التخطيط للتنمية

د. عبد علي عوض: التـخـطـيـط وحـالـة الاقتصاد العراقي

لا تزال تستفحل الأزمة المالية الخانقة التي يمر بها العراق، والتي عكسَت آثارها السلبية على كل مناحي الحياة وفي مقدمتها الواقع الاقتصادي. وعندما يعاني اقتصاد البلد من حالة الانهيار التام الذي يؤدي إلى شلل جميع مفاصل الدولة، يأتي هنا الدور الريادي لعملية التخطيط – التنبؤ الذي تستطيع إيقاف ذلك التدهور بوضع الخطط الآنية والمتوسطة وبعيدة المدى، ومتابعتها عن كثب أولاً بأول. لكن، وللأسف الشديد، اقتـُصِرَ نشاط التخطيط المتمثَل بوزارة التخطيط، خلال العقد المنصرم، على إعلان النِسَـب المئوية للسكان الذين هم تحت خط الفقر، مع خط الفقر، البطالة، تكلفة السلة الغذائية … ولَم تُــتّخـَذ إجراءات وقائية وحمائية للاقتصاد العراقي بسبب أحاديته، وخاصةً في فترة ارتفاع أسعار النفط ألتي كان بإمكانها أنْ تجعل الانفاق إنمائياً، بَيدَ أنّ الذي جرى هو ازدياد شراهة الفاسدين لسرقة المال العام، بحيث تكوّنت علاقة طردية بين زيادة الموارد المالية وارتفاع معدلات الفساد.
 
تختلف الجهة المعنية بعملية التنبؤ – التخطيط من بلد إلى آخر، ففي بعض البلدان يوجد جهاز الدولة الأعلى للتخطيط، وفي غيرها تناط مهمة التخطيط بوزارة الاقتصاد، وفي ثالثة وزارة التخطيط “الحالة العراقية”. لذلك، سأكتفي لاحقاً بمصطلح (التخطيط – الاقتصاد).
 
يُمثّل إعداد الخطط – التنبؤات عملية معقدة، تكون فيها العناصر مرتبطة مع بعضها للتنبؤ العلمي لتلك الظاهرة أو غيرها من الظواهر الاقتصاديةالاقتصادية واتخاذ حلول التخطيط. يتحدّد نظام وفترات إعداد الخطط – التنبؤات للتنمية الاقتصادية– الاجتماعية من قِبَلْ الدولة.
إنَّ القاعدة لإعداد الخطط – التنبؤات السنوية، هي عبارة عن: الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية –الاقتصادية للمدى المتوسط؛ برامج وقرارات الرئيس والحكومة ب في تحديد الاتجاهات المهمة للتنمية الاقتصادية. يجري تثبيت الأهداف الرئيسية ومسائل تحوّل الاقتصاد ونموذجه المستقبلي المتشكل في وثائق الاستراتيجية الوطنية.
 
يُمكن تجزئة العمل بوضع الخطة – التنبؤ إلى مجموعة المراحل التالية:
 
المرحلة الأولى – العمل التحليلي، والعلمي – البحثي، والتنظيمي – المنهجي؛
المرحلة الثانية – إعداد تَصوّر التنبؤ للتنمية الاجتماعية – الاقتصادية؛
المرحلة الثالثة – إعداد مشروع الخطة – التنبؤ؛
المرحلة الرابعة – دراسة مشروع الخطة – التنبؤ في مجلس الوزراء واللجان المتخصصة، والمصادقة على مؤشرات التنمية الاجتماعية –الاقتصادية في الاجتماع العام الذي يَضُم السلطات الثلاث – التشريعية والتنفيذية والقضائية.
 
في المرحلة الأولى، يشترط العمل التحليلي إجراء التحليل المركب للعمليات والظواهر الاقتصادية – الاجتماعية، وتقدير الحالة الاجتماعية – الاقتصادية السائدة، وتعيين مستوى التنمية ونتائج إصلاح الاقتصاد. من أجل إجراء العمل التحليلي، تُستخدَم البيانات لمجموعة المراحل السابقة ومعطيات التنفيذ المتوقَع للخطة – التنبؤ الجارية. في عملية التحليل يجري تقييم: الواقع وفاعلية الخطط – التنبؤات السابقة؛ التحوّلات التي تمَّ تنفيذها للمؤسسات الاقتصادية ؛ إتجاهات التنمية وآلية تنظيم القطاعات وفاعليتها؛ ظهور الإنحراف عن المؤشرات التنبؤية للاقتصاد الكلي.
 
إنَّ العمل العلمي – البحثي والتنظيمي المنهجي يتلخص في البحث عن طُرُق التنبؤ المتقدمة، وإعداد أشكال البحث للتنبؤ الخاص بالاقتصاد الكلي، وتكوين المنهجية العلمية للأساليب والتوصيات المنهاجية بالتنبؤ للمؤشرات والنِسَبْ المهمة للاقتصاد. تكون الجهات التنفيذية الرئيسية لهذه المرحلة هي أجهزة الدولة العليا (المركزية) للتخطيط، والمؤسسات العلمية – البحثية وأجهزة الإحصاء الحكومية.
 
في المرحلة الثانية، تقوم وزارة (التخطيط – الاقتصاد) وبالتعاون مع أجهزة الإدارة الأخرى بإعداد تصـوّر التنبؤ للتنمية الاجتماعية – الاقتصادية. في ذلك التصوّر يُعطى التقدير للحالة الاجتماعية – الاقتصادية، وتعيين الأهداف الرئيسية، ويجري تقديم السيناريوهات لتنمية الاقتصاد والاقتراحات لتصحيح السياسة الاقتصادية ونظام التنظيم الحكومي. إنَّ الأساليب التصوّرية المفاهيمية لتحقيق الأهداف تشترط تلك الإتجاهات للتحوّلات الهيكلية، مِثل التوجه نحو أقصى ا استخدام ممكن للقدرات الإنتاجية – الفنية والموارد؛ خلق ودعم وتنمية المشاريع والقطاعات ذات التكنولوجيا العالية؛ تأمين أولويات الدعم الحكومي للقطاعات ذات المردود السريع للأموال التشغيلية؛ تسريع تنمية الإنتاج لغرض التصدير والإستيراد الذي يحتاجه التصنيع المحلي؛ زيادة إنتاج المنتوجات من المواد والخامات المحلية ومعالجتها بصورة أكبر؛ زيادة إنتاج المواد الغذائية عن طريق توسيع صناعة المنتوجات الزراعية ذات القدرة التنافسية العالية؛ تنمية التقنيات عالية الفعّالية والنظيفة بيئياً لإنتاج السلع الغذائية؛ إستخدام الطُرُق الفنية الحديثة لحفظ ونقل ومعالجة وتغليف المنتوجات الزراعية؛ تجديد وتنويع مشاريع المجمّعات الإنشائية لغرض تأمين الحاجة لبناء المساكن وغيرها من أولويات الإتجاهات لتنمية الاقتصاد، وتصدير منتجات وخدمات المجمّعات الإنشائية.
 
إنَّ الحسابات لتصوّرات التنبؤ تحمل طابعاً توجيهياً وتتحقق بَعْدَهُ أشكال الدائرة الضيّقة لمؤشرات الاقتصاد الكلي الضرورية. عند تنفيذ الحسابات، يجري إستخلاص عدة مجموعات للمؤشرات ذات الارتباط المتبادل: الأسعار وسعر صرف العملة؛ مؤشرات مجمل العرض والطلب؛ ميزان المدفوعات؛ مؤشرات المالية والنقد – القروض.
 
إنَّ الحالات الرئيسية لتصوّرات التنبؤ للتنمية الاجتماعية – الاقتصادية، يَتم التبليغ عنها إلى وزارة المالية، البنك المركزي، وزارة العمل، وزارة العلاقات الاقتصادية الخارجية (أو وزارة الاقتصاد / دائرة العلاقات الاقتصادية الخارجية كما هو معمول به في بعض الدول)، لجنة الگمارك الحكومية، وزارة الموارد الطبيعية والبيئة (في بعض البلدان توجَد وزارة خاصة للبيئة)، الأجهزة الإدارية العليا الحكومية والمناطق.
 
المرحلة الثالثة ترتبط بإعداد مشروع الخطة – التنبؤ للسنة المناسبة. تقوم وزارة (التخطيط- الاقتصاد) بإعداد الخطة – التنبؤ إنطلاقاً من الحالات الرئيسية لتصوّرات التنبؤ والمعدلات ومؤشرات التوجه المقدَّمة، وكذلك مقترحات الوزارات وأجهزة الإدارة للأقاليم. تُقدم وزارة المالية البيانات عن الموارد المالية والميزانية التقريبية للدولة، والمقترحات في مجال الضرائب وأدوات التنظيم الأخرى. وتقوم وزارة العمل بإظهار المعدلات الاجتماعية الدقيقة التي تتضمّن الحد الأدنى للميزانية الإستهلاكية والبيانات الضرورية الأخرى. وتوضّح وزارة الموارد الطبيعية والبيئة الحصص لاستخراج الثروات الطبيعية، وتقدم الاقتراحات لإجراءات الحفاظ على الطبيعة والمعدلات البيئية. في هذه المرحلة لتشكيل الخطة – التنبؤ، عندما يَتم الأخذ باقتراحات أجهزة الإدارة العليا الأخرى الحكومية، تُعطى أهمية رئيسية لتوازن المؤشرات. مثلما يتوسع بصورة جوهرية ملموسة تكوين الفصول للخطة – التنبؤ، كذلك تتوسع كمّية المؤشرات المدروسة.
 
في البداية، يتم حساب الدلائل التنبؤية للأسعار (بالمُلخَص وبالمجموعات الرئيسية للسلع)، سعر صرف العملة، مؤشرات الاقتصاد الكلي والنِسَبْ الضرورية، ضبط وتدقيق المعدلات الاجتماعية والبيئية. عند ذلك، تُحدّث حركة البيانات في عملية إجراء الحسابات بالمؤشرات المُثْبَتَة بالإتجاه من المؤشرات الملخَصة الإجمالية إلى المؤشرات الإجمالية – الموارد والإجمالية – الوظائفية، ثُمَّ إلى مؤشرات القطاعات. عند إستلام الإقتراحات من الأجهزة الإدارية الحكومية العليا والمناطق، تكون حركة البيانات بالإتجاه المعاكس، يعني، من القطاعات إلى الإجمالية – الموارد والإجمالية الوظائفية وبالتالي إلى المؤشرات الإجمالية للاقتصاد الوطني. يتحقق توافق المؤشرات عن طريق التكرار لعدة مرات.
 
من خلال وزارة الاقتصاد، تتعيّن تلك المؤشرات، مثل الناتج المحلي الإجمالي (ن م ج) وهيكليته، الدلائل التنبؤية للأسعار، مجموعة المؤشرات الأخرى ألتي تُعتبَر الأساس لإعداد موازنة الدولة والإتجاهات الرئيسية للسياسة النقدية – القروض. في خلال عملية إعداد وتدقيق التنبؤ، يُنجَز تصحيح المقاييس الاقتصادية المناسبة المُستخدَمة من قِبَلْ وزارة المالية والبنك المركزي في الوثائق المُعَدّة من قبلهما. تقوم أجهزة السلطة التنفيذية العليا وأصحاب الطلبيات الحكومية بتعيين حجم التمويل لإنجاز برامج الحكومة لشراء المنتوجات من أجل الحاجات الحكومية، وتقديم مشاريع الطلبيات إلى وزارة (التخطيط – الاقتصاد) ووزارة المالية.
 
من الممكن أن تتواجد طريقتان لتقدير وإثبات المؤشرات الاقتصادية. في الطريقة الأولى، تُستخدَم الحسابات التنبؤية – التحليلية، ويتحقق تصحيح المؤشرات فقط مع الأخذ بنظر الإعتبار نيَة الكيانات الاقتصادية. تضمن هذه الطريقة للمنتجين تعيين تنميتهم الاجتماعية – الاقتصادية مع الأخذ في الحسبان الظروف الاقتصادية المُعيَّنة مُسبقاً. في هذه الحالة، تقوم الحاجة إلى التحليل العميق والتنبؤ الصحيح والموثوق به لتنمية الاقتصاد الوطني. الطريقة الثانية تستند على مؤشرات نية وعزم الكيانات الاقتصادية. تُستخدَم الطريقة الأولى على الأغلب في مرحلة التحضير لتصوّرات التنبؤ السنوي، وأما الثانية فإنها تُستخدَم لتشكيل الشكل الموسَّع والمفصّل للخطة – التنبؤ.
إنَّ الأساس القانوني لإعداد الخطط – التنبؤ، هو عبارة عن المَحاضِر (الوثائق) التشريعية والمعيارية. تحتوي تلك المَحاضِر على الشكل التخطيطي المبدئي والتنظيم لإعداد نظام التنبؤات والبرامج الحكومية للتنمية الاقتصادية – الاجتماعية للبلد.
 
في المرحلة الرابعة، يَتُم تقديم الخطة – التنبؤ للتنمية الاجتماعية – الاقتصادية المُنجَزَة من قِبَل وزارة الاقتصاد إلى مجلس الوزراء للنظر بها، وبعد مناقشتها وتدقيق المقاييس المنفصلة، تُرسَل إلى رئاسة الدولة لتفحّصها. في ذات الوقت يجري النظر بموازنة الدولة والإتجاهات الرئيسية للسياسة النقدية – القروض. تشارك في عملية إتمام الوثائق المنجَزَة عن طريق مجموعة التكرار، وزارة (التخطيط – الاقتصاد)، وزارة المالية، البنك المركزي وأجهزة إدارة الدولة العليا والمناطق. يتحقق الإثبات والربط بين مؤشرات الخطة – التنبؤ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية على أساس النظام الموجود للحسابات التنبؤية – التحليلية، الذي يتضمّن التعاقب والإرتباط المتبادل بين أقسام وزارة الاقتصاد والأجهزة الأخرى للإدارة.
 
بعد تدقيق المؤشرات المنفصلة، تتم المصادقة على الموازنة العامة، وعلى الخطة – التنبؤ للتنمية الاقتصادية – الاجتماعية للبلد وللسنة المناسبة. لغرض تأمين التنفيذ للخطة – التنبؤ والموازنة، يقوم مجلس الوزراء وأجهزة الإدارة الأخرى بتنفيذ الرقابة والإجراءات المناسبة.
 
من خلال ما ذكرته آنفاً، هل أخذت وزارة التخطيط العراقية الدور المناط بها، وقامت بتطبيق ولو جزء مما أشرتُ إليه!؟ والمفارقة، إنّ الحديث يدور حول الاقتصاد العراقي وما يتعلق به، لكن لا توجد وزارة تُعنى به، وأعني تحديداً وزارة الاقتصاد!
(*) باحث اقتصادي عراقي
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 10 تشرين الأول 2015
الاراء الواردة في كل المواد المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة رأي هيئة التحرير وانما رأي كاتبها وهو الذي يتحمل المسرولية القانونية والعلمية
 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    سلمان محسن الوائلي:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    لم يتطرق الباحث الفاضل الدكتور اعبدعلى عوض الى الفلسفة الإقتصادية للدولة لتكون مرشدا للتخطيط لأن عملية التخطيط لاتتم الآَ من خلال القوانين والتشريعات السياسية والإقتصادية ولابد من توفراحصاءات دقيقة وشاملة لكافة جوانب الحياة الإقتصادية والإجتماعية ومن اهمها احصاءات السكان وما توفره من بيانات عن القوى العاملة وغيرها من البيانات الديمغرافية .
    وهل يمكن اعداد خطط للتنمية الشاملة والمستدامة من قبل القطاع الخاص او من قبل ما يسمى بالهيئة الوطنية للإستثمار؟
    اعتقد ان الموضوع ليس مسألة تعاون واتفاقات بين الحكومة والسلطة التشريعية والبنك المركزي واصلاحات هنا وهناك
    انما هو لابد من تحول 180 درجة من اقتصاد سائب في غير مصلحة الشعب الى اقتصاد موجه للحفاظ على ثروة العراق والعمل على تقدم العراق ورفع مستوى الشعب وتحقيق العدالة والرفاة والحرية وكل مايقال غير هذا هو تلاعب بالألفاظ من اجل ان يبقى العراقيين في دوامة العنف والفقر.

اترك رداً على سلمان محسن الوائلي إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: