التخطيط للتنميةالموارد المائية و حماية البيئة
21/01/2013
يواجه العراق العديد من التحديات الرئيسة ومنها تغير المناخ الذي يمكن تلمس العديد من آثاره على البيئة والاقتصاد، وعلى وجه الخصوص في قطاعي المياه والزراعة.
لم تجر حتى اليوم -بحدود علمي- اية دراسة خاصة لتقييم التأثير المحتمل لتغير المناخ على العراق، ومع ذلك فمن المسلم به أن العراق هو من الدول الأكثر عرضة لتغير المناخ بسبب موقعه الجغرافي وخصائصه المناخية والهيدرولوجية.فالعراق يقع ضمن المنطقة الجافة وشبه الجافة، وهي منطقة قاحلة يسود بها المناخ القاريّ، البارد شتاء والحار في فصل الصيف والذي يتميز بقلة الأمطار وبندرة المياه. ومع ذلك، فإن مناطق منابع النهرين وروافدهما تشهد تساقطا كثيفا للثلوج والامطار في أشهر الشتاء (تشرين الثاني –شباط).
اما في أشهر الربيع (اذار – مايس) فان ذوبان الثلوج في المرتفعات التركية وبدرجة ادنى الايرانية يشكل مجمل الجريان السطحي للنهرين والروافد حيث تتدفق المياه من المنابع وحتى المصب في الخليج، اي انها تقطع الحدود السياسية لعدد من البلدان.
بالرغم من هذا التنوع او التقسيم السياسي للاحواض النهرية، فان الجريان السطحي الناتج عن ذوبان الثلوج في منابع النهرين دجلة والفرات وروافدهما كانت تتدفق برمتها إلى العراق دون انقطاع او عرقلة حتى وقت قريب.
لقد شكلت وفرة الموارد المائية في العراق وغزارة تدفقها الموسمي في الماضي شبكة واسعة من الأنهار والروافد والمجاري المائية والقنوات والسواقي والبحيرات اضفت حيوية مميزة على النظام البيئي وخصوبة متجددة للارض. وكان ذلك ايضا سببا في تكوّن الاهوار في الجنوب العراقي عند ثغر الخليج، حيث مصب الانهار الكبرى في المنطقة وخاصة دجلة والفرات والكرخة والكارون، وهي التي كانت حتى وقت قريب ترفد سوق الغذاء المحلي باكثر من (50 بالمئة) من احتياجاته من الاسماك وبعض المنتجات الحيوانية.
تنبؤات لاتبعث على التفاؤل
اظهرت نتائج التنبؤ المستقبلي للنماذج الرياضية المعتمدة من قبل الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ والتابع للامم المتحدة (IPCC) صورة متشائمة لهطول الامطار والثلوج في المرتفعات التركية، وبالتالي للتدفقات في نهري دجلة والفرات. فمن المتوقع وفقها أن ينخفض هطول الأمطار والثلوج بين (10 بالمئة) إلى (60بالمئة)، وهذه بدورها تترجم إلى تراجع مماثل في تدفق نهري دجلة والفرات. كما توقعت احدى الدراسات الحديثة، وهي ذات دقة عالية، بأن تدفق نهر الفرات بالذات سينخفض بنسبة (29بالمئة) إلى (73بالمئة) واشارت الى ان هناك احتمالا باختفاء الهلال الخصيب بأكمله بحلول نهاية هذا القرن.
بغض النظر عن مدى صدقية هذا التنبؤ والافتراضات المستخدمة بالنموذج الرياضي اياه، ولكوننا غير قادرين على اثبات عكسه، فانه بالتالي يدق ناقوس الخطر وبصوت لايمكن اغفاله.
لقد تعاظم التأثير السلبي لتغير المناخ على العراق بسبب التدخل الفظ للانسان في الدورة الطبيعية للمياه في حوضي النهرين دجلة والفرات. كما تغيّرت وتشوّهت الطبيعة الهيدرولوجية لهما نتيجة لاجراءات السيطرة على المياه وتخزينها بواسطة سلسلة السدود الكبرى التي انشئت على مجاري النهرين وروافدهما في جميع دول الحوض خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد ادى ذلك الى انحسار او انخفاض مناسيب الذروة الفيضانية، التي كانت تحدث طبيعيا في الربيع، نتيجة لتخزين الزيادة في التدفقات خلف تلك السدود العملاقة. كما اصبحت الاطلاقات المائية من تلك السدود خاضعة لاعتبارات اخرى، ما زاد في هشاشة الانظمة الايكولوجية المرتبطة بها ومنها بالطبع الاهوار العراقية.
العبث بالدورة الطبيعية
يعتمد العراق، باعتباره بلد المصب، بشكل كبير على هطول الامطار والثلوج على المرتفعات التركية والايرانية وكذلك على طرق تشغيل المنشآت وخاصة السدود الكبيرة في دول الجوار. اما تأثير هطول الأمطار على الاراضي العراقية فنادرا ما يشكل تدفقا او جريانا سطحيا ذا اهمية بسبب ندرتها (اي الامطار)، اضافة الى ان الجفاف النسبي لسطح التربة في اغلب اشهر السنة يؤدي الى تسرب جزء مهم من الامطار الاكثر غزارة الى باطن الارض اولا، ومن ثم يحصل بعد ذلك جريان او تدفق سطحي للمياه اذا تشبعت التربة.
اما في المساحات المبنية فان معظم الامطار الغزيرة تتحول مباشرة الى جريان سطحي جارف احيانا او برك مائية ومستنقعات، وقد يسبب اضرارا فادحة في حال عدم كفاية انظمة المجاري، كما حصل في بغداد يوم 25 كانون الاول 2012 حيث غرقت بعض احياء المدينة.
ومع ذلك، فالمواسم الرطبة توفّر ما يلزم من رطوبة مفيدة للتربة وتقلل متطلبات الري وتسهم بشكل كبير في تحسين المراعي والمناطق الخضراء وتمنع تآكل وانجراف سطح التربة.
ان تدفقات الذروة الفيضانية الموسمية التي كان يشهدها العراق سنويا في أوقات الربيع يجري الآن قطعها وتخزينها في الخزانات والسدود التركية والإيرانية والسورية الضخمة، ثم يجري التحكم بها لاحقا من قبل دول الجوار على شكل اطلاقات مائية تخضع للاحتياجات والمتطلبات الخاصة لتلك الدول، ولا تمثل احتياجات العراق الاقتصادية عاملا في تشغيل الشبكات الواسعة من المنشآت الهيدروليكية التي تملكها وتشغّلها الدول المشاطئة معه على هواها.
تأثيرات ملموسة
ان إنتاج المحاصيل في الأراضي المروية في العراق يتأثر بأي تغيير في توقيت ووفرة الموارد المائية في مواسمها المعتادة. كذلك الامر في الأراضي الديمية في الجزء الشمالي من البلاد، فهي الاخرى هشة وحساسة جدا للتغيرات في نمط سقوط الأمطار سواء من حيث توقيتها او كميتها، لذلك فان النتيجة الوحيدة المتوقعة عراقيا نتيجة لزيادة التحكم والتدخل في دورة المياه الطبيعية في حوضي الرافدين هي تقويض الإنتاج الزراعي.
لقد احدث العبث بنظام الجريان الطبيعي لدجلة والفرات تغييرات حادة في الدلتا العراقية في الجزء الجنوبي من البلاد وبالذات في منطقة الاهوار وشط العرب، كما ان الحرب العراقية الايرانية في الثمانينيات، والدمار الذي احدثته العمليات العسكرية وسياسة التجفيف، التي اتبعها النظام الدكتاتوري السابق، ادت الى القضاء على حوالي (90بالمئة) من اهوار العراق، وهي التي كانت مساهما رئيسا في إنتاج الأغذية والحفاظ على سلسلة الحياة والتنوع البايولوجي في العراق واسهم ذلك في زيادة حرارة سطح الارض في المنطقة.
لقد تحوّلت الأراضي الخضراء والمقاصب المغطاة تاريخيا بالمياه والقصب الى اراض مهجورة وقاسية لا حياة فيها نتيجة لقرار تجفيف الاهوار. ومما زاد في فداحة الامر هو تزامن تنفيذ القرار مع السيطرة الكاملة على منابع موارد المياه في الدول المجاورة، ما اضطر عشرات الآلاف من السكان إلى الفرار من منطقة الاهوار والتعرض للجوع والفقر والنزوح.
ان العراق يشهد العديد من المشاكل الخطيرة التي يمكن أن تعزى إلى تغير في الظروف المناخية السائدة، ويتجلى ذلك في تفاقم عملية التصحر وانتشارها السريع في اراض خصبة تاريخيا، وتقلص الغطاء النباتي، وتكرار العواصف الترابية الكثيفة، وامتداد فترات الجفاف، وانخفاض معدل هطول الأمطار في جميع أنحاء البلاد، وموجات الحر الشديد، حيث سجلت درجات حرارة غير مسبوقة زادت على (50) درجة مئوية في الصيف الماضي وكبدت العراق اضرارا فادحة.
فعلى سبيل المثال كان معدل درجات الحرارة للفترة (1988 – 2007) أعلى من معدلها على مدى السنوات العشرين التي سبقتها بدرجة مئوية واحدة في بغداد، وبدرجة ونصف الدرجة في مدينة الناصرية إلى الجنوب. وقد لوحظ اتجاه مماثل في هطول الأمطار المسجلة في أنحاء البلاد، حيث سجل معدل هطول الأمطار ببغداد خلال العقد الماضي هبوطا بنحو(50بالمئة) مقارنة بمعدلها على المدى الطويل.
ولكي نضع ذلك في سياقه العملي، فأن علماء منظمة الأغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو) يعتقدون ان الزيادة في متوسط درجات الحرارة بدرجة مئوية واحدة يؤدي الى انخفاض يقدر بـ (10بالمئة) في الإنتاجية الزراعية للتربة. ولا عجب اذن في ان إنتاجية الأراضي المزروعة في العراق باتت هامشية لدرجة أن الغذاء المنتج محليا لا يغطي سوى (30بالمئة) من حاجة السوق المحلي ما اضطر الحكومة إلى الاعتماد على استيراد (70بالمئة) من تلك الحاجة.
التكيف مع التغير المناخي ام اهماله؟
لا يزال هناك الكثير مما يتعين القيام به في العراق على مستوى السياسات والبرامج والحوكمة في سوق الانتاج الزراعي والغذاء، فالمنتجات الزراعية والغذائية في العراق ليست تنافسية، ومازالت كلف انتاجها عالية ويعتمد المزارعون غالبا على الدعم الحكومي والإعانات، والتي لايمكن استمرارها الى الابد.
اما اللوائح المنظمة للسوق وتجارة الاستيراد والتصدير فهي غير واضحة حتى للمراقبين، ويجري احيانا فرض قيود على الواردات من السلع الغذائية، او يمنع استيراد البضائع بين فترة واخرى بصورة مفاجئة ترتبك معها اسعار السوق الغذائي وتتعرّض الى تقلبات غير محسوبة واختناقات، كما حصل في اسعار بعض المحاصيل خلال العام 2012، وتعرض القنوات الفضائية العراقية شكاوى لاحصر لها من قبل المواطنين حول هذا الامر.
ان تأثير التغيرات المناخية والاحتباس الحراري هي من المؤثرات المهملة في التنمية الاقتصادية في العراق لأسباب عديدة لايتسع المجال لسردها. ومن هنا يتوجب على اي برنامج طموح للتنمية في اي من القطاعات الاقتصادية، وبالاخص تلك الحساسة للتغيرات المناخية ومنها القطاع الزراعي، ان يتضمن معالجة او معالجات عدة للحدّ من التاثيرات السلبية للتغير المناخي. اي ان البرامج والخطط التي تعتمد على المعطيات الاقتصادية الاجتماعية والبيئية والسياسية يجب ان تأخذ بالاعتبار من الآن فصاعدا التغير المناخي كعامل مهم في تلك الخطط والبرامج.
ان قدرة العراق على التكيف مع تغير المناخ في المنطقة مازالت قدرة هامشية ان لم تكن معدومة. ومع ذلك، فإن الامر ليس ميؤوسا منه لتطوير قدرة البلاد على التكيف مع هذا الشرط، الذي لايمكن تجنبه بالسكوت عنه، بل باتباع اجراءات توفّر قدرا من المرونة في المشاريع للتكيف مع المعطيات المناخية السائدة.
ان لدى العراق موارد مالية كافية للاستثمار في مستقبل البلاد ولتحييد الأثر السلبي لظاهرة الاحتباس الحراري على الاقتصاد والمجتمع والموارد الطبيعية وبالخصوص الارض والمياه.
*سفير العراق لدى منظمة الأغذية والزراعة للامم المتحدة (FAO)
عن جريدة الصباح البغدادية 20/1/2013
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية