جدل اقتصاديملف البنك المركزي العراقي

د. كامل مهدي *): أزمة المركزي بين الإتهامات والشعارات وبعض الحقائق

كتب السيد صائب خليل مقالا بعنوان: “أزمة المركزي: من يتبنى ’حرية السوق’، يتخلى عن حريته”

والعنوان غريب في هذا السياق، فالكاتب يصول طولا وعرضا بالإتهامات ويستسخف أي رأي لا يتفق مع غرضه الضيق والذي يبدو أنه التشهير بالدكتور سنان الشبيبي وإتهامه الضمني بجرائم منها العمالة والتلاعب بمزادات العملة الأجنبية وتزوير الوثائق وما إلى ذلك، كي يعود في آخر هذا المقال الطويل وبما لا صلة لها بموضوع الإتهامات ليتحدث ببضعة أسطر عمومية حول مساوئ الليبرالية الإقتصادية المنفلتة ، وكأن الليبرالية المنفلتة تتمثل في العراق حصرا في الوضع القانوني للهيئات المستقلة ومنها البنك المركزي وما يعنيه ذلك من شكل العلاقة فيما بين السياستين المالية والنقدية ودون أي من المؤسسات والسياسات الأخرى.

وموضوع إستقلالية البنك المركزي وتفسيره العملي يبقى محط خلاف فيما بين الإقتصاديين، وأنا أفهم أن السيد صائب خليل غير مؤهل بأن يفتي علينا بهذا الموضوع من موقع معرفة متخصصة ولكني لاأفهم كيف يكون متحمسا بنفس الشكل لتبرير تبعية هيئتي النزاهة والإنتخابات إلى أية حكومة كانت في ظل نظام ديمقراطي. إن السيد خليل يحاول من خلال فقرات مقاله الأخيرة الإيحاء بأن مقصده فلسفيا سياسيا عاما ناقدا لليبرالية المنفلتة التي  تجعل من المجتمع ضحية قوى ذات مصالح إقتصادية وسياسية قوية تسلبه حريته الحقيقية. ويقول صائب خليل بأنه لا يتفق مع سياسة السيد رئيس الوزراء الإقتصادية. قد يكون ذلك، ولكن حرية السوق ليست محل خلاف بين سياسة البنك المركزي تحت إدارة سنان الشبيبي وسياسة الحكومة، فالحقيقة إذن أن إدخال موضوع السياسة الإقتصادية جاء لخدمة غرض المقال وهو أمر محزن لكاتب بنى سمعته على مواقف وطنية ويسارية وفقد جزء منها في بعض الكتابات والمواقف الشخصية المتسرعة.

ويظهر من قراءة متمعنة لمقال السيد صائب خليل أن المعنى الأدق لعنوانها هو أن من يتبنى فكرة “حرية السوق” يتخلى عن حقوقه وحرياته الشخصية التي من المفروض أن يكفلها له القانون، وربما أيضا يستحق أن يكون عرضة لتهم باطلة ولإساءة السمعة وللحبس الإعتباطي إن اقتضى الأمر. والحبس في هذه الحالة إعتباطي لأن الدكتور سنان الشبيبي مهدد بالإعتقال وفق مادة لا تسمح بالكفالة وقبل اية مساءلة قضائية. أما التهم فهي باطلة لو أخذنا بكلام السيد صائب خليل نفسه إذ يقول “أن عملية ’سحب اليد’ كانت الطريقة التي وجدها رئيس الحكومة المالكي للإفلات من قانون كتب بشكل متقن لحماية ’إستقلال’ البنك المركزي من تدخل الحكومة وشل قدرتها على محاسبته.” ويستطرد السيد صائب خليل بالقول بأن ’لا تفسير لإصدار هذا القرار أثناء تواجد الشبيبي في اليابان، سوى ان المالكي كان يأمل أن يبقى المحافظ في الخارج ويعفيه من مواجهة الإشكالات القانونية’. فالسيد خليل يرحب بالعملية حتى لو كانت مفبركة وذلك لغرضه السياسي، فغايته السامية كما يبدو تبرر أية وسيلة.

كما يكتب السيد خليل بقلم العارف أو مدعي المعرفة أن الجهات المالية الدولية ستدافع عن الشبيبي لو أنه حكم بالسجن. دون شك أن الولايات المتحدة وجهات أخرى غيرها ايضا صارت تستغل أية ثغرة في عمل الدولة العراقية للتدخل وفقا لأهدافها وهي تفعل الأمر نفسه في إثارتها مواضيع إنتهاكات حقوق الإنسان وغيرها، فهل يعني ذلك أنها بالضرورة مهتمة بتلك الحقوق أو أنها تدافع عن سنان الشبيبي ضد أي طرف آخر؟ لا أبداً، وما إشارة صائب خليل إلى فتح موضوع البنك المركزي من قبل مسؤولين أمريكيين في لقاءاتهم مع المسؤولين العراقيين إلا من قبيل اللغو الذي يعكس عدم رصانة المقال ولا يليق بمشروع وطني أو بفكر تقدمي يعلن صائب خليل إنتماءه إليهما. وصائب يعرف كغيره أن مسؤولي الولايات المتحدة يتدخلون في الشأن العراقي (ودعنا لا نقول أكثر) وفي مختلف قضايا السياسة والمجتمع العراقي، صغيرها وكبيرها، من خلال مداخلاتهم مع قمة الدولة وفي الوزارات وعلى المستوى المحلي والأهلي وليس من منطلق الصداقة والندية، فما هو دافع هذا الطعن المبتذل بشخصية معينة؟ أما المؤسسات المالية الدولية، فبالتأكيد أنها تفضل التعامل مع أشخاص مهنيين، ولكن الهيمنة الإقتصادية لهذه المؤسسات منذ الإحتلال وللرأسمالية العالمية عموما لا تتحق من خلال شخص واحد، ويفترض بالكاتب الحصيف القدرة على التمييز فيما بين السياسات وتبعاتها من جهة وبين النزاهة من جهة أخرى. وللأسف ساد في أوساط عراقية كثيرة حديث التخوين وإتهامات الفساد على مناقشة البدائل الحقيقية للسياسة الإقتصادية الوطنية. وكتب صائب بأسلوب غريب يحمل الكثير من الضغينة ضد المدافعين  والمتضامنين اخلاقيا ضد التشهير بالدكتور سنان الشبيبي في حملة مسيسة تستهدف حقوقه وحريته الشخصية وسمعته ومهنيته أشار إليها المدافعون، وأغلبهم هم أنفسهم مهنييين معروفين  على نطاق واسع.

عجبي على السيد صائب خليل فهو كاتب معروف وله جهود مشكورة أحيانا، فهل يعتقد أن جهده الصحفي يغنيه عن واجب الدفاع عن المبادئ القانونية والأخلاقية الأساسية، وعجبي أن السيد خليل لا يجد حرجا في إدانة محافظ البنك المركزي على صفحات الإنترنت، وربما موظفين آخرين في البنك رغم أنه يعترف بأنه “من الصعب على المواطن العراقي أن يفهم التعقيدات الإقتصادية المتعلقة بقضية البنك المركزي”. ويبدو أن واجب فهم التعقيدات هذا لا ينطبق على السيد خليل نفسه فهو ليس مواطنا عاديا وهو يملك حق الإدانة المسبقة في الوقت نفسه. فماذا تعني الإثارة الإنتقائية لموضوع تعيين بريمر لسنان الشبيبي محافظا للبنك المركزي؟ ألم يكن معظم القادة السياسيين الحاليين أعضاء أو أعضاء مناوبين في مجلس الحكم المعين من بريمر؟ ألم يكن الدكتور الشبيبي خيار مجلس الحكم لمنصب المحافظ وخيار المعارضة السابقة التي كان عنصرا نشيطا فيها؟ لماذا هذه الإنتقائية وهذا التحامل يا سيد صائب؟ ألا تعلم أم أنك تتجاهل أن الدكتور الشبيبي كان قد تم التجديد له في منصبه بناء على إقتراح السيد رئيس الوزراء وقرار البرلمان؟ من هنا جاءت شرعية وجود الدكتور سنان الشبيبي في البنك المركزي ومن هنا جاءت مسؤوليته عن عمله في هذه المؤسسة، الصواب فيه والخطأ، فلماذا هذا التخوين ومن أعطاك هذا الحق يا صائب؟ إن أسلوبك في هذا المقال يا صائب أسلوب تهريج لا يخدم الوقوف ضد أشكال الهيمنة الإمبريالية على العراق ولا يخدم وحدة العراق وقوته وتقدمه.

سيد صائب، أنا لا أتفق مع سياسة الشبيبي ولا مع سياسة الحكومة وأنا لم أوقع على الرسالة التضامنية معه لإختلافي مع بعض مضامينها ولدي تمام الثقة أن سمعة الدكتور سنان الشبيبي الشخصية لن تنال منها تخرصات بعض الجهلة والمغرضين. ويؤسفني أن الحكومة قد تعاملت بأسلوب غير صحيح مع مجمل القضية وتركت المجال مفتوحا لإتهامات أغلبها غريب عن الواقع وغير منطقي أصلا، وما ينجم عن ذلك ليس فقط الإساءة إلى سمعة العراق كما ذكر بعض الكتاب، بل أنه يضعف ثقة العراقيين بأنفسهم، فالكل فاسد وسارق وعميل ولا يصلح أحدا للثقة، وأنت يا سيد صائب ساهمت بقوة في هذه العملية ورددت كالببغاء إتهامات لن يتقبلها إلا الجهلة. ودعني أنبهك لما إقتبسته أنت في مقالك من بعض تلك الإتهامات، فقد جئت بما يلي:

“قال عمار الشبلي عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب : ’مقابل الرقم الكبير المهول الذي قام البنك المركزي ببيعه وهو 220 مليار دولار فلم يتم إدخال مقابل هذا الرقم الى العراق إلا 22 مليار دولار من البضائع والبقية لم تكن سوى كشوفات مزورة.’”

وكان الإقتباس أعلاه تأكيدك على إقتباس آخر جاء فيه:

“’وقال النائب عن كتلة الاحرار يوسف الطائي ’ان مقارنة السلع الداخلة الى العراق بالدولار المصروف من البنك المركزي لم تغط ما نسبته 10% من الدولارات المباعة’ واعتبرها ’صفقات مشبوهة’.”

إن كان الإقتباس من عمار الشبلي صحيحا فذلك يعكس كارثة حقيقية في مجلس النواب العراقي وكارثة أخرى في كاتب نشط معروف يقتبس دون أبسط معرفة ولأجل الطعن. فالإحصائيات الرسمية تشير إلى أن أقيام الاستيرادات من السلع والمداولات الممولة بمزاد العملة الصعبة ليست بعيدة عن قيمة العملة المباعة، وذلك عكس الاتهامات غير المبررة بالارقام الاحصائية الحقيقية من قبل بعض النواب وغيرهم. ونشير هنا  أولا، الى  ان مجموع الواردات السلعية التراكمية (متضمنة كلف التأمين والشحن ايضا) للقطاع الخاص فقط خلال السنوات 2003 وحتى 2011 حوالي 149.7 مليار دولار واذا ما ادخلنا بالحساب الواردات السلعية خلال الاشهر الثمانية الاولى من 2012 فسيبلغ الرقم التقديري لواردات القطاع الخاص التراكمية أكثر من 180 مليار دولار. وقد تحقق خلال 2008-2011 فقط استيراد 114.4 مليار دولار، وللعلم فإن واردات القطاع العام لإقليم كردستان تمول هي الأخرى عن طريق مزاد عملة البنك المركزي، فعند إضافتها ثم بإضافة قيمة واردات الخدمات ومنها السفر الى الخارج والنقل وغيرها نجد أن الرقم الحقيقي للسلع والخدمات الممولة بالمزاد لا يختلف كثيرا عن حجم المبيعات الكلية وبالرغم من أن جزء من واردات القطاع الخاص يمول خارج المزاد، ومهما كان الأمر، فإن نسبة 10% من قيمة المزاد التي أقتبسها صائب خليل متسرعا بدون تدقيق عن عمار الشبلي لا أساس لها في الواقع. والحقيقة أن الموضوع أعقد من كل هذا ولكني أقف عند القول أن السيد صائب خليل مولع بالإقتباس عن أعضاء مجلس النواب وغيرهم بما يحلو له ودون تمحص. والإتهامات التي استند إليها صائب باطلة لا يقبلها العقل المهني ولا أي صاحب ثقافة عامة، ونحن بحاجة لمعلومات حقيقية ونحتاج إلى نشر تقارير لجان مجلس النواب كي يطلع المواطنون على المستندات وعلى مجريات الأمور كما هو الحال في الدول الديمقراطية عامة. أما الصحافة الجادة فيجب ألا تقبل دور البوق لإتهامات جزافية.

أخيرا، أتساءل إن كانت الإتهامات ضد الدكتور سنان الشبيبي وضد الموظفين المهنيين في البنك المركزي من نوع إتهام عمار الشبلي المشار إليه أعلاه، وإن كانت نسبة كبيرة من أعضاء لجان المجلس التي توجه الإتهامات تتكون من أعضاء بنفس المستوى المعرفي للسيد الشبلي عضو لجنة الإقتصاد والإستثمار، فهل سيمكن لنا أن نتوقع من القضاء العراقي أن يصحح كل هذا القصور وأن يحق الحق؟ آمل ذلك ولكن العون لأجل الحق والعدل لن يأت بأسلوب مقال صائب خليل.

*) أستاذ إقتصاديات الشرق الأوسط في جامعة أكستر سابقا وباحث أقدم في كلية لندن للإقتصاد حاليا

 الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها

شبكة الإقتصاديين العراقيين  30/10/2012

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: