديد. اما في حالة الفشل فسوف تتحمل الدول الاعضاء وبالتالي دافعو الضرائب في هذه الدول الخسائر الناجمة عن ذلك.

وبعد تردد طويل قدمت الحكومة الأيرلندية طلب المساعدة الى هذا الصندوق بتاريخ 21/11/2010 وسوف يتعين عليها تشديد اجراءاتها التقشفية ولربما رفع ضريبة الشركات من معدلاتها المتدنية والمنافسة لبقية الدول الأعضاء. إلا ان الأسواق المالية لم تستجب لقرار انقاذ أيرلندا من الافلاس المحتم توقعاً منها بظهور أزمات مديونية جديدة لدول أعضاء أخرى وفي مقدمتها البرتغال واسبانيا وايطاليا وانعكس ذلك في هبوط سعر صرف اليورو أمام الدولار خلال الأسبوع الماضي.

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    كامل العضاض:

    الأخ الفاضل دكتور بارق
    وجدت مقالك هذا ضافيا وواضحا وسلسا، فشكرا لعرضك الممتع. ولكني اعزي مشكلة المديونية هذه، بصورة أساسية، للتمادي في الإئتمان المالي ولخلق أدوات مالية نقدية موازية لا تستند الى قاعدة مناسبة من الإنتاج السلعي. فالمشكلة هي في تخلف وتدهور القطاع العيني والسلعي مقابل توسع غير مبرر للقطاع المالي والنقدي والإئتماني. وعليه فإن المعالجات الصائبة، في رأينا، في المدى المتوسط والبعيد، هي في تحفيز الإنتاج السلعي وتوظيف التكنلوجية الحديثة لرفع الإنتاجية. أما في المدى القصير، فلابد من التقشف، وزيادة الضرائب وتحسين وسائل الإنتاج، وترويج سياسات منع الهدر، وتقليص الإئتمان الإستهلاكي وليس الإستثماري الإستراتيجي، مما يعني إتباع سياسات تمويلية تمييزية
    شكرا لمساهمتك الطيبة هذه، مع التقدير
    كامل العضاض

اترك رداً على كامل العضاض إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: