لم يسبق ان تصدرت قضية تقلب اسعار المواد الغذائية في السوق الدولية اهتمامات العالم بهذه الجدية مثلما هو جار الآن. فقد التقى، على سبيل المثال، وزراء زراعة مجموعة العشرين (G20) في باريس في 22 – 23 حزيران، ولأول مرة، في اجتماع مخصص لتدارس تأثير تقلبات الاسعار على الزراعة في العالم،
واتفقوا على خطة عمل موحدة لتطوير وتنسيق السياسات الزراعية على المستويات الوطنية والدولية للدول الاكثر ثراء في العالم، والنظر في تطبيق التعهدات المعلنة في الاجتماعات السابقة لقادة العالم، ومنها مؤتمر قمة الغذاء في روما 2009،او القمم التي سبقتها، وقمم مجموعة العشرين او مجموعة الثمانية، او اعلان لاكويلا، الذي تعهد به القادة بإنفاق عشرين مليار دولار لتعزيز الأمن الغذائي، وغير ذلك من المنتديات الدولية التي التزمت بها الدول بتحقيق الأمن الغذائي والسعي لتطبيق مبدأ حق الانسان بالحصول على الغذاء.
فالسوق الغذائي شهدت تقلبات كبرى ادت الى زيادات هائلة في عدد الجياع في العالم بسبب عدم تمكن الفقراء من الحصول على كفايتهم من الغذاء. وقد سجل انهيار السوق المالية في الفترة 2007 – 2008 أعلى ارتفاع في مؤشر أسعار الغذاء الذي تعتمده منظمة الأغذية والزراعة الدولية، حيث دُفع الملايين من البشر الى صفوف الجياع فزاد عددهم انذاك على المليار شخص.
وسجل بعد ذلك انخفاض ملحوظ في الاسعار منذ منتصف عام 2008 نتيجة لاستقرار السوق. ولكن مؤشر الاسعار بدأ بالتصاعد مرة اخرى في عام 2010، بالتزامن مع فيضانات باكستان وحرائق حقول القمح في روسيا، وبقي في اعلى مستوياته حتى اليوم. فقد اشار آخر تقرير من منظمة الاغذية والزراعة الدولية (فاو) الى ان مؤشر اسعار الغذاء لشهر حزيران 2011، وبالرغم من انه ليس الأعلى لهذا العام، الا انه سجل ارتفاعا بنسبة (39%) مقارنة بشهر حزيران لعام 2010. ولا توجد اليوم معطيات بأن اسعار المواد الغذائية في السوق العالمي ستعود الى مستويات ما قبل 2008.
أما الاحصائية الرسمية المعتمدة في منظمة الفاو لعدد الجياع في العالم فما زالت تشير الى أن (925) مليون شخص يصنفون كذلك، اي أن شخصا واحدا من كل ستة اشخاص في العالم تقريبا يعتبر جائعا. وهذه الاحصائية بعيدة كليا عما التزم به قادة الدول في الهدف الاول من أهداف الالفية الثالثة، والقاضي بتخفيض عدد الجياع في العالم الى حوالى (400) مليون بحلول عام 2015، أي نصف عددهم المسجل في عام في عام 1990 والبالغ انذاك (800) مليون جائع.
هل العراق في مأمن من تقلبات الاسعار؟
العراق بلد غير معزول عما يجري في العالم، وبالتالي فهو يتأثر سلبا وايجابا بما يحصل في السوق الدولي، ولكن درجة تأثر سوق الغذاء في العراق بتقلبات الاسعار العالمية تبدو لي غير واضحة تماما بل واشكالية، وبحاجة الى دراسات تفصيلية للاسباب التالية:
1. قدم او محدودية الاحصاءات والمسوحات الرصينة التي اجريت في العراق، وعدم دقة الاحصائيات التي تتداولها الصحف والمواقع نقلا عن اشخاص غير مخولين بالتصريح في الوزارات والمحافظات المختلفة. فالتعداد العام للسكان لا يزال في طور الاعداد، منذ فترة طويلة نسبيا، اما الدراسة الشاملة للامن الغذائي والهشاشة التي اجراها برنامج الأغذية العالمي (دبليو أف بي)، بالتعاون مع الجهاز المركزي للاحصاء في وزارة التخطيط والتعاون الدولي العراقية، بعنوان “التحليل الشامل للامن الغذائي والفئات الهشة في العراق”، والتي نشرت عام 2008، فقد اعتمدت احصاءات ومعطيات سجلت في عام 2006. وكذلك تقرير الجهاز المركزي للاحصاء المعنون “خط الفقر وملامح الفقر في العراق” فقد نشر في آذار عام 2009 ويبدو انه استند على نفس المعطيات التي اتيحت لدراسة “التحليل الشامل للامن الغذائي والفئات الهشة في العراق”، وقد ذكر ان تحديثا مهما للمعطيات قد انجز مؤخرا في العراق، بالتعاون بين الجهاز المركزي للاحصاء وبرنامج الأغذية العالمي ووكالات اخرى، ولكن المعلومات مازالت خاضعة للتحليل ولم تنشر بعد.
2. الانتقال السريع، بل المنفلت في الكثير من اوجهه، من اقتصاد مفرط في مركزيته قبل عام 2003، الى اقتصاد سوق عشوائي تعتريه فوضى عارمة، وتضخم مهول، واستيراد منفلت للبضائع، وتداول كبير للعملة، وضخ سيولة كبيرة، وارتفاع غير مسبوق في مستويات رواتب الموظفين، وغير ذلك. وقد رافق ذلك زيادة كبيرة ومستمرة في اسعار الغذاء في السوق العراقي، ولم تكن هذه الزيادة مرتبطة عضويا بتقلبات اسعار الغذاء في السوق العالمي، بقدر ما تعود الى عوامل داخلية، نابعة من حركية اقتصاد السوق ودرجة الطلب على البضاعة، وارتفاع مستوى المعيشة لدى فئات اجتماعية جديدة، واضطراب الانتاج الزراعي في العراق، وتراجع قدرته التنافسية مع البضاعة المستوردة وغير ذلك الكثير مما يتطلب دراسة تفصيلية ومستقلة.
3. ارتباط تقلبات اسعار سوق الغذاء على الأغلب باسعار الطاقة، وقد تمثل الزيادة في اسعار الغذاء ايرادات مالية اضافية للدول النفطية نتيجة لزيادة اسعار النفط في السوق العالمي، وبما ان العراق بلد نفطي فإن تأثير زيادة اسعار الغذاء قد يقابله زيادة في الايرادات النفطية، مما يمنح بعض المرونة في دعم سوق الغذاء، خاصة في المواد الاساسية التي تغطيها البطاقة التموينية، التي لم تشهد اية زيادة في الاسعار الرمزية التي يدفعها المواطنون لقاء حصولهم على مفرداتها، هذا اذا ما غضضنا النظر عن شكاوى المواطنين حول نوعية البضائع المدرجة في البطاقة، وهي شكاوى مزمنة.
4. استمرار الدعم الحكومي لاسعار الغذاء عن طريق البطاقة التموينية كنظام للمساعدة الغذائية، وهو دعم مستمر منذ عشرين عاما، ويشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة، حيث بلغت تخصيصاته لهذا العام (7) مليار دولار، أي اكثر من (8%) من ميزانية 2011، مما يسهم في كبح الاستجابة الطبيعية لسوق الغذاء الداخلي على تقلبات الاسعار العالمية، بالرغم من ان المبلغ المخصص لاستيراد مفردات البطاقة يتأثر قطعا وبشكل مباشر بأسعار السوق السائدة، اذ ان شراء نفس الكمية من المواد الغذائية يتطلب اموالا اضافية، اما السلع والبضائع غير المغطاة بالبطاقة التموينية، فيكون تأثير ارتفاع اسعار السوق العالمي عليها مباشرا وفوريا (وقد اشرت الى موضوع البطاقة التموينية في مقال سابق في جريدة المدى بتاريخ 20 نيسان 2011).
5. الدعم الحكومي للانشطة الزراعية في العراق بما فيها سياسات الاقراض المتبعة ضمن “المبادرة الزراعية” ودعم المدخلات الاخرى، بالاضافة الى شراء المنتجات الزراعية بأسعار تحدد في حينها، وتأخذ بالحسبان اعتبارات سياسية واجتماعية اخرى، هادفة الى دعم الفلاحين والمزارعين، والتخفيف من تأثير حركية اقتصاد السوق الغذائي في العراق، حيث تنعدم قدرة المنتوج العراقي على المنافسة، سواء من ناحية النوعية او بسبب ارتفاع كلفة الانتاج، المرتبطة بتخلف البنى التحتية للاقتصاد الزراعي، وبضمنها نقص الطاقة الكهربائية، وتعثر التنمية الريفية عموما.
6. تبقى المعلومات التي يتيحها الجهاز المركزي للاحصاء، هي المصدر االموثوق الوحيد، ولكنها شحيحة لأسباب مختلفة، ويفيد اعلانه الأخير لمؤشرات الأرقام القياسية لأسعار المستهلك في العراق، الى ان اسعار المواد الغذائية في تصاعد، ويمكن – مثلا – ملاحظة الاشارة الى اسعار الفواكه في العراق حيث شهدت ارتفاعا بنسبة (6.2%) في شهر ايار 2011 مقارنة بشهر أيار من العام الماضي، الا ان هذه البيانات لا تعطي صورة متكاملة لسوق الغذاء واسعاره على مدى زمني طويل.
ان اسعار المواد الغذائية في السوق قضية شائكة، حيث يزيد حجم الاموال المستثمرة في سوق الغذاء العالمي على ترليون (الف مليار) دولار. أما حجم الدعم الذي تقدمه حكومات الدول المتقدمة لقطاع الزراعي فيبلغ حسب منظمة الفاو اكثر من (350) مليار دولار، وليس من السهل تغيير الوقائع المتشابكة على الارض مهما كانت النوايا طيبة للموقعين على الاعلانات العالمية المتكررة.
من الجدير ذكره هنا هو ان الانتاج العالمي من الغذاء يكفي حاليا للقضاء على الجوع المتفشي في العالم، ولكن سوء التوزيع واختلال الموازين وعدم شفافية السوق، والحواجز التجارية، والدعم الحكومي في الدول الغنية للقطاع الزراعي، والمضاربات التجارية، وحوكمة السوق العالمي للغذاء (governance)، يجعل الدول النامية والفقيرة ضحية اوضاع وشروط لا قدرة لها على مقاومتها.
وفي العراق، كما في كافة الدول النامية، تنفق الأسرة العراقية جلّ دخلها على شراء الغذاء، وما تبقى من الدخل ينفق على الاحتياجات الاخرى، كالتعليم والصحة والسكن والملبس. لذلك فإن اية زيادة في الانفاق على الأغذية، نتيجة ارتفاع اسعار المواد الغذائية، يؤدي بالضرورة الى تغيير نمط الانفاق وشراء السلع، وينعكس بالتالي على شكل فقدان الأسر الفقيرة لأية خدمات صحية او تعليمية او في مستوى السكن او الملبس، او على حساب نوعية الغذاء نفسه، اذ تلجأ الأسر الفقيرة الى التخلي عن البروتينات واللحوم والفواكه والخضر الغنية بالفيتامينات، والاكتفاء بالمواد الارخص والأقل تغذوية، مما يعرضهم للامراض والهشاشة والتشوه ونقص الوزن والفشل في الدراسة والتسرب من المدارس وغير ذلك، مما يثقل كاهل الاسرة الضعيفة اصلا.
من هنا تنبع اهمية شبكات الحماية الاجتماعية ودعم الدولة للفئات الفقيرة، واعتقد ان مشروع التغذية المدرسية هو من اهم المشاريع التي يجب ان تفعّل في العراق بأقصى سرعة لحماية اطفال المدارس وتوفير شروط نجاحهم. فالتعليم من أهم مقومات التنمية، والمواطن المتعلم هو اكثر قدرة على العمل والتخلص من براثن الفقر، اضافة الى انه يخفف عن عوائل الاطفال ضغط الزيادة المستمرة في الاسعار في ظل دخل ثابت او غير مضمون أوبطالة.
ان مراقبة اسعار المواد الغذائية، وتخفيف تأثير الارتفاع الحاد لها على المجتمع، ضرورة قصوى وخطوة اولى لتطوير استراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الغذائي في العراق.
واعتقد ان المراجعة الجريئة والشاملة لبرنامج البطاقة التموينية المطبّق في العراق، للنظر في كيفية استخدام الاموال المخصصة في ميزانية الدولة لشراء مواد الحصة التموينية من الخارج، لتحفيز الانتاج الزراعي في العراق هي من الاجراءات الضرورية الاولى بهذا الاتجاه.
فالانتقال من الصرف السهل للموارد المالية في شراء مواد البطاقة التموينية في الاسواق العالمية، الى الاستثمار الصعب في القطاع الزراعي العراقي لا تحدث بقرار فوقي دون تطوير برنامج وطني شامل للاستثمار الزراعي، واطار زمني واضح لتحقيقه، مع ضمان ايصال المساعدات الغذائية للفئات الفقيرة من المجتمع، اثناء المرحلة الانتقالية.
*سفير العراق لدى منظمة الأغذية والزراعة الدولية ( فاو )
نشر في صحيفة المدى العراقية في 18/7/2011
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية