قطاع الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية

د. حسن الجنابي: العراق بين الصحراء والتصحر – التزامات العراق ضمن اتفاقية مكافحة التصحر ملزمة قانونيا

يتيح موقع العراق الكثير من التميّز على اكثر من صعيد، وبالاخص مناخياً وهيدرولوجياً. فهو يشكل انتقالة جغرافية بين الصحراء الجافة والحارة غرباً، والجبال الشاهقة الرطبة والباردة شمالاً وشرقاً، ويمثل الرافدان دجلة والفرات خط الفصل بين التكوينين، ويحصران بينهما وعلى ضفتيهما الشرقية والغربية اراضٍ خصبة وحقولا وبحيراتٍ ومسطحاتٍ مائية واهوارا سمحت بانطلاق اول حضارة بشرية قبل اكثر من خمسة آلاف عام.

وبالرغم من  ان العراق معروف بثرواته المائية الا ان الصحراء تغطي ثلثي مساحته، فيما تحاصر ظاهرة التصحر الآن ثلثه الآخر، وتقضي على خصوبة ارضه وتقلل انتاجيتها، وتزحف بشكل متسارع نحو خط الخصوبة الاخضر غربي الفرات، وتشكل ضغطا كبيرا على سكان الارياف وتجبرهم على ترك قراهم واماكن سكناهم الاصلية اذ لا قِبَل لهم بالاحتفاظ بأسباب العيش تحت تهديد التصحر المتصاعد.

 

الصحراء والتصحر:

ان الصحراء (Desert) هي نظام ايكولوجي مميز يعجّ بالحيوانات والنبتات البرية والتنوع الاحيائي الذي يسند دوراتٍ حياتيةً قابلة على الاستمرار والتكامل، وتعتمد سلسة الحياة فيه على ديناميكيته الداخلية وقدرته على التجدد. وهو بذلك  يشبه الانظمة الايكولوجية الاخرى، كالاراضي الرطبة (الاهوار) او السواحل البحرية، او مصبات الانهار الكبرى، او الجزر المرجانية، او الغابات الاستوائية وغيرها، حيث تتشابك وتتكامل بها حلقات الحياة باعتمادها المتبادل على بعضها البعض الاخر، وتشكل انظمةً طبيعية مكتفية بذاتها، وقابلة للاستمرار بقدر ثبوث مدخلاتها الاولية ودون تدخل تعسفي من قبل الانسان.

تغطي الصحراء ربع مساحة الارض اليابسة وتنتشر في اغلب القارات، كافريقيا وآسيا وامريكا الشمالية والجنوبية واستراليا، وتتميز بسيادة الطقس الجاف، والسرعة النسبية لحركة الرياح نتيجة اختلافات الضغط الجوي، الناتجة عن ارتفاع حرارة سطح الارض نهارا، والتباين الكبير في درجات الحرارة القصوى والدنيا، وكثافة عواصف الغبار وحركة الكثبان الرملية، الا انها تشهد كذلك سيولا وفيضاناتٍ موسمية في فترات متباعدة، تتجدد اثرها الحياة البرية والاعشاب والكلأ، وتنتعش بها الواحات وتتعزز منها موارد المياه الجوفية.

لذلك فان للصحراء قيمة اقتصادية وبيولوجية وثقافية وبيئية كبيرة اذا ما احسن استغلالها، بغرض استدامة مواردها والمحافظة على تنوعها الاحيائي، وهي جزء اساسي من الديناميكية والحيوية التي تتميز بها الحياة على كوكب الارض، وعاملا اساسيا في حفظ التوازن الجوي وحركة العناصر الاولية في دورتها الازلية على الكوكب.

اما التصحر (Desertification) فهي عملية تحوّل الارض الخصبة والرعوية في المناطق الجافة الى صحراء، اما نتيجةً لنشاط الانسان، او نتيجة للتغير المناخي، وهي في نهاية المطاف حالة قصوى من التردي في الوضع الطبيعي للتربة، تفضي الى القضاء على قدرتها في الانتاج، او في الاحتفاظ بمكوناتها الحيوية وخصوبتها الساندة للحياة البيولوجية، او في طاقتها الكامنة على الاستخدامات الاخرى، فتتحول الى ارض جرداء قاحلة ومميتة، وبالتالي لايمكن لاية مجموعة بشرية مواصلة حياتها ونشاطها الاقتصادي عندما تستبد بارضها ظاهرة التصحر، فتسبب تدهورا في الانظمة الايكولوجية وخدماتها المعتادة، وتهدد حصول المجتمعات على المياه والغذاء او وسائل الطاقة الاخرى، وتؤدي الى افقار السكان والقضاء على مقومات واسباب حياتهم الانسانية، وتجبرهم على الهجرة الى اماكن اخرى، قد لاتقل قسوةً، ولا تصمد بالنتيجة طويلا امام شبح التصحر المستشري، في ظل تغيرات مناخية غير مفهومة وغير مألوفة لهم، وانعدام قدرتهم على التكيف مع شروط مناخية جديدة، بسبب فقرهم كمجموعات بشرية هشة تعيش على ما تتيحه لهم الارض من كلأ وعشب ومزروعات، تعتمد بدورها على هطول امطار شحيحة لا يمكن التنبؤ بها في الاساس.

ان ما يميز التصحر كصيرورة (Process) هو انها في حالة تمدد دائم، ولا يمكن ايقاف توسعها المستشري الا بافعال ميدانية كبرى بحجم التحدي الذي تمثله الظاهرة باعتبارها عابرةً للحدود، والقارّات اذ تمثل بدون شك تحد عالمي الابعاد.

من المفيد الاشارة اليه، ان قمة الارض في البرازيل عام 1992 اكدت بوضوح ان تحديات التنمية المستدامة التي تواجه البشرية تتمثل بثلاث ظواهر اساسية: اولها انتشار التصحر، وثانيها التغير المناخي، وثالثها فقدان التنوع البيولوجي على الارض، ولذلك فقد عقدت اثر ذلك الاتفاقيات الدولية الشقيقة الثلاثة المعنية بمكافحة التصحر (UNCCD) واتفاقية التغير المناخي (UNFCCC) واتفاقية التنوع البيولوجي (CBD).

لقد مثّل اطلاق الاتفاقيات الثلاثة، علامة بارزة وقفزة نوعية في مواجهة تحديات لم تكن مأخوذة بنفس الجدية في السابق. ومن اللافت ان اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة التصحر، والتي تركز اساسا على المناطق الجافة والمهددة بالتصحر، وبمصير سكانها الذين يعانون الفقر نتيجة لهشاشة بيئتهم الاقتصادية وضعفها، هي اتفاقية ملزمة قانونا للدول الاعضاء، على عكس شقيقيتها الاخرتين، اي الاتفاقية الاطارية للتغير المناخي واتفاقية الامم المتحدة للتنوع الاحيائي.

العراق ومكافحة التصحر:

صادق العراق على اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة التصحر في عام 2009 وهو الآن عضو فيها، وبذلك يكون ملزما قانونيا باتخاذ تدابير تفرضها عضويته بالاتفاقية للحد من تفشي ظاهرة التصحر، فضلا عن المسؤولية الوطنية التي تحتّم مكافحة التصحر باعتبارها سببا رئيسيا لمشاكل عديدة في البلاد وفي مقدمتها الفقر.

لقد اثبتت تجارب العالم ان ايقاف التصحر افضل واقلّ كلفة بكثير من اعادة تأهيل الارض المتصحرة، ان حصل في اوقات لاحقة، لأن الكثير من اضرار التصحر يبقى دائميا، وغير قابل لاعادة التأهيل، ولايمكن معه استرجاع خصائص التربة الخصبة، او اعادة المهجّرين بيئيا الى مواطنهم الاصلية، او استعادة الحلقات والعناصر الحيوية التي فقدت الخ.

لذلك فان اجراءات مكافحة التصحر الوقائية الميدانية اكثر فاعلية لحماية مصالح المجتمع والدولة، وهي بالاضافة الى كونها واجب وطني وانساني وقانوني على الدول الاعضاء في اتفاقية مكافحة التصحر، فانها بنفس الوقت تترجم كمشاريع تصب مباشرة باستراتيجية مكافحة الفقر ومنع الهجرة والنزوح من الارياف لانها توفر عناصر الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وفي مقدمتها فرص عمل للآلاف من المواطنين.

وتذكيرا بالمقال الذي نشرته جريدة الصباح حول مقترح الحزام الوطني الاخضر (20 كانون الاول 2012) مازلت اعتقد بالضرورة القصوى لتلك المبادرة وادعو الى تبني سياسات وبرامج تهدف الى انشاء الحزام الوطني المقترح، والذي يمثل في حال انشائه خط الدفاع الاول للعراق في مقاومة الزحف الصحراوي وإيقافه عند الحدود الغربية لأرض الجزيرة العراقية الخصبة تاريخيا غربي نهر الفرات.

ان تقلص الغطاء الاخضر امام التمدد الصحراوي الزاحف، واشتداد كثافة العواصف الترابية، يهدد الصحة العامة للسكان ويؤدي الى تفشي الفقر والامراض والهجرة من الارياف، ويسبب اضرارا بيئية واقتصادية كبيرة، ويقضي على التنوع الاحيائي في البيئة، ويتطلب اتخاذ اجراءات فورية لتطبيق برنامج طويل الامد يهدف الى مقاومة وايقاف انتشار ظاهرة التصحر في العراق.

* سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)

لتنزيل ملف بي دي أف انقر هنا

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: