جدل اقتصادي

أ.د. عبد الكريم جابر شنجار العيساوي: لماذا اقتصاد السوق ناجحاً دون سواه ؟ البرزخ العراقي

     كنت قد طرحت سؤال عن سبب نجاح اقتصاد السوق عن غيره من الانظمة الاقتصادية ، ولم اكتب مقالة مفصلة عن الاسباب التي تسلط الضوء على الكفاءة التي تخلقها حالة المنافسة بين الوحدات الانتاجية التي لا تكتفي بالأرباح الاعتيادية بل تسعى الى تحقيق الارباح الاقتصادية ، الى درجة انها تستطيع ان تتوقع بحالات الركود والانتعاش الاقتصاديين وتعطل بروز ظاهرة اللاوفورات في الحجم (Diseconomies Of Scale)  عبر اليات اعادة الهيكلة الاقتصادية المختلفة ، كان اخرها حالات الاندماج والاستحواذ (Merger And Acquisition) قد شهد العالم الموجه السادسة منها بعد الازمة العالمية الاخيرة عام 2008 .

     وفي مداخلتي المتواضعة التي ارسالتها الى موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين، ذكرت عبارة (سقوط الشيوعية) والتي اغضبت البعض من الزملاء وأساتذتي ، ومع الاسف ذهب منهم الى حد التطرف في الرد ، ولكن ما كنت اشير الية الى تلخيص التراجعات المستمرة والمتواصلة في المعسكر الاشتراكي (انذاك) بعبارة واحدة هي (السقوط) وليس المعنى الذي فهم مع الاسف .

     بالطبع ان الفكر تبقى جذوره ولا يمكن لأحد استئصاله ، وما ذهبت الية ان الحزب او الحركات التي ولدت في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، لم تؤمن بالتغيير ، ويصح علية تسميتها (الانظمة البائدة) ربما الاستثناء ما حصل من قبيل هذا التغيير التجربة الشيوعية في الصين .

     ولا يستطيع احد ان ينكر كيف تغيرت النظرية الاقتصادية من موقفها المستند على استحالة التخطيط كأسلوب اقتصادي في بدايات القرن المنصرم ، اذا ما الغي الاساس المادي للمنافسة والمتمثل بالقطاع الخاص ، وتصورها كيف للدولة التي تقوم على امتلاك القطاع العام بإدارة الاقتصاد القومي ، ولكن بحوث عمالقة الفكر الاقتصادي الاشتراكي بدأ من (باروني) ومساهمة (اوسكار لانجه) اثبتوا امكانية تحديد هيئة مركزية لتحديد الاهداف بدلا من السوق للاستمرار في الانتاج المادي في ظل الاشتراكية ، واستناداً الى منهج التجربة والخطأ . وعلى اثر ذلك امتد هذا الفكر الى سائر الدول الاشتراكية وحتى الرأسمالية والنامية لتقتبس الكثير من اسلوب التخطيط ، ومن القريب دفعت الازمة المالية العالمية الاخيرة مراكز النظام الرأسمالي الى تبني مفاهيم التخطيط لمراقبة عمليات الاقراض السهلة من قبل المواطنين الامريكيين التي سببت في انفجار هذه الازمة .

        ولكن الذي فرض نفسه بعد الصراع بين الغرب والشرق خلال المدة (1949 – 1989) وما شهده العالم من ثورة في المعلوماتية والانترنيت ، وانتشار ظاهرة التدويل العالمي للإنتاج السلعي ، بل اصبحت الاسواق غير الواقعية سواء المنافسة التامة (Pure Competition) او الاحتكار التام(Pure Monopoly)  الى اسواق واقعية ، ولعل الاسواق والبورصات المالية العالمية مثال على ذلك .

       ان هذا التركز والتمركز في الاقتصاد العالمي يدفعنا الى ان نقف عند مقولة (الحتمية التاريخية للنظام الرأسمالي) بدليل ان الاجهزة المعنية بإدارة الاقتصاد الدولي التي انشأة بموجب اتفاقية بيرتون وودز (1945) وهما كل من الصندوق الدولي والبنك الدولي لازال يعملان بقوة ونشاط وتفرض شروط الاقتراض حسب ما تشاء ، ( اقرب مثال منح اوكرانية قرض بقيمة (40) مليار دولار بشرط رفع سعر الغاز بمقدار (250%) ). ونرى كيف التحول في موقف الاتحاد السوفيتي السابق الرافض الى هذه المؤسسات العالمية الى عضواً فيها وخاضعاً لقوانينها ، كيف نفسر ذلك ؟ انه انتصار الطرف الاقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا .

        علينا جميعاً ان ننظر حقيقة الاصطفاف (التقليدي) للشرق بالرغبة والقناعات مع الغرب في التسعينيات القرن المنصرم ، وأصبحنا امام نوع جديد من العلاقات الاقتصادية الدولية الجديدة بين الشمال (الغني) والجنوب (الناشئ) او يمكن اطلاق علية اصطلاح (الشرق الجديد) ، وهذا تأكيد دون شك الى حصاد (اليبرالية الجديدة) التي قدمت لنا الاقاليم الناشئة او المتصاعدة في معدلات النمو، ولعل البرازيل نموذجاً رائداً في النجاح الاقتصادي بعد ان تخطى حجم ناتجها المحلي حجم نظيره البريطاني ، وكيف سحقت اليابان بجودة صناعاتها المراكز التقليدية للرأسمالية .

       اما قارة اسيا هي الاخرى قدمت نماذج مذهلة في نجاح رؤوس الاموال الاجنبية اذا ما احسن استخدامها في مجالات ناجحة ، وتأكيداً لنجاحها المستمر في الانفتاح والاندماج هي تقدم اليوم الجيل الثاني من النمور الاسيوية المتمثلة بـ(ماليزيا وفيتنام و اندونيسيا وكمبوديا وتايلاند) بعد الجيل الاول منها والمتمثلة (كوريا الجنوبية وسنغافورا و تايوان وهون كونغ ) ولا ننسى دول في القارة الافريقية والتي يطلق عليها اليوم (الاسود الافريقية) بعد ان نجحت في تحقيق زيادة في معدلات الطبقة الوسطى من السكان ، بفضل تبنيها تطوير قطاع الخدمات الذي هو نتاج اليبرالية الجديدة .

ضياع الفرصة :

       ارجوا اسماح لي بالحديث الشخصي ، لا زلت اتذكر معلمي الفاضل (الشيوعي) الدكتور (بكر محمود شاطي) كان يسألنا نحن تلاميذ الصف السادس الابتدائي في مدينة الديوانية ، ماذا تريدون ان تصبحوا في المستقبل ، نصيح بأعلى اصواتنا فدائيون ، وكان يعلق معلمنا هذا اسمائنا وطموحاتنا على باب الصف(اقسم بالله) لم يذكر احد من التلاميذ ان قال اريد ان اصبح (طبيب) او (مهندس) بل الجميع فدائياً من اجل تحرير فلسطين ، وفي نفس العام خرجنا متظاهرين فرحين في تأميم النفط عام 1972 في حي فقير (حفاة القدمين).

      ان الجيل الذي انتمي اليه قد تربى على المفاهيم القومية واليسارية المختلفة وتشبع بها ، و كان ليس مستعداً فقط للتضحية بل هو فعلاً ضحى تضحيات بمستوى النفس وأكثر ، هذه الجزئية التي اعتقد في رأيي (وعذراً) هي نفسها سادت نفوس الكثير من الاجيال التي عاشت في كفن المنظومة الاشتراكية (الشيوعية) ، والدول والأنظمة الشمولية التي استمدت نظرياتها من منابع هذه المنظومة ، وعربيا منها العراق وليبيا واليمن وسوريا والجزائر  .

      ولنا ان نسأل ما هي النتائج ونحن نرى تداعيات الفشل والتراجع في معدلات التنمية ، وصعود اشخاص الى سدة الحكم لا يؤمنون بالتغيير ، وجيروا كل منجزات الثورات لصالحهم والقريبين منهم وانتهت ثمار التنمية رذاذاً على الاغلبية من مجتمعاتهم . وبالمفهوم الاقتصادي ان تلك الاجيال دفعت تكاليف الفرصة البديلة (Opportunity Cost) والتي معناها المختصر (ان الفرد عندما يقرر فعل شيء دون اخر معنى ذلك تفويت فرصة اخرى) . هكذا نحن جيل اموات ننتظر الموت في اي عمل أجرامي صباح كل يوم نخرج به الى عملنا .

 

 

برزخ الاقتصاد العراقي:

       وما يتعلق بالاقتصاد العراقي لا أريد أسرد ما تعرض له من خراب ودمار منذ العام 1980 ، ودون شك ان افضل سنوات عمره هي السبعينيات القرن المنصرم ، بعدها عاش مرحلة الحرب المدة (1980 -2003) ثم انتقل الى مرحلة السلم (2003-2006) وبعد أحداث سامراء دخل مرحلة الحرب مرة أخرى حتى هذه أللحظة التي يعيش بها استنزاف قوي لموارده المادية والمالية في حربه مع داعش التي جاءت من كوكب المريخ ؟؟؟ ، وإذا جمعنا عدد السنوات (1980-2015) لوجدناها تبلغ (35) عام ، وهي النغمة التي رددتها الاحزاب الحاكمة بعد الاحتلال عام 2003 على أمل بناء دولة المعاصرة والتساوي في الحقوق والواجبات والقضاء على التفاوت في توزيع ألدخل ، ولكن ما هي النتائج بعد ثراء النظام السياسي بعد عام 2003 . وعلى هذا الاساس لا يمكن الحديث عن هيكل اقتصادي عراقي واضح المعالم ، وقد ذكر ذلك الزميل الدكتور كامل العضاض بأنه لا يمكن الحديث عن نوع نظام اقتصادي في العراق بمعزل عن تحليل هيكل الاقتصاد العراقي الذي نتحدث عنه ، او كلام الاخ  الدكتور بارق شبر الذي يقول به عن غياب الأطر المؤسساتية للمنافسة العادلة بين الفعاليات ألاقتصادية ،و أقول ان ما يحصل في العراق شيء فظيع فالفساد المالي والإداري بلغ حد الخيال ، فالأحزاب جميعها وربما يستثنى منها الحزب الشيوعي العراقي ، قد استحوثدت على الارث المادي والمالي للنظام السابق وجرت عمليات السرقة وتحويل جنس العقارات الى أفراد لا يؤمنون ببناء الدولة ألمدنية ومعظمهم هم اصحاب جنسيات مزدوجة والبعض منهم لم يولد بالعراق أصلا. اليوم مشاريع الدولة تعيش حالة اللأوفورات والترهل ألوظيفي والطبقة العاملة في العراق تعيش الحرمان والبؤس ثمنا لصبرها وصمودها. وباختصار نحن والاقتصاد العراقي نعيش في منطقة (البرزخ) التي لا نعرف بالتفصيل مصيرنا هل هي الجنة أم النار، رأسمالية كما ينص الدستور الحالي أم دولة توزيعية (ريعية) خلفت جيل من الكسالى الذي لا يعمل ولا ينتح، وحسب المصطلح العراقي الجديد (الفضائيون) .

     أخيرا أود ان أقدم شكري وتقديري الى الأخ الدكتور بارق شبر على إضافتي الى هذه الشبكة الراقية التي تحمل هموم غيرها من فسد في الارض… دمتم للخدمة عراقنا العزيز ……

(*) أستاذ جامعي : جامعة القادسية / كلية الادارة والاقتصاد

الاراء الواردة في هذا المقال لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة تحرير موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين وانما عن رأي كاتبها وهل الذي يتحمل المسؤولية العلمية والقانونية لوحده

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. Avatar
    زيد العراقي:

    اضف الى ذلك هجرة الكفاءات العلمية العراقية من اطباء واساتذة جامعات ومهندسين وهم الثروة الحقيقيه للعراق اذ تشير الاحصائيات الى ان مايقرب من 300 استاذ جامعي قتل واكثر من 3000 استاذ قد هاجر وان اكثر من 325 طبيباً قتل واختطف بين عامي 2004- 2006 لذا فان هذه الخسارة لا يمكن تعويضها او انتاجاها مرة اخرى بفترة قصيرة وقد ترك فقدان هذه الكفاءات تاثيرها المباشر في قطاعات الدولة والاقتصاد العراقي واصبح البلد من بلد منتج الى بلد مستهلك لاننا ابتلينا بقيادات متخلفة متناحرة بددت ثروة العراق .

  2. Avatar
    علي ابو خمسي:

    ارحب بك استاذي وعزيزي دكتور عبد الكريم .ذكرت كيف كان يشعل الاساتذه روح التخطيط والمعرفة نمط التفكير اتمنى ان تباشرو ذلك في الجامعه ونترك فكرة القشريات مثل الزي الموحد والمكياج وضياع وقت الاستاذ بالمحاضرات عن يوم القيامه .وان نخلق روح النقد والتفكير والنقاش بكل شي .وقد وصل بعض الاساتذه يمنع الطالب من لبس القاط لانه يقول انه يضيع من هيمنة الاساتذ الجامعي فمن كان هذا نمط تفكيره فكيف بالساسه الذين لايعرفون ناقة الله وسقياها.كل الود والحب لك دكتور

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: