اقتصادات الشرق الاوسط وشمال افريقيادراسات اجتماعية وثقافيةمظهر محمد صالح

تأملات في البداوة السياسية: الجزء الاول: من قطع اللسان الى واقعة الجمال

Iraqi Economists Network

تأملات في البداوة السياسية:

الجزء الاول : من قطع اللسان الى واقعة الجمال

                                        د.مظهر محمد صالح

     يؤشر التاريخ الاقتصادي السياسي الاوربي ان الثورتين الانكليزية والفرنسية في العامين 1688 و 1789 هما اللتان شيدتا البناء السياسي المؤسسي ووفرتا معايير الحقوق السياسية التي اسست لتعليم جيد وخدمات اساسية وفرص متكافئة الى حد بعيد وهما اطلقتا الثورة الصناعية التي بنيت على القوانين الموضوعية لحركة التاريخ . بهذه العبارات استوقفني كتاب اقرأه اليوم وهو بين يدي و يحمل عنواناً عريضاً هو :

لماذا تفشل الامم؟ ومؤلفاه  استاذين اكاديميين هما (اسيماغلو و روبنسن ) وهما يبحثان في اصول القوة والرخاء والفقر . واستدركت ان الفصل الاول قد عرج على تساؤل مفاده ،هو  لماذا امتلئ ميدان التحرير في القاهرة واكتضت حشود مصر وهي لم تطلب ابتداءً تعليماً افضل او توفيراً لفرص العمل او الخدمات الاساسية او رغيف خبز لجياع مصر بل كانت جميعها تبحث عن مخرج يوفر لها الحقوق السياسية والمؤسسات الدستورية  كي يسقط النظام في 11 شباط 2011 ؟ وقد استنتجت ايضا ان تاريخ مصر السياسي لم يبشر منذ قرون الاحتلال  العثماني والبريطاني لها، بناء مؤسسات توفر الحقوق السياسية  لكي تنقل مصر الى مصاف الدول المتقدمة . ولم تفعل النخبة الملكية والتي اعقبتها النخبة العسكرية التي قادت ثورة 1952 دورها في ارساء الحقوق السياسية للبلاد، تلك الحقوق المؤسسية التي شيدت ركائز استمرار تقدم العالم الاول وانما انتهت مصر بحكم الرئيس حسني مبارك الذي سلم البلاد على انقاض نخبة ضيقة ادارت نظاماً خال من المؤسسات الموفرة للحقوق السياسية والتي اكدت النخبة الحاكمة فيها حقا ضيق افقها ، بل بداوتها السياسية وهمجيتها القمعية في معركة الجمال او واقعة الجمل في ميدان التحرير !.

حدثني صاحبي ونحن على طاولة الغذاء في واحد من مطاعم حدائق الازهر في يوم 5 حزيران 2012 وهو اكاديمي مازال يقضي سنواته في التدريس استاذاً في جامعة (تنكا الوطنية) في ماليزيا بأنه كثيرا ماكان يلتقي عند ادائه فريضة الصلاة في احدى مساجد كوالالمبور بشخصية خليجية تقف مراراً الى جانبه وهو شخص حسن الطلعة ، لايقوى على الكلام وهو في العقد الخمسيني من عمره . واتضح فيما بعد انه امير ثري مقطوع اللسان ويعيش في منفاه في اقاصي اسيا منذ اكثر من عقدين من الزمن عندما نافس (عمه ) على حكم الامارة في واحدة من دولنا العربية الصغيرة  ، مما اضطر عمه استخدام العرف السياسي البدوي بقطع لسان ذلك الامير الشاب ليسكت الى الابد  دون ان يتسبب في موته ، الا الاكتفاء بموته سياسياً وتركه صامتاً في منفاه، مع تنعمه بحصة من عوائد الامارة النفطية شريطة مواصلة عبادته و دوام انقطاعه الى ربه في تلك البلاد البعيدة ولكن دون انقطاع في اللامشاركة السياسية لتتاح للاخرين من ابناء عمومته ادارة السياسة في بلدانهم والتي ينبغي ان تمارس ربما بدون عبادة ولكن بلسان ناطق !

جرنا الحديث في اطرافه وذيوله الى تحليل البداوة السياسية كنقيض للحقوق السياسية وبناء مؤسساتها ، بأن ثمة عدد من الامراء في بلداننا العربية قد مارسوا وظيفتهم السياسية في الاستبداد الشرقي بمثل هذه القسوة ازاء خصومهم السياسيين والتي تبدأ في الغالب مع ابناء عمومتهم قبل ابناء جلدتهم ، في ممارسة التعطيل الوظيفي على كماليات جسم المنافس السياسي المتطلع الى الشراكة في كرسي الحكم سواء بقطع لسانه او سمل عينيه وربما في حالات نادرة قطع انفه ! فمنهم من فقد عينيه ومازال يقبع في قصر فاره ينعم بموارد النفط وحصته منها دون ان ينعم بالحراك السياسي او البصيرة السياسية ، واخر صامت لفقدانه لسانه دون ان يقوى على الكلام او ممارسة الجدل السياسي والتنازع على الحكم بأستخدام لسانه كأداة للاقناع او الاعتداء ! . وانتفضت في نفسي وقلت كيف يحدث ذلك في بلاد حضارة وادي الرافدين تلك الحضارة التي علمت الانسانية مبادئ الكتابة وسن الشرائع …. او حتى في بلاد حضارة وادي النيل ! اذن نحن بعيدون كل البعد عن البداوة السياسية ! وبعد لحظات تذكرت بلادي التي مرت بعقود من الحكم  لبس فيها حكامنا ثوب بداوتهم وسيروا جمالهم خلف خصومهم  كأسلوب للحياة وان  حوارهم مع خصومهم او منافسيهم لابد ان يمر عبر حربة او خنجر او سيف شديد في حافاته سريع في قطع لسان او رأس او سمل عين ،ابتدأت في مقربيهم قبل ان تنتهي برفاقهم واحبابهم في الامس، انها مجازر قطع الالسن والاعناق التي طالت النساء كما طالت الرجال الابعدين منهم والاقربين . هكذا تحولت بلاد الرافدين الى مستنقع من الدم يلقى فيه الخصوم السياسيين دروس بسيطة في الصمت او دروس متقدمة في الموت بعد ان استوطنتها البداوة المنفردة التي تحولت الى قوة جمعية سياسية تبالغ في الايذاء وتبتكر في توليد قيم للعقاب السياسي انتهى ابسطها في اجتهاد قطع آذان الفارين من حروب البداوة والاستبداد الشرقي .هكذا امست بلادي بعد اندثار حضارة مابين النهرين وشرائع بابل وآشور في حكم البلاد والعباد لتنتهي بشرائع البداوة لصيانة سدة الحكم، ابتدات بعادة قطع السن الاقارب اولاً ( وفق قاعدة الاقربون اولى بالصمت ) وتنتهي بالابعدين الذين هم اولى  بالموت وكل حسب طاقته ( في الكلام) وكل حسب حاجته (في الصمت ) .

اخذتني التأملات الى تذكر رواية سياسية رمزية جرت على مائدة البداوة السياسية ، عندما حضر ابن ملك العرب وقت تنصيبه ملكاً لمملكته اقامها على شرفه احد امراء البدو في مضارب البدو في جنوب بلاده .اذ كانت مائدة الطعام مشهد او سيناريو للبداوة السياسية اشرتها رمزية تلك المائدة والتصرف للبدء في الطعام .

تقول الرواية : انه على منسف الرز كان هنالك خروف مشوي ( السياسي الرمزي الضحية!) فتوجه امير البدو ،الذي كان جالسا قبالة الملك ،الى رأس الخروف وتحديدا وجهه ، فقلع عينيه بأصابعه في اشارة سياسية حادة لبدء الطعام وهي جزء من متطلبات كرم الضيافة البدوية ، الا ان قلع عيني الخروف السياسي كانت اشارة رمزية في التعبير عن الانتقام من منافسيه السياسيين على كرسي الحكم. وتقول الرواية ان الملك الذكي ،ابن ملك ملوك العرب، قد رد عليه بالمثل ففتح فم الخروف ( الضحية السياسية الرمزية!) ومزق فكيه بحثا عن لسانه ليقطعه في فمه اربا اربا !!! … وقد علت الابتسامة وجه مضيفه امير البدو التي بادلها الملك الشجاع بأبتسامة مماثلة معلناً انتهاء السيناريو السياسي ولينصرف الجميع الى الاكل وانتهى الامر ببناء تلك المملكة الصغيرة القوية الشديدة التنظيم التي تواصل ميادينها في بناء مؤسسات الحقوق السياسية .

لا اريد ان ابحث عن تاريخ الديمقراطية في بلاد وادي الرافدين التي جفت انهارها منذ ازمان بعيدة في صحاري البداوة السياسية ولكن ابحث عن مراحل تاريخية  او مادية تاريخية توكد لي كيف تتحول فيها مضارب البدو السياسية الى حواضر سياسة وبناء مؤسسات الحقوق على رافدين بلادي ليترك اللسان يعمل حراً ويمارس وظيفته في التعبير دون ان تقطعه سكاكين البداوة وتترك الاعين دون ان يسملها احد لترى حاضر البلاد ومستقبلها دون ان تفقدها عواصف الصحراء بصيرتها.

انتهى حديثنا في القاهرة نحن الاثنان على مائدة الطعام في حدائق الازهر  ، اذ اخبرني محدثي ان هذه الحدائق لم تكن قبل ست سنوات سوى مزبلة تاريخية تراكمت فيها نفايات مدينة القاهرة على مدى اكثر من ستة قرون وكونت تلال مرتفعة تنتهي في طريق اسمه الساقية الحمراء حيث يعشعش اللصوص والسراق وتجار المخدرات في مداخله وممراته انتهاءً بالمزبلة الكبرى . فقد تحولت اكوام النفايات من تلال عملاقة معادية للبيئة الى واحات خضراء وحدائق غناء ومطاعم فارهة صديقة للبيئة يؤمها اليوم المئات من المصريين بعيدا عن تلوث مدينة القاهرة حيث كنا نتطلع من خلالها على دخان عوادم السيارات وهو شيء مذهل مازال يلف سماء القاهرة بهذه الكارثة البيئية . كما تحول الرعاع من اللصوص والسراق في الساقية الحمراء الى عمال نجباء للعمل في تلك الحدائق، وجرى نقلهم من حالة العداء للانسانية الى اصدقاء لها . ولكن هذه الاعمال الجيدة، في التحول من العداء المشترك للطبيعة والانسان الى اعمال وتصرفات لمصلحة الانسان عبر حدائق الازهر، لم تمنع حاكم مصر من ممارسة البداوة السياسية ضد ابناء جلدته المتطلعين للحرية في ميدان التحرير وان تلك الحدائق لم تعوض سكان القاهرة ماجرى لاحرارها في واقعة الجمل الهمجية ومجزرة ميدان التحرير ابان ثورة 25 يناير 2011 .

لقد عاد الرئيس ليخلع مدنيته السياسية المصطنعة في ذلك اليوم الدامي وهو مازال يحتمي بنخبة ضيقة وفرت له سبعين مليار دولار من اموال مصر لتضعها تحت تصرفه الشخصي ، وتمكنه ليلبس لبوس بداوته السياسية الجائرة في حملة قمع ضد شعبه اطلقت فيها الجمال التي كان يرتادها رجالاته من ميليشيا البداوة السياسية لتفتك برؤوس المتظاهرين في ميدان التحرير دون اعتبار للعين او اللسان او القلب او العقل وهو القتل وسفك الدماء مرة واحدة .

انه الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الذي تنازل عن نفسه وقتها من زعيم ديمقراطي مدني الى امير بدوي في لحظة الخطر على كرسيه لينقض على جماهيره بالجمال وهي الواسطة التي يستخدمها البدو الرحل في كسب رزقهم وفي قيادة غزواتهم .

انه الجمل … انها واقعة الجمل في ميدان التحرير … انها البداوة السياسية في مستهل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قرن الديمقراطيات البدوية السائبة !

                                   انتهى

  لتنزيل الملف بصيغة بي دي أف

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: