أبحاث نظرية في الفكر والتاريخ الإقتصاديالمكتبة الاقتصادية

قراءتان لكتاب ديفيد گرايبر الديون: أول 5000 سنة – ترجمة: مصباح كمال

]لتنزيل نسخة بي دي أف سهلة الطباعة انقر هنا
David Graeber, Debt: The First 5,000 Years
Melville House Publishing, 2011, 544 pages. $32.00
دور الديون في التاريخ
كاتب العرض: بول هايديمان
Debt’s role in history
Review by Paul Heideman
International Socialist Review, Issue #84: Reviews
http://isreview.org/issue/84/debts-role-history
مع اكتساب موضوع الديون أهمية متزايدة في السياسة الأميركية في الأعوام الأخيرة، بدءً من أزمة الرهن العقاري إلى الانتقادات العنيفة لحزب الشاي حول سياسة الاقتراض الحكومي، برزت ميزة غريبة في المناقشات: لقد أصبحت الديون في السياسة الأميركية قضية أخلاقية بشكل مكثف. فالتفسيرات اليمينية لأزمة السكن تركز على “استهتار “المقترضين “، في حين يجري التنديد بالتدابير الكينزية الخجولة جداً بالقول إن “الحكومة تعيش خارج إمكانياتها” (وهو اتهام غريب إذ لا أحد يفكر أبداً في شجب الاقتراض المحموم للشركات بأنها فاشلة “في العيش في حدود إمكانياتها”). ترى لماذا أصبحت الديون، وهي حقيقة اقتصادية قائمة على ما يبدو، موضوعاً أخلاقيا مشحوناً بالعواطف؟
كتاب ديفيد گرايبر الديون: أول 5000 سنة يحاول الإجابة على هذا السؤال من خلال دراسة بانورامية لدور الدين في المجتمع البشري. گرابير، المتخصص في الأنثروبولوجيا لكنه أكثر شهرة بفضل مساهماته في النظرية الفوضوية، يقدم لنا نظرة عن الديون وكيف تعمل، تمتد عبر القارات وآلاف السنين. في بلد اتجه فيه المثقفون اليساريون، منذ عقود، صوب القبول بصنمية fetishized السياسة الصغيرة micro-politics، وما هو مختلف difference، ومحلي، فإن الطموح الذي ينتظم هذا الكتاب في هذه الأجواء هو نسمة من الهواء المنعش. إن گرايبر يحاول تحقيق مهمة هائلة في كتابه، ويجب أن يلقى إنجازه شكر جميع اليساريين.
يبدأ گرايبر ببحث الرواية التقليدية التي يرويها الاقتصاديون عن المصدر الذي تنشأ منه الديون. تقول هذه الرواية أنه فيما مضى، تبادل الناس البضائع مباشرة مع بعضها البعض. كان جو يصنع الأحذية ويريد الذرة، في حين أن جين كانت تزرع الذرة وتحتاج إلى أحذية. في نهاية المطاف، توصل الناس إلى أن سلعة وسيطة من شأنها تبسيط العملية بحيث يمكن للمرء الاستمرار في المتاجرة مع الناس الذين لا يبيعون البضاعة المحددة المطلوبة. وهكذا تمَّ اختراع النقود. وأخيراً، تم اختراع الديون والائتمان كوسيلة لزيادة تسهيل الامور، كي يتمكن الناس من شراء الأشياء التي ليس لديهم النقد المطلوب لشرائها.
المشكلة الوحيدة في هذه الرواية، كما يوضح گرايبر بقوة، هي أنها لا تضم ذرة من الحقيقة. فبعد أكثر من قرن من البحث الأنثروبولوجي، لم يجد أحدٌ أبداً مجتمعاً تقوم حياته الاقتصادية الداخلية على المقايضة، ناهيك عن وجود اقتصاد مقايضة تطورت النقود عنه. والسؤال هنا هو: من أين جاءت النقود؟ أقرب الأمثلة على ما يبدو موجودة في دفاتر المحاسبة في مجمعات المعابد الكبيرة في بلاد ما بين النهرين Mesopotamia القديمة. فهنا تم استخدام الفضة كوحدة مشتركة للحساب لمقارنة الماعز والشعير وغيرها من ضروريات الحياة. ومع ذلك، وخلافاً للحكاية الخرافية للاقتصاديين، فإن القطع النقدية الفضية لم تكن موضوعاً للتداول في الواقع إلى جانب هذه العناصر. بدلاً من ذلك، فإن الفضة استخدمت كوحدة حساب للديون، كالضرائب المستحقة على الفلاحين. إن الاقتصاديين عرضوا الحكاية معكوسة تماماً: فالدين جاء أولاً.
يقول گرايبر إن الحالة الموصوفة أعلاه، حيث يكون الدين هو أساس الحياة الاقتصادية، ولا تعدو النقود إلا وسيلة لتتبع كل ذلك [الدين]، استمرت لفترة طويلة من تاريخ البشرية المبكر، من حوالي 3500 قبل الميلاد إلى حوالي 800 قبل الميلاد. ثم جاء ما يسميه “العصر المحوري” “the Axial Age”، والذي بدأ فيه تداول النقود بالطريقة التي نعرفها اليوم. وبالنسبة لگرايبر، فإن هذا التحول ظهر قبل كل شيء نتيجة لتصرفات الحكومات. وفي حين يبدو أن سك العملة coinage قد ظهر لأول مرة نتيجة لأعمال التجار من القطاع الخاص، فإن التحول إلى العملة المتداولة بشكل كامل جاء نتيجة لسعي الإمبراطوريات إلى تجهيز الجيوش. وبدلاً من محاولة تنسيق الكم الهائل من الموارد اللازمة لتجهيز جيش امبراطوري، فإن إمبراطوريات ذاك العصر ابتدعت طريقة مختصرة بارعة: يدفعون للجنود (الذين كانوا في كثير من الأحيان مرتزقة على أي حال) عملة مسكوكة ومن ثم تفرض على رعاياها تسديد الضرائب بذلك العملة نفسها. وبهذه الطريقة، كان رعايا الإمبراطورية يُجبرون للحصول على العملة من خلال توجيه نشاطهم الاقتصادي نحو توفير التجهيزات للجنود، وأصبح النقد ما يسميه ماركس “وسيلة للدفع.” “the medium of payment”
هذا التاريخ يجعل من وجود التعارض الشائع بين الأسواق والحكومات كلاماً فارغاً. فبعيدا عن “الميل إلى التبادل، والمقايضة والتجارة” وكأنه أمر طبيعي، كما ذكر آدم سميث في مقولته الشهيرة، فإن الأسواق الحديثة استحدثتها الدول الإمبراطورية التي كانت تسعى إلى تنظيم أفضل للنهب. في الواقع، إن الموضوع الرئيسي لكتاب گرايبر هو أن الأسواق عموماً قد خلقتها الدول، وبدون الدول فإن الأسواق تميل نحو التوقف عن السلوك كأسواق. وهو يوضح هذه النقطة من خلال دراسة الأسواق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى في الشرق الأوسط. فهنا، في حالة فريدة من نوعها تقريباً في كل التاريخ، نجد في الواقع شيئاً قريباً من “السوق الحرة” المثالية التي ترد في أحلام المحافظين. فقد اتخذت الدولة إلى حد كبير نهج عدم التدخل hands-off approach في الأسواق، رافضة تنفيذ العقود عن طريق الإكراه. وخلافاً لمعظم الحالات التي تشهد وجود أسواق واسعة، كان الناس الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على دفع الديون بأنهم لم يكونوا يتعرضون لمصادرة ممتلكاتهم أو إدخالهم إلى السجون. وبما أنه لم يكن هناك دعم من الدولة للصفقات التجارية، فإن الأعمال كانت تميل إلى أن تجرى كلياً على أساس الثقة والشرفtrust and honor، وهي كلمات لا تجد إلا قليلاً من الرواج في الفكر الاقتصادي لگولدمان ساكس وشركة إنرون. في حين أن المفكرين الاقتصاديين الإسلامين وضعوا قيمة عالية على التعاون المتبادل الذي كان يُنظر من خلاله للأسواق باعتبارها إطار مؤسسي. وعلى الرغم من أنهم أدركوا أن المنافسة كانت سمة من سمات الأسواق، فإنهم لم يعتبروها ذات قيمة مركزية كما هو السائد لدى المنظرين الاقتصاديين البرجوازيين.
على الرغم من أن گرايبر لا يوسع حجته هنا، إلا أن دراسته للأسواق الإسلامية في القرون الوسطى توضح أحد الركائز الأساسية للاقتصاد السياسي الماركسي. وبينما يؤكد المدافعون عن رأس المال أن المؤسسات والأفكار مثل حقوق الملكية الخاصة هي المسؤولة عن الدينامية التكنولوجية للرأسمالية، يقول الماركسيون أن ما يحرك التراكم هو في الواقع استغلال الطبقة العاملة. ولكي يمضي هذا الاستغلال قُدماً، يجب أن يكون العمال “أحراراً على نحو مضاعف،” كما قال ماركس: أحرار في بيع قوة عملهم لمن يختارونهم، وأحرار من أي ممتلكات خاصة بهم يستطيعون العيش منها دون الحاجة إلى بيع أنفسهم في السوق. إن هذه الحرية الثانية للعمال قد تحقق من خلال عملية “التراكم الأولي،” انتزاع ملكية الفلاحين بالقوة في جميع أنحاء العالم. وهكذا، فإن نمو الرأسمالية لا يعتمد على حماية حقوق الملكية، ولكن بدلاً من ذلك إقصاء هذه الحقوق عن الطبقة العاملة. إن حالة المجتمعات الإسلامية مع أسواقها المتطورة ومفاهيم الملكية الخاصة، ولكن دون ما يماثل النمو الاقتصادي المتفجر الرأسمالية، توضح هذه النقطة جيداً.
على الرغم من أن كتاب الديون هو كتابٌ مفيدٌ جداً للاشتراكيين، فإن الإطار التحليلي لگرايبر يختلف تماماً عن ما هو مألوف لدى الماركسيين. فالمفاهيم من نمط أساليب الإنتاج، وقوى الإنتاج، وحتى الاستغلال ليس لها دور تقريباً في الكتاب. بدلاً من ذلك، فإن گرايبر يطور مفرداته المفاهيمية الخاصة. وكما ألمحنا إليها أعلاه، فإن رؤيته للتاريخ لا تعتمد على الطرق المختلفة لتنظيم الإنتاج، كما هو الحال في الفهم الماركسي للإقطاع، والمجتمع العبودي، والرأسمالية، وإنما على تصنيف كيف كانت المجتمعات تستخدم الديون. يصف گرايبر تذبذباً تاريخياً بين ما يسميه “مجتمعات الائتمان الافتراضية،” “virtual credit societies” حيث لا يوجد هناك عملياً أي عملة متداولة coinage in circulation وتستند معظم المعاملات الاقتصادية على الائتمان من مختلف الأنواع، ومجتمعات قائمة على السبائك societies based on bullion، حيث يجري تداول العملة. وهكذا يصف الانتقال من الإمبراطوريات الزراعية الكبيرة (3500-800 قبل الميلاد) إلى العصر المحوري Axial Age وبروز تداول النقود (800-BC-600 م) إلى العصور الوسطى (600-1450 م) إلى الإمبراطوريات الرأسمالية الكبيرة للعصر الحديث.
يقول گرايبر بغية فهم الأدوار المختلفة التي يلعبها الدين في المجتمع، علينا أن نفهم الأسس الأخلاقية المختلفة للعلاقات الاقتصادية. ويقول إن تحليلنا يجب أن يبدأ “مع الأشياء الصغيرة جداً: تفاصيل الحياة اليومية للوجود الاجتماعي، والطريقة التي نتعامل بها مع أصدقائنا، وأعداءنا، والأطفال.” واعتماداً على ذلك يطور ثلاثة مبادئ أخلاقية مختلفة والتي يمكن أن يقوم عليها النشاط الاقتصادي: الشيوعية، والتبادل، والتسلسل الهرميcommunism, exchange, and hierarchy. يقول گرايبر إن الشيوعية هي ليست، كما يُعتقد عموماً بأنه نوع من أنواع ترتيب الممتلكات يتم بموجبها امتلاك وإدارة الأصول الإنتاجية بشكل جماعي، وإنما أي نوع من أنواع التفاعل الإنساني يقوم على أساس مبدأ “من كل حسب قدراته، لكل وفق حاجته.” ويلاحظ أن قدْراً كبيراً من النشاط الإنساني يقوم بالفعل وفقا لهذه القواعد. أطلُبْ من رأسمالي ولاعة لإشعال سيجارتك فإنه، حتى لو كان لويد بلانكفين، فإنه (على الأرجح) لن يطلب ثمناً له. وبالمثل، فإن شخصاً يغرق يصرخ طلباً للمساعدة لن يُسأل من الأشخاص الذين يسعون لإنقاذه “كم؟” [ما هو ثمن الإنقاذ] إن التبادل هو الأسلوب الذي يقرنه معظم الناس بالسلوك الاقتصادي اليوم، فعندما يتم التبادل الطوعي بين شخصين، فإن كلاهما يمكن أن يختار عدم المشاركة به وكلاهما يمكن أن يمضي بعيداً في أقرب وقت بعد الانتهاء من التبادل. التسلسل الهرمي هو تبادل يقوم على أساس عدم مساواة صريحة، كمصادرة البضائع من قبل إقطاعي، أو دعم راع ثري لفنان في عصر النهضة في إيطاليا.
على الرغم من أن هذا التصنيف لأنواع مختلفة من العلاقات الاقتصادية يضم بعض المزايا – فهو بمثابة نقض لفكرة أن الشيوعية منافية للطبيعة البشرية، ويجعل من فكرة اقتصاديّ السوق الحرة أن كل واحد يعمل على تحقيق اقصى الربح لمصلحته هراءً – إلا أن فيه بعض نقاط الضعف أيضاً. على أبسط المستويات، فإن گرايبر يهتم في المقام الأول بمجال التبادل الاقتصادي، وليس ما اسماه ماركس “الدار الخفية” للإنتاج “the hidden abode”. فقد قال ماركس انه في حين يظهر التبادل والتداول على أنهما أهم مجالات النشاط الاقتصادي، لكن كيف ينتج البشر ضروريات الحياة في الواقع هو العامل الأساس في تحديد بنية المجتمع.
إن نهج گرايبر يفتقد هذا الدور الحاسم للبنى الاجتماعية في تحديد الأفعال الفردية. بينما هو على صواب بالتأكيد حين يجادل أنه حتى داخل شركة رأسمالية فإن العمال يسيرون وفق مبادئ شيوعية عندما يسأل أحد العمال زميلاً له لتمرير مِفك، فإن نهجه لا يبدو قادراً على توفير أي إجابات للسؤال: لماذا يكون مقبولاً للتفاعل أن يسير وفق أسس شيوعية هنا، ولكن ليس في اتخاذ القرارات بشأن تشغيل المصنع نفسه. للإجابة على هذا السؤال، يحتاج المرء إلى الحديث عن بنى مثل السوق الرأسمالي حيث يتوجب على طبقة من أرباب العمل (بنية اجتماعية أخرى) أن تنتج أكثر ما هو ممكن من الأرباح أو أن تُطرد من السوق من قبل منافسيها، وهي عملية تعتمد على استغلال طبقة من العمال الذين من الواضح أنهم يختارون عدم استغلالهم إن كان لديهم أي رأي في هذه المسألة. ورغم أن گرايبر يُدخل البنى الاجتماعية في بعض النقاط ويمنحها دوراً تفسيرياً، كما هو الحال عندما يصف كيف أنه في كثير من الأحيان يضطر المدينين لمشاهدة العالم فقط من خلال عدسة ما يمكن صنعه ليكون مفيداً لدفع ديونهم (وهو ما اعتمده گرايبر في تفسير الدمار الذي أنزله الغزاة بالأميركتين)، فإن تعليله لا يقرب في دقته من التعليل الماركسي في تفسير لماذا لا يستطيع الناس ببساطة اختيار الانسحاب من الرأسمالية.
والأكثر إشكالية، ان الحد الأدنى من استخدام البنى الاجتماعية كمفاهيم تفسيرية يترك گرايبر غير قادرٍ على تنظير دورالوسطاء [حاملي مشروع التغيير] القادرين على الإطاحة بالنظام الذي وصفه. إن التعليل الماركسي يقول بما أن استغلال العمال هو القوة المحركة للرأسمالية، وبما أن العمال لا يمكن ببساطة أن يُقسّموا مصنعاً مثلما يقسّم الفلاحين حقلاً لزراعته فيما بينهم كل على حدة، فإن كلاهما لديهما القدرة والمصلحة لإنهاء الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي. على النقيض من ذلك، فإن تعليل گرايبر للرأسمالية لا يشير إلى أي واسطة خاصة من هذا القبيل، والواقع، انه يميل إلى النظر إلى الرأسمالية على أنها ليست إلا حالة أخرى من حالات الجمع بين الشيوعية والتبادل، والتسلسل الهرمي، والتي استمرت لآلاف السنين. ونحن نرى المشاكل التي يخلقها هذا المنظور في نهاية الكتاب، حيث يشير إلى أن إعفاءً عاماً debt forgiveness من الديون يمكن أن يكون بمثابة توجه استراتيجي مفيد. ورغم أن مثل هذا العفو سيكون بلا شك مرغوباً، فإن حذف گرايبر للبنى الاجتماعية في تعليله يعني أنه ساكت بشأن القوى البنيوية التي ستعارض بشدة أي إجراء من هذا القبيل، وكذلك الهيئات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك. وفي حين أن گرايبر صريح بأن أجندته تدور أكثر حول التحليل بدلاً من الاستراتيجية في كتاب الديون، فإن عرض هدفٍ استراتيجي دون أي تحليلٍ للاستراتيجيات اللازمة لتحقيق ذلك ليست مفيدة بشكل خاص. في إطار جدل يجعل هذا النوع من التحليل صعباً للغاية، فإن أثره يمتد ليغرقنا بصراحة في التوَهان.
من حيث البحث عن أساس للتفكير في استراتيجية سياسية، إذن، فإن كتاب گرايبر يهمل الكثير لما هو مرغوب به. ولكن مؤلفه التاريخي في إزالة الغموض عن الأسواق هو مع ذلك ذا قيمة عالية، مثلما هو سرده للنطاق الكبير للطرق التي تم بموجبها إجراء وترتيب الديون والحياة الاقتصادية في المجتمع البشري. إن هذه الحجج ستثبت بالتأكيد فائدتها لأولئك من أمثالنا الذين يسعون لتحقيق مجتمع لا تكون فيه التزاماتنا تجاه بعضنا البعض محكومة بما يقرره المصرفيون وأصحاب المليارات.
كاتبة العرض: د. هولي هاي
David Graeber, Debt: The First 5,000 Years. New York: Melville House Publishing, pp. 224, 2011.
Holly High, University of Cambridge and University of Sydney
Cambridge Anthropology 30(1), Spring 2012: 152–153
© Cambridge Anthropology
نشر في موقع:
https://www.academia.edu/2546594/Review_of_David_Graebers_Debt_The_first_5_000_years_
تقوم خطة ديفيد گرايبر على شرح سبب لماذا انتهينا إلى نوع غريب من الانشطار: أفكار تتمحور حول “المصلحة الذاتية” و “دافع الربح” التي تستخدم الآن لشرح كل شيء تقريباً، ولكننا ندرك أيضاً ونرى أنفسنا في الواقع مشبوكين في علاقات أكثر تعقيداً بكثير من تلك العلاقات المنتشرة التي تدور حول الأخذ والعطاء. يقول گرايبر بأن الناس، عندما يواجهون هذا التناقض الواضح، فإنهم يستخدمون فكرة “الدين” لشرح العلاقات الأخلاقية. ويقوم بمناقشة أفكار من نمط ‘الدين للمجتمع،” ودين المرء للأم، وأفكار تتعلق بالدين الأصلي إلى الكون، كأمثلة على كيف أن الناس يميلون دورياً إلى التفكير في التشابكات المعنوية في إطار “الدين.” ولكنه، كما يقول، فإن هذا النوع من التفكير هو هراء، فهذه التزامات لا يمكن تسديدها، لذلك فهي ليست في الواقع ديوناً: كيف يمكن للمرء حقاً في الواقع سداد دين إلى الكون، أو إلى الأم؟ إن فكرة الدين هذه فيها غطرسة، فهي تفترض أن لدى المرء شيء ذا قيمة متساوية يسددها كمقابل. وعلى أي حال، فإن سداد مثل هذه الديون سيكون حقاً بغيضاً، لأن ذلك يعني نهاية العلاقة، في حين أن ما يبدو أن الناس يعنون عند استخدامهم لهذه الاستعارات هو مشاركة مستمرة ومفروضة عليهم.
يقول گرايبر إن هذه الأنواع من اللخبطة الأخلاقية هي نتيجة لمسار تاريخي، ففي ظل ظروف العنف، بدأنا ننظر إلى جميع العلاقات كما لو أنها تستند، في الواقع أو على نحوٍ مثاليٍ، على إمكانية التعادل possibility of equivalence. وبدءً من “العصر المحوري”، أخذ العنف القائم على المرتزقة وعلى نحو متزايد يُدخل في دائرته الدول والأسواق الناشئة، وينتج أول “الفلسفات المادية ” النخبوية التي طرحت الرأي القائل بأن العلاقات الإنسانية هي عبارة عن سلسلة من المعاملات الرياضية في خدمة الكسب [الربح]. وحتى الحركات الفكرية والاجتماعية التي تصدت لهذا الرأي كانت تميل إلى تأطير المعارضة الأخلاقية في استعارات مأخوذة من السوق، بما في ذلك تلك الصورة الواسعة الانتشار للدَيْن الأصلي الذي ندين به لبعضنا إلى ما لا نهاية. وبالتالي انتهى بنا الوضع إما إلى “الجشع النقي” أو “الكرم الخالص” (ص 249)، وكلاهما تشكلَّ في لغة التبادل بين ما هو متعادل.
يقول گرايبر أنه أكثر منطقية أن ننظر إلى بعضنا البعض ككيانات فريدة من نوعها، كل واحد منا متشابك في سياقات معينة، كل واحد منا أسمى قيمة ومن المستحيل استبداله، ومشاركاً في علاقات منتشرة تحت اسماء مصقولة مثل “الشيوعية” و”الحب.” ويقول گرايبر انه عندما انهارت إمبراطوريات العصر المحوري في العصور الوسطى أعيد التأكيد على هذا النوع من المنطق: مثال ذلك، أسواق التجار الإسلامية، التي استندت على السمعة الشخصية والعلاقات، وكانت تعتمد على الشرف والاحترام والنزاهة. في حين أن عصر الإمبراطوريات الرأسمالية الكبيرة، من ناحية أخرى، كان عصر العنف الجماعي. إنه العنف، كما يجادل گرايبر، الذي يسمح ويضمن منطق المُعادِلات equivalences الذي يدعم الآن الأسواق كما نعرفها.
إن بعض الصفحات الأكثر إثارة في هذا الكتاب هي في نهايته (ص. 376-391). هذا كتاب ضخم لا يمكن تلخيصه حتى من قبل المؤلف، لكنه يلخص آماله في كتابته. وبدلاً من أن يكون تاريخاً للديون، فإن هذا الكتاب هو دراسة عن الحاضر والآفاق المستقبلية البديلة والمحتملة. فهو يقول بأن الأزمة التي تواجهنا هنا والآن هي فشل القدرة على التخيل. فالآفاق المستقبلية التي يمكن أن نتخيلها كارثية. وفي إطار “هيمنة المال financialisation على الحياة اليومية” فإننا نميل الى التفكير في أنفسنا إما كمصرفيين قساة ماكرين، أو مدينين مكسوري الجناح (ص. 376-377). ومع هذا العدد الكبير غير القادر على سداد الديون (وحتى من قبل البنوك والشركات الكبيرة والدول)، فإن دفع الديون صار رمزاً للشرف في حين أن تكون مديناً صار أمراً غير أخلاقي على ما يبدو. وكأن الموقف الأخلاقي الوحيد الممكن هو الوفاء التام لكل شيء للجميع، وعدم المديونية بأي شيء لأحد. في الواقع، يطرح گرايبر موقفاً وهو أن تشابك الناس مع بعضهم البعض هو أساس السلوك الاجتماعي sociality. أن يُقبلَ بهذا وتسميته “دين”، ومن ثم تجريم ذلك وإدانته موقف غير أخلاقي كما هي النتيجة النهائية لآلاف السنين من العنف. ومع هذا فإن گرايبر يصرّ على أن هذا الرأي يقترب من نهايته: إن النظام الاقتصادي الذي نجم عنه هو في أزمة مستمرة.
إن الغرض من رحلة گرايبر عبر خمسة آلاف سنة من التاريخ وعشرات الحضارات والتقاليد الثقافية هو استخدام التاريخ والأنثروبولوجيا لإيجاد كوة تمكننا من خلالها إمرار خيط من الشك بحيث يصبح من الممكن التفكير بشكل مختلف. وبحلول نهاية الكتاب يقول گرايبر إن “النقود ليس ما يفوق الوصف، وأن سداد المرء لديون عليه ليس هو جوهر الأخلاق، وأن كل هذه الأمور هي ترتيبات من صنع الإنسان، وأنه إذا كانت الديمقراطية تعني شيئاً، فإنها تعني قدرة الجميع للاتفاق على ترتيب الأمور بطريقة مختلفة.” (ص 390). وبالنسبة لگرايبر، على ما يبدو، فإن الغرض من الفكر الأكاديمي هو تعزيز هذا النوع من الخيال الضروري لقيام هذه المناقشة.
(*) ديفيد گرايبر، عالم أنثروبولوجي أمريكي وناشط فوضوي. استاذ الأنثروبولوجيا في مدرسة لندن للاقتصاد، جامعة لندن. للمزيد من المعلومات عن نشاطه وأفكاره وموقعه الأكاديمي، راجع: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة:
https://en.wikipedia.org/wiki/David_Graeber (المترجم)
(**) باحث وكاتب عراقي
الهوامش

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. farouk younis
    farouk younis:

    اولا الترجمة
    Micro Politics
    ترجمت السياسة الصغيرة وربما الاصح السياسة الجزئية
    The Mediem of Payment
    ترجمت وسيلة للدفع والاصح وسيط للمدفوعات
    ثانيا – المقايضة سبقت النقود ثم ظهر الائتمان والصيرفة فى العراق القديم
    ثالثا – طبعا فى نظام المقايضة تظهر مشكلة الديون لتعذر التجزئة
    مع التقدير

اترك رداً على farouk younis إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: