البنية التحتية والخدمات العامة

د. حسن الجنابي: لكي لاتغرق احياء بغداد ثانيةً

بمناسبة غرق بعض احياء بغداد في الاسبوع الاخير من عام 2012، اودّ اضاءة جوانب اضافية لما ذكرته في مقالتي الاولى عن الموضوع، والمنشورة في جريدة الصباح البغدادية يوم 8 كانون الثاني 2013، لعل ذلك يحفّز من بيدهم الامر لاتخاذ مايمكن من اجراءات عاجلة لتحسين اداء قطاع الخدمات في هذا الميدان، ولكي لاتتكرر تلك المأساة ، خاصة وان هذه السنة المائية تعتبر من السنوات الرطبة، وان موسم الامطار يمتد حتى نهاية شهر آذار، مما يعني ان بغداد ومناطق العراق الاخرى موعودةٌ بالمزيد من الامطار ونأمل ان لايكون ذلك مصحوبا بالمزيد من الاضرار.

فقد ذكرت في المقالة السابقة بان العواصف المطرية المشابهه لتلك التي شهدتها بغداد يوم 25 كانون الاول 2012 يمكن ان تسبب فيضانات وغرقا للعديد من الشوارع والاحياء في الكثير من مدن العالم، لكن الفرق هو ان مدن العالم الكبرى مجهزة بانظمة تصريف لمياه الامطار بحيث لاتستمر حالة الغرق الا لساعات. اما بغداد فنظرا لتوسعها الافقي الكبير، ولزيادة سكانها المضطردة والنقص الفادح بشبكة تصريف المياه وقِدمها، فانها قد تعرضت الى اضرار فادحة ستبقى في الذاكرة لفترة طويلة.

 اولا:

لقد ازداد عدد سكان بغداد بشكل سريع من (500) الف نسمة عام 1945 الى حوالي (7) ملايين نسمة الآن (اي اربعة عشر ضعفا خلال ستين عاما) وان عدد سكانها حاليا اكبر بمرتين ونصف المرة من عدد سكان العاصمة الايطالية روما، وبثلاث مرات بقدر عدد سكان العاصمة الفرنسية باريس، وهو يمثل (25%) من عدد سكان العراق، في وقت يبلغ به عدد التجمعات السكانية الحضرية التي تصنف على انها مدن في العراق حوالي (320) مدينة.

ولامجال بالطبع للمقارنة بين البنى التحتية في باريس وروما مع بغداد، ولكن لم يكن محتّما ان تصبح بغداد بهذا المستوى من التراجع الحضري لولا قلة الاستثمار بالبنى التحتية، نتيجة لدمار الحروب والاهمال، وسوء صرف الموارد المالية المتاحة، والنزوح الكثيف من الاطراف والارياف، التي انعدمت بها وسائل المعيشة، فامتدت المدينة افقيا على مساحة شاسعة تزيد على (900) كم مربع، يصعب معها حتى في الظروف العادية تقديم الخدمات البلدية بكلف معقولة، كما توقف بها التطوير الحضري العمودي تقريبا، وتراجعت خدمات المجاري والصرف الصحي الى مؤخرة قائمة الاولويات منذ اندلاع الحرب العراقية الايرانية ولحد اليوم.

 ثانيا:

بالرغم من ان بغداد مدينة عريقة وقديمة الا ان تنفيذ نظام تصريف المياه الثقيلة الحديث بدء فيها في بداية الستينات عند انشاء خطوط المجاري الرئيسية (اي الانابيب العملاقة باقطار تصل الى ثلاثة امتار) وهي الخط الشرقي الرئيسي، والذي يمتد شرق دجلة من الاعظمية حتى محطتي معالجة المياه الثقيلة في الرستمية (الشمالية والجنوبية) جنوب بغداد، وكذلك الخط الرئيسي الآخر الذي يسمى “زبلن” وهو يمتد تقريبا بموازاة الخط الشرقي ويغطي مناطق اضافية منها مدينة الصدر، ثم الخط الغربي في جانب الكرخ ويمتد من الكاظمية مرورا بالمنصور حتى جنوب منطقة الدورة حيث انشأت عام 1975 محطة الكرخ لمعالجة المياه الثقيلة.

أما شبكة المجاري التي توصل البيوت والشوارع والاحياء بالمجاري الرئيسية فقد تم تجديدها وتوسيعها في مطلع الثمانينات، وكان مخططا ان تغطى مدينة بغداد بكاملها بشبكات المجاري في عام 2000. ولكن عجلة التنمية توقفت وبدأت سلسلة غير منقطعة من الحروب والعقوبات تلتها اعمال ارهاب وتفجيرات وقتل لم يسلم منها حتى عمال النظافة في العاصمة في فترة ظلامية قاتمة من تاريخ بغداد الحديث.

 ثالثا:

وصلت نسبة تغطية خدمات المجاري في بغداد في احسن حالاتها الى حوالي (75%) وهي اعلى نسبة في العراق (ولديّ شخصيا تحفظات على هذا الرقم لأنه كبير) اذ ان نسبة التغطية بهذه الخدمات في المدن الاخرى، بما فيها مراكز المحافظات، متواضعة جدا وتبلغ على سبيل المثال (11%) في مدينة البصرة وهى مدينة النفط والموانئ.

ونظرا لاستواء ارض بغداد واتساع المساحات المبنية فقد انشأت محطات ضخ كبيرة زادت على (280) محطة ضخ باحجام مختلفة للقيام بتصريف المياه ودفعها الى محطات المعالجة في الرستمية او الكرخ، وتلعب هذه المحطات دورا اساسيا في تصريف المياه، وان توقفها بسبب التقادم او انعدام الصيانة او انقطاع التيار الكهربائي يسبب طفحا واضرارا صحية وبيئية كبيرة.

 رابعا:

حسب الدراسات والمسوحات التي اجريت، من قبل الوكالة اليابانية للتنمية (جايكا) وفيلق المهندسين الامريكي وبالتعاون مع امانة العاصمة، فان الخطوط الرئيسية (خط زبلن والخط الشرقي والخط الغربي) مغلقة بنسب تتراوح من (40%) الى (80%) بالزيوت والمخلفات الصناعية والقمامة والرواسب والاوحال، علما ان هذه المشكلة هي من اعقد المشكلات التي تواجه انظمة التصريف، لذلك فهي بحاجة الى عمليات تنظيف وصيانة منتظمة في حين انها اهملت في بغداد لفترات طويلة. ومن الطريف ان الوكيل البلدي لامانة العاصمة قد صرح مؤخرا لقناة العراقية بان الامانة قامت بازالة (1500) طن من الاوساخ من احد مقاطع خط زبلن مؤخرا، وبامكانات ذاتية محدودة (حسب قوله)، الا انه لم يقل لماذا لم يستمر هذا العمل ولماذا لم تعزز تلك الامكانيات المحدودة، واغلب الظن فان انحسار الامطار وحالة الجفاف الطويلة خلال العشرين عاما الاخيرة ادتا الى تراجع الاهتمام بهذه القضية الهامة.

اما شبكة المجاري فقد أفيد بانها متضررة ومهشمة بنسبة (40%) وهي بحاجة ماسة الى التجديد والصيانة والتوسيع لأن المياه الثقيلة تتسرب من الشبكة وتؤدي الى الاضرار بالصحة العامة والبيئة.

 خامسا:

تزوّد امانة العاصمة –حسب تقاريرها- سكان بغداد بمياه الشرب بمقدار (425) ليتر باليوم للشخص الواحد (على الأقل فهذا هو المعيار الذي تعتمده الامانة في تخطيط وتنفيذ مشاريع مياه الشرب).  وعلى افتراض ان (80%) من مياه الشرب تصبح مياه ثقيلة، وبما ان عدد سكان العاصمة هو (7) مليون نسمة، ستكون كمية المياه المطلوب تصريفها من الاحياء ومعالجتها في الظروف الجافة الاعتيادية (2.4) مليون متر مكعب يوميا، وهذه كمية اكبر بكثير من استيعاب محطتي المعالجة في الرستمية (المحطة الشمالية والمحطة الجنوبية) بالاضافة الى محطة الكرخ حتى في حالة التشغيل بالسعة التصميمية القصوى، لأن هذه المحطات الثلاث مصممة لخدمة نصف عدد سكان بغداد الحالي، او ما مقداره مليون متر مكعب باليوم. علما ان محطة معالجة المياه الثقيلة في الكرخ، المصممة لخدمة (1.8) مليون نسمة، اي تقريبا نصف سكان جانب الكرخ، متوقفة منذ عام 2005 وان المياه الثقيلة من جانب الكرخ تقذف مباشرة الى نهر دجلة بدون معالجة لتزيدها تلوثاً وتشكل خطرا دائما على حياة المواطنين في المدن العراقية التي تقع الى الجنوب من بغداد.

 سادسا:

في مساحات شاسعة من الرصافة وبعض مناطق الكرخ يوجد نظامان منفصلان للمجاري احدهما لمياه الامطار والآخر للمياه الثقيلة، اما في بقية المناطق فنظام التصريف مزدوج. علما ان نظام تصريف مياه الامطار قد صمم ليستوعب امطارا باحتمالات حدوث مرة واحدة كل عشرين عاما، وان النظام المزودج لمياه الامطار والمياه الثقيلة فقد صمم ليستوعب اربعة اضعاف الجريان في الاوقات الجافة. ولو قيّض للمخطط الاساس للمدينة ان يكتمل لما واجهت بغداد محنة الفيضان الاخير في كانون الاول المنصرم. ومن المعلوم ان المخطط الاساس لبغداد كان قد اعدّه مجلس الاعمار في الخمسينيات وأقّر في السبعينيات، واظن انه تم تحويره في عام 2000، ولم يكن بوسع مجلس الاعمار تخيّل ان عدد سكان بغداد سيبلغ (7) مليون نسمة.

 سابعا:

لقد قدّر اليابانيون أن تأهيل وتوسيع مجاري بغداد لتغطي المدينة بكاملها بحاجة الى (13) عاما وعلى ثلاثة مراحل، واقترحوا ان يبدأ التنفيذ في عام 2005 وينتهي عام 2018. كما قدروا كلفة الانجاز بحوالي (1.2) مليار دولار امريكي حسب اسعار عام 2004. وأظن ان حساباتهم عقلانية ولو ان امانة العاصمة قد شرعت بتطبيق المقترح الياباني لكانت بغداد الآن على مشارف تنفيذ المرحلة الثالثة والنهائية من المشروع. وللاسف فقد مرت ثمان سنوات على المقترح والعاصمة تتحول تدريجيا الى قرية كبيرة من حيث الخدمات، والاسعار تتضاعف، وتنفيذ المشاريع يواجه صعوبات جمّة، ولايمكن اختصار الزمن، اي اذا بدأنا في عام 2013 فسنكمل عام 2026 ولكننا سندفع مبالغ اكبر.

 مقترحات ضرورية:

لاتوجد حلول سهلة وسحرية للتطوير الحضري لمدينة بغداد ولغالبية بناها التحتية وبالاخص مجاري المدينة، ولكن توجد حلول عملية ولكنها تتطلب وقتاً واموالاً، وقبل ذلك ارادةً سياسية حازمة، وامانة عاصمةٍ فاعلة وكفوءة وموضع ثقة المواطنين، ووعي شعبي ووطني عام خاصة لدى سكان بغداد. ويمكن ايجاز بعض الخطوات، ومنها ما هو آني وعاجل، ومنها ذو طابع استراتيجي، بهدف اتخاذ خطوات لتحويل المدينة الى مدينة صديقة لسكانها وزائريها ومحبّيها، ولا اريد ان احلم فأقول تحاكي تاريخها ومجدها، وكما يلي:

  • العمل الجاد وطويل الامد على تقليل سكان بغداد من (7) ملايين نسمة الى (3) ملايين نسمة عن طريق تنمية الاقاليم والمحافظات وخلق فرص للعيش الكريم في مدن العراق الاخرى وتشجيع عودة النازحين والمقيمين الجدد في بغداد الى مدنهم الاصلية.

  • اعادة اعمار بعض احياء بغداد وتنميتها عموديا وتحريم تحويل جنس الارض، وخاصة الزراعية الى حضرية، والنظر بالغاء الموافقات السابقة خلال العشرين عاما الماضية مع تعويض مناسب للمواطنين ومنحهم فرص الاستقرار في الاماكن الجديدة

  • لقد اقترحت في مناسبات ومقالات سابقة تحويل مياه مجاري منطقة الكرخ الى المبزل الرئيسي المسمى بالمصب العام، وذلك لحماية نهر دجلة من التلوث، خاصة وان محطة الكرخ لمعالجة المياه الثقيلة عاطلة عن العمل، وان المصب العام هو عبارة عن قناة مصممة اساسا لنقل مياه البزل المالحة والملوثة ولا يستخدم لاغراض الشرب وغيرها من الاستخدامات الطبيعية لنهر دجلة، واريد هنا تكرار ذلك المقترح لما فيه من خدمة كبيرة للبلاد وللمواطنين وللبيئة.

  • ضرورة استخدام التكنولوجيا الحديثة التي تسمح بانشاء شبكات المجاري في الاحياء المبنية دون حفر التربة وقطع الطرق وتشويه الساحات، وهي تكنولوجيا متاحة ومستخدمة وليست غالية الكلفة وتسمى بالانكليزية (Trenchless Technology) وتجنب الطرق التقليدية بتنفيذ المجاري وهذه من الاجراءات العاجلة.

  • الاسراع بتنفيذ خطوط المجاري الرئيسية في العاصمة وهي خط القدس وخط الخنساء في جانب الرصافة، والخط الجنوبي- الغربي في الكرخ وغيرها، وازالة معوّقات الانجاز بصورة فورية، والشروع باعادة تأهيل وتوسيع محطة الكرخ او بناء محطة جديدة بديلة.

*) سفير العراق الدائم لدى منظمة التغذية والتنمية الزراعية فاو في روما التابعة للامم المتحدة

الصورة في الاعلى:  الخطوط الرئيسية لمجاري العاصمة بغداد

لتنزيل الملف بصيغة بي دي أف

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (3)

  1. Avatar
    رعد هاني:

    الامانة تتحجج بقلة التخصصيات المالية دائما في حين هي تسهم في زيادة كلف تنفيذ اعمال المجاري !
    في عام 2005 زرت افضل شركة في المانيا وحتى العالم متخصصة في انتاج معدات لتنفيذ مشاريع المجاري وبعيدا عن الامور الهندسية فالطريقة تتلخص بتقليل كميات الحفر ولا تتبع اسلوب التعريض المتبع من قبل الامانة في الحفر, فالالمان يتبعون عمل 25 متر حفر ومد الانبوب وردم وحدل وتبليط وباسلوب متعاقب ومع هذه المعدات ستكون الكلف اقل والارض لاتكشف وتصبح الشوراع حفر واطيان بل عمل منظم ومسيطر عليه وبسيط رجعت وزرت السيد الامين عبد الحسين حينها كان مدير عام التجارية وشرحت له الاسلوب لكنه لم يهتم وقمت ببيع المعدات لبعض الشركات العراقية التي فرض عليها فيلق المهندسين الامريكي استخدام هذه المعدات واعتمدها في شروط ومواصفات المناقصة ومنذ ذلك الوقت كلما ارى اعمال مجاري بالعراق ارى الفوضى وهدر المال واعمال لاتنطي اي انطباع ان هناك مهندس يشرف على العمل في المقابل اتذكر من زرت المانيا للاطلاع على اعمال المجاري ان المارة يمشون بقرب انبوب المجاري بدون ان تتسخ اخذيتهم

    • Avatar
      مهند محمد البياتي:

      اذكر في الثمانينات قامت شركه المانيه بمد خط مجاري رئيسي في شارع فلسطين و من دون القيام بعمل شق مفتوح بالارض، كانت تعمل فتحه في الارض كل 100 مترتقريبا و يتم مد الانابيب و ضخ الكونكريت و لم يتم منع المرور و لا حتى رؤيه الاتربه على الشارع، و حتما العاملون في امانه بغداد و المجاري يعلمون بذلك، و هي ليست بالجديده عليهم، و لكن من تولى الاداره في امانه بغداد كان جاهلا بكل شئ.

  2. د.مظهر محمد صالح
    د.مظهر محمد صالح:

    اتمنى ان تطلع لجنة الخدمات وكذلك لجنة البيئة في مجلس النواب العراقي المؤقر على هذا الدراسة المهمة التي ارفدنا بها الاستاذ الدكتور حسن الجنابي والتي وضعت النقاط على الحروف ، والتعامل مع المقترحات الواردة فيها بايجابية عالية ضمن البرنامج الحكومي .
    مظهر محمد صالح

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: