خواطر إقتصاديةقضايا محاربة الفساد والحوكمة الرشيدة

د. طارق الهيمص: هواجس حول حكومة التكنوقراط المقترحة وامكانيات نجاحها في العراق

الزملاء الأعزاء أردت مشاركتكم الهواجس التالية:
وبداية وكما قد تتذكرون فان السنوات الماضية قد زخرت بالاقتراحات لتشكيل حكومة تكنوقراط يمكن ان تساهم في إنقاذ البلد من أزمة الحكم المستعصية وما صاحبها من ثالوث الطائفية  والمحاصصة والفساد، وما أسفر عنه من كوارث. ومؤخرآ لاحت بوادر النصر عندما تبنى هذا المطلب الكثير من النخب السياسية والدينية، وتوّج بخطاب رئيس الوزراء يوم الخميس الماضي حيث شهر عاليآ المظروف الأبيض الذي يحتوي على اسماء الوزراء التكنوقراط المقترحة والسرية للغاية. سرية الى درجة ان قناة العراقية الحكومية كانت تدرج ما تسرب من اسماء تحت فيديو الرئيس وهو يخطب، إمعانآ بالشفافية! ومن ثم دقت طبول التصريحات والاتهامات ووالتهديدات بين المِلل والنِحل كالمعتاد ..
كل ذلك ولم يكن هنالك من يشرح للملايين من الناس ماهي التكنوقراطية، هذه الكلمة الغريبة التي سوف تحل مشاكل الحكم، ومن هم هؤلاء التكنوقراط الذين تعقد عليهم ألآمال ولم يذكر عنهم غير تلك الاوصاف العمومية كالمستقلين والاختصاصيين، الذين لو اكتفينا بهذه الأسماء لما احتجنا لطلسم التكنوقراط. هذا في حين لا يتطلب معرفة كل ما يتطلب عن التكنوقراطية والتكنوقراط غير لمسة لهذه الكلمات في موقع الجوجل في شبكة الانترنت. هذا الذي حاولته لجهلي بالكثير مما يتعلق بهذه الكلمات واصلها، وجذور مفهوم التكنوقراطية، وتاريخ الحركات المطالبة بها، وتجارب الدول التي حاولت تطبيق نمط الحكومات التكنوقراطية، وفي ضوء كل ذلك هل من الممكن، وما هو اهم هل من المجدي، تطبيق مثل هذا النمط من الحكم في بلد مثل العراق.
ان أصل كلمة التكنوقراطية يرجع، كما هو متوقع، الى الجذور الإغريقية وتعني المهارة، والتكنوقراط هم من ذوي المهارة، ويرجع هذا المفهوم كما يذكر المؤرخون الى القرن التاسع عشر وما صوره المفكر الفرنسي هنري سانتسيمون  عن مجتمع صناعي جديد تقوده نخبة من المؤهلين الإداريين والعلماء، واعتبره فيما بعد الكثيرون ملهما لأفكارهم ومنهم كارل ماركس وفردرك أنجلس. وفي أوائل القرن الماضي يُذكر العالم الروسي ألكسندر بوجدانوف ضمن هذه المدرسة. وعلى هذا الامتداد على ارض الواقع هنالك من يصف حكومات الاتحاد السوفياتي بالتكنوقراطية، حيث وصل عدد المهندسين في المكتب السياسي الحاكم الى حوالي التسعين في المائة في بعض الفترات، وكذلك الحال في الحزب الحاكم في الصين.. ولا ادري ان كان علماء الدين في العراق ممن تحمسوا لحكومة التكنوقراط يعلمون بهذه الجذور والعياذ بالله!
إلا ان هنالك صورة اخرى في الغرب حيث كان اول من اطلق تسمية التكنوقراطية هو مهندس من كالفورنيا في سنة ١٩١٩، وكان المقصود بها حكم الشعب عن طريق العلماء والمهندسين، وتشكلت حركة بهذا الاتجاه في الثلاثينيات وانتشرت في ظروف الأزمة الاقتصادية الكبرى آنذاك، وكان من يؤمن بان التكنولوجيا سوف تؤدي في النهاية الى الاشتراكية والقضاء على البطالة والمديونية. إلا ان هذه الموجة انحسرت بعد التقدم الذي احرزه الرئيس روزفلت في تخطي الأزمة مع ان ذيول التكنوقراطية استمرت بعد الحرب العالمية الثانية حيث انتظمت مجموعات في أمريكا تبنت رموزآ محددة وزيآ موحد يمتاز بالبدلة الرمادية والرباط الأزرق، وسيّرت موكبآ من مئات السيارات في غرب البلاد الى اخوانهم في كندا! سوابق مفيدة للتكنوقراط!
ان انتشار حركات التكنوقراطية في فترة الأزمة الاقتصادية الكبرى تدل على ظاهرة جوهرية غاية في الأهمية أكدتها
ما شهدناه من تجارب خلال الماضي القريب التي اثبتت ان اللجؤ الى شكل من أشكال حكومات التكنوقراط تظهر في الأزمات الخطيرة التي تواجهها الدول والتي تعجز السلطات السياسية التقليدية عن معالجته. ويذكر عن العديد من  حكومات التكنوقراط في أوربا ولكن معضمها كانت حكومات تصريف اعمال عدا ما جرى في إيطاليا واليونان في السنوات القلائل من أزمات مالية عسيرة خاصة بسبب عدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الاتحاد الأوربي واليورو. وإذا أردنا ان نهتدي بتجربة قريبة من المنطقة فقد يشار الى ما جرى في تونس التي شكلت فيها حكومة سُميت بالتكنوقراطية للخروج من أزمة الحكم التي تفاقمت بعد ثورة الياسمين، إلا ان هذه ايضآ كانت لفترة محدودة الى اجراء الانتخابات.
كل التجارب المعروفة كانت لمعالجة أزمة محددة واستمرت لفترة محدودة ولم تكن اي منها أزمة هيكلية عميقة الجذور في النظام السياسي برمته كما هي الحال في أزمة العراق التي استمرت بمختلف الأشكال والمراحل منذ الاحتلال. واخيرآ تلجأ بعض أطراف الطبقة السياسية والدينية الى وزارة تسميها تكنوقراط هي الاخرى لا حول لها ولا قوة على تنفيذ قراراتها وسياساتها ومواجهة هذا الخليط من الكتل والائتلافات والمليشيات  التي تبذل الغالي والرخيص في إضعاف أية حكومة تتشكل في بغداد مهما كانت حتى وان كانت من نفس الكتلة، بل ومن نفس فرع الكتلة! هكذا كان دينهم وديدنهم من حكومة علاوي الى العبادي. في هذه الظروف المستأصلة هل يمكن لوزير متخصص وعلمي وعبقري ان يقيل مديرآ فاشلا فاسدآ بامتياز اذا جاءه تلفون من فلان. والى متى يستمر هذا الوهم بان كلما تتطلبه المراكز العالية هو الاختصاص الذي يتمثل عادة بالشهادة الأكاديمية في حين ان ابسط مبادئ الادارة تركز بالدرجة الاولى على القابلية على القيادة بكل ما تتطلبه من مؤهلات.
ومع كل ذلك مرحبآ بالتكنوقراط لنرى أين ينتهي هذا الفصل الجديد .. اذا قُدِّر له ان يرى نور بغداد..

(*) اقتصادي عراقي عمل سابقاً مع البنك الدولي  ومؤلف الكتاب الموسوم “كتابنا وكتابكم – شعار البيروقراطية العراقية المنشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين

http://iraqieconomists.net/ar/2011/10/29/%d8%af-%d8%b7%d8%a7%d8%b1%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%8a%d9%85%d8%b5-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d9%86%d8%a7-%d9%88%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d9%83%d9%85-%d8%b4%d8%b9%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a8/
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعاده النشر بشرط الإشارة الى المصدر 7/4/2016

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. Avatar
    farouk younis:

    فى قطاع الخدمات يمكن لوزير ( تكنوقراط ) ان ينجز شيئا مثلما انجزه وزير الصحة الاسبق الدكتور عبدالامير علاوى والى القارىْ الكريم خلاصة الموضوع
    1- فى عام 1953كان الدكتور عبد الامير علاوى فى اوج سمعته المهنية واستاذا فى كلية الطب ببغداد ودخل الوزارة بعد ان كلف الدكتور فاضل الجمالى بتشكيل الوزارة واشغل الدكتور عبدالامير علاوى منصب وزير الصحة
    2- يذكر الدكتور عبدالامير علاوى فى مذكراته ( لم تكن مهمة الدكتور الجمالى سهلة واعتبرها رجال السياسة التقليديون بادرة غير محمودة تفتح الابواب لعناصر جديدة من الشباب المثقف من غير الفئات التى اعتادت على تداول الحكم وتناوبه منذ تاسيس الحكم الوطنى )
    3- كانت باكورة عمل وزارة الجمالى الغاء الاحكام العرفية كما استاْنفت الاحزاب السياسية نشاطها واعادت الوزارة اجازة الاحزاب واعادة الطلاب المفصولين اثر احداث العام 1952وغلق المبغى العام فى بغداد وقد لاقلت الوزارة معارضة قوية من فئات متعددة وعلى راْسها الوزراء السابقون المزمنون التقليديون —
    ماذا عمل الدكتور عبد الامير علاوى ؟ يقول فى مذكراته كان منهجى عند استلام الوزارة مهيئا فى ذهنى : تحسن سمعة الوزارة وتطهيرها ممن اساء الى سمعتها واختيار الموظفي اللائقين من الاطباء وغيرهم – الاهتمام الكبير بالوقاية الصحية – معاملة الموظفين بالعدل والتساوى دون تفريق- رفع مستوى الكلية الطبية
    قام الدكتور وزيز الصحة بجولة تفتيشية فى كافة انحاء العراق للتعرف على المشاكل وطرق تذليلها واستغرقت الجولة ( 4 ) اسابيع من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه اى من زاخو شمالا الى الفاو جنوبا – يقول وقد المنى ما وجدته من اهمال كامل لابسط المستلزمات الصحية خصوصا فى المناطق النائية وكانت بعض المستوصفات تدار من قبل الموظفين الصحين او المضمدين مع نقص بارز فى التجهيزات الادوية – وضع خطة لايجاد مذخر طبى لكل ( لواء ) محافظة – يقول كان شعارى وضع الشخص اللائق للمركز المناسب
    ومن الخدمات يقول : قررت القضاء على مرض الملاريا هذا المرض المستوطن منذ الاف السنين وكافحة التدرن
    4- فى عام 1955 عهد الى الدكتور عبدالامير علاوى مرة اخرى بمصب وزير الصحة وقد انجز ما يلى
    – معمل الالبان ( الحليب المعقم ) اين هو الان؟ هذا المعمل كان انجازا كبيرا ولم يكن بالامكان انجازة لولا همة الدكتور علوى وتعاون نورى السعيد معه فى هذا المجال
    – نالت الامراض المتوطنة كالسل والجدرى قدرا كبيرا من اهتمامه رغم الصعوبات التى لاقاها عام 1953
    – قانون التدرج الطبى
    – المستشفيات التعليمية
    – قانون الصيدلة
    – اسعار الادوية
    – مصرف الدم
    – فتح كليات طب اخرى بعد ان كانت كلبة الطب فى بغداد الكلبة الوحبدة فى العراق
    – تشييد مستشفى خاص للامراض العقلية والعصبية
    لقد حقق كل هذه الانجازات فى مدة سنتين
    هذا هو الدكتور عبد الامير علاوى وزير الصحة فى وزارة الجمالى ثم فى وزارة نورى السعيد نموذجا للوزير التكنوقراط
    مع التقدير

  2. Avatar
    محمد سعيد العضب:

    شكرا يااخي الكاتب بان عدت بنا الي ذكريات يوميات كنت تخطها في جريده التاخي بدايه السبعينات اريد منها حسبما اتذكر ا لهام القارئ بما يجري وراء كواليس الساسه والطبقه الحاكمه والانفصام التام عن همومه الحقيقه وتسويق الاكاذيب عليه واشباعه بالاوهام سواء بتحرير فلسطين او بناء امه عربيه من المحيط الي الخليج . وبالطبعتم انذاك نسبان معاناه الشعب العراقي ا وعدم التمكن من تحقيق احلامه في حياة سعيده .
    فكلام وهم الحكام انذاك يبدو انه اخذ مسارات جديده مشابهه في يومنا الحاضر, كما انها لا تختلف بتاتا عن سابقتها ,وفي بلد ظلت ازمات السلطه والحكم تميزه وتؤطر كيانه , كما تحولت الي صيرورة مميزه لمسيره حياته ,وهكذا تم استغلال جهل الامه, كما تمكن غلاة القوم استخدامه وسيله ناجعه في تحقيق ماربهم الخاصه . نحن نعيش علي مايبدوعهود ” سلاطين الانا ” وغياب الوعي الاجتماعي الذي يمكنه التصدي للذات الانانيه التي عرقلت التطور والرقي والتحديث المنشود .فتسويق متاههات حكومه تكنوقراط وما يشابه ذلك من مفردات اتظل فقط مجرد وسيله تخدير وتغطيه فشل عارم انتاب السطله ومن لف حولها ومنذ عام 2003 ولغايه يومنا الحاضر

اترك رداً على محمد سعيد العضب إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: