الموارد المائية و حماية البيئة

د. حسن الجنابي: الارهاب واستهداف منشآت الري في العراق

اولا:

احتل الارهابيون سدة الفلوجة على الفرات قبل شهرين وقد فاجأ ذلك الجميع، مسؤولين ومواطنين، ووضعهم امام حقائق لم تخطر ببال احد من قبل. فقد اعتاد الناس الحديث عن “حرب المياه” منذ التسعينيات، وكان يقصد بها حروبا محتملة بين دول تشترك بانهار دولية عابرة للحدود، نتيجة السيطرة غير المسبوقة على الموارد المائية في المنابع واعالي الانهار وزيادة استخداماتها المتنوعة وتلويثها، ما خلق حالة من التنافس بين الدول المتشاطئة لم تألفه من قبل. وعلى خلفية التناقضات السياسية والتوترات الاقليمية والحروب المتعاقبة التي نسبت او ارتبطت فعليا بالصراع على موارد الطاقة، انتشر استخدام مصطلح “حروب المياه” في الصحافة الى درجة كبيرة، نظرا لشحة الموارد المائية المشتركة والافراط في السيطرة على المنابع، وتداول افكار تصدير او استيراد المياه، والغياب التام للاتفاقيات الدولية الطويلة الامد لقسمة المياه المشتركة بين الدول المتشاطئة، فجعل ذلك احتمال قيام الحروب امرا متوقعا.

لكن الارهابيين ذوي العقلية الشريرة المخربة، جعلوا “حرب المياه” حربا داخلية تستخدم بها المياه كسلاح لتحقيق مآرب سياسية واهداف عسكرية، ضاربة بذلك عرض الحائط الحقوق الانسانية والقوانين الدولية واعراف الحروب التي تحرم استخدام او تدمير المنشآت المدنية المائية وتعريض السكان لخطر العطش او الموت.

ثانيا:

سدة الفلوجة هي منشأ هيدروليكي كبيرعلى نهر الفرات، تقع على مسافة (5) كم جنوب مدينة الفلوجة الفراتية، انشأت عام 1985 للتحكم بمياه الفرات وبالاخص لتأمين ارواء مشاريع استصلاح كبرى تغطي مئات الآلاف من الدونمات تمثل سلة غذاء العاصمة بغداد ومحافظة بابل، وهي مشاريع ابو غريب والرضوانية واليوسفية واللطيفية والاسكندرية، فضلا عن التحكم بجريان نهر الفرات جنوبا، وبالتالي فان تشغيلها بعكس وظيفتها الاصلية، او بقصد الاساءة واحداث الضرر يعرض محافظات بغداد وبابل وكربلاء والنجف والديوانية والمثنى والناصرية والبصرة الى ضغط مائي وغذائي، بل يمثل تهديدا وحرمانا اذ قد يصل درجة العطش المميت في مناطق معينة واغراق مساحات اخرى، تسفر بالنتيجة عن حالة من العطش والجوع والنزوح وفقدان سبل العيش والاستقرار، ويخلق بيئة مناسبة لتفشي حالات الفقر وعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، التي تغذي بدورها شروط تمزيق النسيج الاجتماعي وانتعاش الارهاب.

ثالثا:

تضم قائمة البنى التحتية والمنشآت المائية المهددة او المستهدفة من قبل الارهابيين سلسلة من المنشآت الكبرى والحرجة التي تهدد الامن المائي والغذائي في العراق ومنها:

  1. سدة الرمادى على نهر الفرات وتقع الى الشمال من سدة الفلوجة، وقد انشأت في الخمسينيات للتحكم بجريان الفرات جنوبا اوبتحويل تصريفه الى بحيرة الحبانية.
  2. سد حديثة، وهو ثاني اكبر سد في العراق بعد سد الموصل على نهر دجلة، انجز في اواسط الثمانينيات وبامكانه ان يتحكم بجريان نهر الفرات جنوبا الى درجة كبيرة، وتبلغ سعته الخزنية حوالى (8) مليار متر مكعب، اي بحدود 50% من معدل جريان الفرات عند الحدود السورية خلال العشرين عاما الاخيرة، ويسهم في توليد الطاقة الكهرومائية التي ترفد العاصمة بغداد بجزء من احتياجاتها للطاقة.
  3. منظومة بحيرة الثرثار بدءً من سدة سامراء على نهر دجلة، وانتهاءً بمنافذها الى نهري الفرات ودجلة التي تتحكم بها نواظم كبيرة تسمح لبحيرة الثرثار من لعب دور محوري في ادارة الموارد المائية في العراق، في حماية بغداد من الفيضان وفي تحويل المياه بين نهري دجلة والفرات لتعزيز تصريفهما عند الحاجة.
  4. سد الموصل، وهو اكبر سد على في العراق يتسع لخزن (11) مليار متر مكعب من المياه، اي اكثر من (50%) من معدل ايرادات نهر دجلة من تركيا، استكمل انشاؤه في اواسط الثمانينيات، ويعاني السد منذ ذلك الحين من مشكلات فنية في اسسه نتيجة انشائه على تكوين صخري غير مناسب، تتسبب باحداث تجاويف وفراغات تحت اسس السد وتعرضه الى خطر الانهيار خاصة اذا توقفت اعمال التحشية الكونكريتية الجارية منذ اكتمال السد ولحد هذه اللحظة.

رابعا:

يتمثل الخطر الارهابي الهادف للسيطرة على المنشآت المتحكمة بمياه الرافدين، في القدرة على احداث اضرار كبرى تقارب في حجمها التدميري استخدام اسلحة الدمار الشامل. فعلى سبيل المثال يمكن تعريض اجزاء شاسعة من العراق بدءً من شمال بغداد حتى مصب النهرين بالخليج

الى عطش قاتل بنفس الوقت الذي يمكن فيه اغراق المساحات المزروعة والاراضي الخصبة شمال وغرب بغداد، حيث يقضى بها على المنتوج المحلي ويتسبب في افقار فئات شعبية كبيرة تعيش على فلاحة الارض.

اما السيطرة على موقع سد الموصل او عرقلة الصيانة اليومية المستمرة منذ اواسط الثمانينيات للسد، اي منع التحشية الاسمنتية لأسس السد، يقلل من سلامة السد الذي سيحدث في حال انهياره فجيعة كبرى، اذ سيغرق مدينة الموصل والمدن والقرى الاخرى على عمود النهر حتى مدينة بغداد، ويحدث دمارا شاملا بالارواح والممتلكات.

خامسا:

ان جعل السيطرة على منشآت الري هدفا من اهداف الارهاب يطرح تحديات كبرى على الدولة العراقية، اذ انه يعكس بدءً ان لاحدود للمخيلة الارهابية في انتقاء الاهداف المطلوب تدميرها، او استخدامها في النزاعات للحصول على مكتسبات يرجى منها اضعاف الدولة وضرب اسسها، وتخريب النسيج الاجتماعي، وتدمير الشروط الساندة للحياة، وكل ما يسبب الفوضى ويشيع الخوف والرعب في نفوس المواطنين.

اما التحدي الاكبر فهو هشاشة النظام المائي في العراق، الذي كان معروفا بكفائته، لجهة التحكم بادارته من خلال سلسلة محكمة من المنشآت المدنية التي اقيمت منذ النصف الاول من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، بغرض الارواء وتوليد الطاقة والتزود بمياه الشرب والاحتياجات التقليدية الاخرى. فالمنشآت الكبيرة المرتبطة عضويا ببعضها، بحكم وظيفتها، كالسدود والخزانات، لابد ان تتوفر على نظام حماية كاف يمنع سقوطها من يد الدولة مهما كانت الظروف قاسية، لذلك فان سقوطها بيد الارهابيين يخلخل اسس الاستقرار ويضعف هيبة الدولة ويعرض المجتمع الى مخاطر جمة، ويجعل النظام المائي هشا.

من الجدير ذكره ان العديد من المختصين يرون ان افضل طريقة لادارة الموارد المائية هي في الحفاظ على وضعها الطبيعي دون اللجوء الى اقامة المنشآت الكبرى، التي قد تزيد مخاطرها في احيان كثيرة على منافعها، وان التطورات الاخيرة التي تكشف سعي الارهابيين للسيطرة على منشآت الري قد توحي بصحة هذا الرأي، وبغض النظر عن مديات قبول او رفض هذا الرأي، وعدم امكانية تطبيقه في ظروف العراق، اذ لعبت منشآت الري العراقية ومنذ القدم دورا بارزا في تقدم البلاد وتحقيق استقراره،  لا يوجد خيار آخر سوى تكثيف الجهد الوطني للحفاظ على ممتلكات الشعب من سدود وخزانات وغيرها ولمنع وقوعها تحت سيطرة الارهابيين.

*سفير في ديوان وزارة الخارجية ومختص بالموارد المائية

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: