دراسات اجتماعية وثقافيةمظهر محمد صالح

د. مظهر محمد صالح: الطبقة الوسطى في العراق

Download PDF

-تمهيد

ا- من هي الطبقة الوسطى ؟

لم تخرج الطبقة الوسطى في نشؤها وتطورها عن مسيرة تطور اوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال المئة عام الاخيرة .فمنذ الحرب العالمية الاولى في العام 1914 وحتى العام 2014ميلادية،تشكلت الطبقة الوسطى وازدهرت ومن ثم انكفأت وأعادت تشكيل نفسها مرة أخرى مع تطور حياة الدولة العراقية الحديثة.حيث اسهمت الدولة في عقود متفاوتة في بناء راس المال البشري وترسيخ حقوق الملكية ونشوء الراسمالية الوطنية التي جميعها آزرت انبثاق الطبقة الوسطى التي تخطت حواجز الفقر .وهكذا امسكت تلك الطبقة بمهارتها الفكرية والثقافية ومقدرتها على ادامة محوريها الاساسيين وهما الملكية الفكرية والملكية المادية بما فيها الشغيلة الوطنية التي تعمل بما تمتلكه من ادوات انتاجها بنفسها.عرفً عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر الطبقة الوسطى،بكونها الطبقة التي تجلس في وسط الهرم الاجتماعي وهي في الاحوال كافة مجموعة واسعة من الناس انبثقت في المجتمع الحديث وحسب المفهوم الاقتصادي الاجتماعي،لتؤدي مساهمة اجتماعية –اقتصادية وهي تقع بين الطبقة العاملة و الطبقة العليا الثرية.وان المقياس المشترك لهذه الطبقة هي راس المال البشري ويتم التعامل معها بكونها راس مال ثقافيcultural capital .وتعود تسمية الطبقة الوسطىmiddle class الى الكاتب الايرلندي جيمس برادشو في مؤلفه الصادر في العام 1775الموسوم:مشروع التصدي لتهريب الاصواف الايرلندية الى فرنسا.إذ عّرج الكاتب متناولاً تعبير الطبقة الوسطى بكونها تتوسط موقعاً بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين في اوروبا.ويلحظ ان برادشو كان يحاول الاشارة الى الراسمالية بكونها الطبقة الوسطى التي صارعت طبقة النبلاء واشعلت الثورة الفرنسية.والتي تسمى بالبرجوازية الصغيرة التي هي اليوم خليط من الارستقراطية العمالية وموظفي الشركات والمصالح وموظفي الحكومة وهم تاريخياً نتاج الثورات الصناعية المتتالية .ولما كانت الطبقات في المفهوم الماركسي هي حسب قدرتها على تملك وسائل الانتاج ،فأن الطبقة الوسطى هي التي تقع بين البرولتاريا (العمالية )التي لاتملك سوى قوة عملها وبين القوى المسيطرة او السائدة المالكة لوسائل الانتاج.وعلى صعيد العراق ،يصف الكاتب حيدر قاسم الحجامي في مقاله الموسوم :تراجع الطبقة الوسطى(صوت اليسار العراقي/2009) منوهاً))بان الطبقة الوسطى هي التي تتوسط هموم الطبقتين الاُخريين…إذ تنحدر الطبقة العليا الثرية نحو الخمول الفكري وهي تنغمس في تعظيم الربح وتراكم راس المال،في حين تكابد الطبقة العمالية والفقيرة هموم العيش وضعف قدرتها على بلورة مطالبها.ويقول الحجامي…ان الطبقة الوسطى هي من اكثر الطبقات قدرة على بلورة افكارها وتنظيم مطالبها وصياغة حركتها في الحراك السياسي …وان الرخاء النسبي الذي تتمتع به الطبقة الوسطى يمنحها الاستقلال والاستقرار في الحراك الاجتماعي وقيادته…كما ان مقوماتها التعليمية وبنيتها الثقافية مكّنها من ان تطرح نفسها كطبقة متخصصة قادرة على قيادة التنظيمات في ظل النظام المدني)).

ففي الشرق تنعزل الطبقة الثرية عموماً وتغترب عن واقعها الاجتماعي وتتوحد بمشاربها متجانسة بالمركز الراسمالي الغربي كمركز مصلحة ولايجمعها بالطبقات الاجتماعية الاخرى في مواطنها الا إستثناءً عندما تقتضي مصالحها الطارئة إرتداء البستها المناطقية او القومية اوالطائفية الدينية لتتلون بها مؤقتاً لكي تُعظم من ديمومتها ومرتكزاتها الطبقية وديناميكية اتساع ثرواتها في الداخل. فالاندماج المؤقت بالطبقات الاخرى الادنى داخل بلدانها لابد من ان ينتهى الى حالة انسلاخ  من المنظومة المحلية بكل الوانها عند انقضاء الحاجة،عندها تنعزل الطبقات الثرية عن اوطانها فكرا وثقافة  وحضوراً ، لكي تذوب كرة أخرى في منظومتها المركزية الراسمالية الخارجية مكرسة مصالحها الدائمية ذات اللون الواحد  ،المتمثل بالتراكم الراسمالي، وعبر نسيج اجتماعي احادي مغترب مازال يتشكل عبر البحار!! (دراما الشرق/مظهر محمد صالح-مجلة الحوار2012).

لقد تنامت الطبقة الوسطى عالمياً في القرن الحادي والعشرين وبشكل متسارع. ففي ظل ظاهرة تطور اقتصادات البلدان ذات الاسواق الناشئة التي امسى عددها اليوم  يناهز اربعة وخمسين دولة وهي تحصد حوالي 45% من الناتج الاجمالي العالمي ويتوقع ان تزداد مساهمتها في الناتج الاجمالي العالمي المذكور الى 70% في العقدِ القادم من الزمن،وهي مازالت تستهلك نصف صادرات النفط العالمي وتهيمن على نصف الصادرات الدولية وتحظى ديموغرافياً بنحو 80% من سكان العالم وتحتفظ بنحو75% من الاحتياطيات الرسمية للعملة الاجنبية ويتزايد سكانها بواقع 6ملايين نسمة شهريا مقابل 300الف نسمة في العالم الصناعي الاول.وعلى هذا الاساس

اثار الكاتب جون باركر محرر مجلة ذي ايكونومست اللندنية ومراسلها في شؤون التنمية والبيئة خلاصة لتقريره الذي تناولته المجلة المذكورة في عددها الصادر في13 /شباط/ 2009 والذي استعرض فيه تطور الطبقة الوسطى في القرن الحادي والعشرين  تحت عنوانSpecial Report-Burgeoing bourgeoise، اي برجزة البرجوازية قائلاَ:إن ما يميز الطبقة الوسطى في العالم اليوم هو حصولها على دخل معقول متخطية فيه ظاهرة ما كان يسمى :من اليد الى الفم! او بالاحرى هي الطبقة التي بمقدورها إدخار قرابة (ثلث) مدخولاتها بعد تسديدها لمتطلبات العيش كافة وبشكل لائق من مأكل وملبس وماْوى وغيرها.ولكون الدخل في الغرب الصناعي هو ليس الدخل نفسه الذي تحصل عليه بلدان آسيا ذات الاسواق الناشئة المشار اليها في اعلاه،الا ان الطبقة الوسطى التي يمكن ان تعيش بشكل لائق قد أخذت في الارتفاع وربما امست تزيد على مثيلاتها في الغرب. ففي الصين ومع اعتماد سياسة السوق،نمت الطبقة الوسطى فيها من 15% في العام 1990 الى حوالى62% في السنوات القليلة الماضية.في وقت مازالت الطبقة الوسطى الامريكية لاتشكل سوى 45% من سكان الولايات المتحدة.ويعود تطور الطبقة الوسطى في الصين كما يقول جون باركرالى دور السوق في نهضة النمو الاقتصادي ونشوء المدن وتحول الفلاحين الذين كانوا يعيشون عند مستوى الكفاف الى عمال مصانع بانتاجية عالية ودخل اعلى وتوفيرمدخرات ودورهم في تعظيم صادرات الصين الى العالم وخلق المزايا النسبية والقدرة التنافسية للتجارة الصينية.وان سكان آسيا في المتوسط هم يتمركزون في الشكل عند الجانب الايسر الملتوي لمنحنى التوزيع الناقوسيleft skewed bell shaped curve .وبخلاف ذلك مازالت الطبقة الوسطى في روسيا لاتزيد على 15% من السكان حتى العام 2012 بسبب نمو راسمالية القلة /اوليغارشية وتزايد اعتمادها على المواد الاولية او الخام بدل المنتجات المصنعة النهائية في تعظيم صادراتها. وعلى الرغم من ان مجموعة بلدان الاتحاد الاوروبي لاتساهم في الناتج الاجمالي العالمي الا بنسبة25% وان سكانها لايشكلون سوى7% من سكان العالم، الا ان ماتنفقه دول الاتحاد الاوروبي على برامجها في الرعاية  والامن الاجتماعي تعادل 50% مما تنفقه دول العالم مجتمعة على برامجها في الرعاية الاجتماعية.وهو الامر الذي جعل سكان الاتحاد الاوروبي هم الاوسع في العالم ممن تضمهم صفوف الطبقة الوسطى وقد تتعادل مع الصين في هذا المضمار.

ب-التصنيف الاقتصادي للطبقة الوسطى في العراق

قد يكون من الصعب تصنيف الطبقة الوسطى العراقية على وفق الدخل السنوي لتحديد شرائح الطبقة الوسطى في اقتصاد ريعي شديد الاحادية الى حدِ ما. إذ مازال انتاج الثروة النفطية يتقاسم نصف الدخل القومي السنوي ،كما ان 95% من الموازنة العامة للبلاد تعتمد على موارد الريع النفطي في ادامة التشغيل والاستثمار.فهناك 5-6 ملايين اسرة عراقية يمثلون 20 مليون نسمة تعتمد بشكل مباشر على المرتبات الحكومية الشهرية ،سواء من الموظفين اوالمتعاقدين مع الدولة  الذين يبلغ عددهم جميعاً بنحو 4 ملايين منتسب حكومي عدا شريحة المتقاعدين وغيرهم.

وعلى الرغم من ذلك،فقد صنف العراق من قبل البنك الدولي مؤخراً بكونه واحد من مجموعة  البلدان التي تقع في الجزء العلوي  من المجموعة الدولية المتوسطة الدخل .فمتوسط دخل الفرد العراقي السنوي يلامس 7000 دولار في الوقت الحاضر مرتفعاً من متوسط بلغ750دولار سنوياً في مطلع الالفية الثالثة ذلك ابان فرض العقوبات الدولية على العراق.واذا ما اخذنا معيار متوسط الدخل السنوي للفرد العراقي،فان الواقع يقتضي التعرف على شرائح الطبقة الوسطى ومقدار اقترابها او تشتتها عن المتوسط العام لدخل الفرد السنوي.

تنقسم الطبقة الوسطى عموماً ، بين طبقة وسطى عليا / وطبقة وسطى متوسطة/ وطبقة وسطى دنيا/يفرق بينها مستوى الدخل والمستوى التعليمي و الحالة الاجتماعية.ولكن القاسم المشترك الذي يجمع الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها هي كونها الطبقة التي يتساوى فيها الاجر الحدي مع الانتاجية الحدية.فالمعيارهنا هو انتاجيتها في تحديد سعة دخلها./انور ابو العلا- إقتصاديات الطبقة الوسطى/معهد الدراسات العربية/شباط-2014

ولكن مفارقة الاقتصاد الريعي لاتجعل من معيار الانتاجية الحدية  موفراً لرابطة مباشرة في تساوي تلك الانتاجية مع الدخل او الاجر بالضرورة،خصوصاً اذا ما علمنا ان انتاجية الموظف الحكومي في العراق هي بحدود 17 دقيقة من يوم العمل الفعلي ! ويتقاضى رب الاسرة الافتراضي المشتغل في واحدة من وظائف  الدولة اجراً كاملاً عن يوم العمل البالغ ثمان ساعات فعلية.

وبغض النظر عن مستوى الدخل الكلي للبلاد ومصادر تحصيله وتوزيعه سواء جاء من الريع النفطي اوغيره ،فأن المعيار التعليمي هو المعيار المعول عليه في رسم وتحديد الطبقة الوسطى الذي يتسع مع ازدياد المؤسسات التعليمية وتعاظم مخرجاتها وتطور وانتشار وسائل الاتصال الجماهيري وارتفاع الوعي الاجتماعي والتي اصبحت اليوم في متناول الطبقة الوسطى. وعلى الرغم من ذلك،فان الدخل هو مصدر العيش وضمان الاستقرار والامن الاجتماعي،فضلاً عن دوره في بلورة الطبقة الوسطى وتمكينها في بناء مشروعها النهضوي وصياغة الهوية الوطنية الموحدة للبلاد والدفاع عن الديمقراطية والتصدي لاشكال الاغتراب كافة.

فأذا كانت الطبقة الوسطى( حقيقية او محتملة)تشكل 60% من المجتمع العراقي الحالي،فيمكن تقسيمها وعلى وفق معيار الدخل الى الشرائح او الفئات الاتية:

الطبقة الوسطى العليا

وتمثل حوالي 15% من اجمالي الطبقة الوسطى وهم رجال الاعمال وكبار موظفي الدولة والتكنوقراط واصحاب المهن الحرة من صناع السوق.اذ يزيد  متوسط دخل الفرد فيها على 12الف دولار سنوياً. كما ان مجموع الدخل الاسري السنوي لهذه الطبقة هو بنحو 50-60 الف دولار.

الطبقة الوسطى المتوسطة

وتمثل السواد الاعظم من موظفي الدولة وشرائح مشابهة تعمل في نشاط السوق من مهندسين وفنيين واداريين وشريحة محدودة من المتقاعدين وغيرهم  وبنسبة 50% من اجمالي الطبقة الوسطى. وان متوسط الدخل السنوي للفرد فيها هو بنحو 7000دولار وان دخل الاسرة السنوي لهذه الطبقة هو ما بين 30- 35  الف دولار.

الطبقة الوسطى الدنيا

فهي تمثل صغار الموظفين والشرائح العاملة في السوق المماثلة لها من الشغيلة وبعض فئات المتقاعدين والعاملين من ذوي المهارات المحدودة ويمثلون نحو 35% من الطبقة المتوسطة ويبلغ متوسط دخل الفرد السنوي بنحو 5 آلاف دولار واجمالي الدخل السنوي الاسري حوالي 20-30 الف دولار.وهي تعيش فوق خط الفقر، اي بمعنى انها تمتلك مرونة بنسبة 75% في الحصول على المأكل والملبس والمأوى والتعليم والصحة.

 2-فرضية البحث

إن تقييم نشؤء الطبقة الوسطى في العراق في مطلع عشرينيات القرن الماضي ومراحل التطور اللاحقة وحتى تدهورها في تسعينيات ذلك القرن  ومن ثم إعادة تشكيلها في مطلع القرن الحادي والعشرين ،أمرأً ارتبط بدورة حياة الدولة العراقية وتطور مواردها  ولاسيما الريعية منها ومراحل انحسار ذلك الريع او تبعثره وصعوده ثانية. ففي كتاب صدر مؤخراً عن جامعةYale   للمؤرخ الاقتصادي فلوريان سوشني والذي حمل عنوان:التقشف-:الفشل العظيم.حيث ربط الكاتب بين نشؤء النظم الدكتاتورية واعتماد التقشف في الموازنة العامة لآي بلد .إذ كان مثاله في ذلك ان النازية الالمانية ولدت من رحم التقشف الذي اصاب سياسة الموازنة العامة في المانيا قبل مجيء النازية (الهتلرية) الى الحكم في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي والتي جلبت الفقر وأدت الى تاكل  جدران الطبقة الوسطى.ويرى الكاتب انه مع تطور دور الدولة في الحياة الاقتصادية اصبح العالم اكثر حرية عما كان عليه قبل 100عام عندما كان دور الدولة الانفاقي منحسراً  في نطاق ضيق او محدود .

ان منهجية الدراسة التي بين يدينا تنطلق من فرضية مفادها: ان نشوء الطبقة الوسطى وتطور دورها ينبثق من خلال دور الدولة الحديثة في العراق وتفاعلها مع السوق .ولم تبتعد  فروض هذه الدراسة  عما جاء به الكاتب فلوريان سوشنيFlorian Schuni-2014 في كتابه التقشف أنفاً.أذ ان نشوء الطبقة الوسطى في العراق وتدهورها هو رهين بتكامل دورة حياة الانفاق الحكومي المعظم للنمو مع نهوض السوق ودورها الاقتصادي فضلاً عن دور القوى البشرية الفاعلة من راس المال البشري في تشكيل البنية المجتمعية والاقتصادية وهو مانسميه هنا: بالانموذج الديناميكي الموجب في خلق الطبقة الوسطى وولادتها.

فعندما يكون الانفاق الحكومي خارج دورة الحياة الاقتصادية والمجتمعية( التنمية والتقدم الاقتصادي )سواء الانفاق الموجه للحرب(مثالها الحرب العراقية –الايرانية) وتمويل ذلك الانفاق عن طريق الانغماس في الديون الدولية، فهو تقشفAusterity بحد ذاته ولكن بنمط انفاقي موجه لمصلحة الحرب وخدمة الدين العام.كما ان حالة الحرمان من المورد الريعي النفطي الذي يشكل المورد السيادي الاول في بنية النفقات العامة للعراق  (مثالها غزو الكويت وفرض العقوبات الدولية على العراق) ومن ثم اللجوء الى التمويل العبثي للموازنة العامة بالوسائل التضخمية عن طريق خلق الدين العام الداخلي المولد للاصدار النقدي المفرط ومن ثم تقاضي ضريبة التضخم الاجباري من الافراد بنهب سبل العيش والرفاهية منهم .وهكذا  يحول التقشف فئات الشعب الواسعة من الطبقة الوسطى الى فئة الطبقة الفقيرة وتحويل الطبقة الفقيرة الى فئة مسحوقة تماماً. إذ غدت سياسة التمويل بالتضخم في حقيقة الامر شكلاً من اشكال التقشف ، حيث قوّت الدكتاتورية ومسخت الطبقة الوسطى وجعلتها دون خط الفقر وهو الانموذج الديناميكي السالب في تدهور الطبقة الوسطى وتآكلها الواسع في تسعينيات القرن الماضي.

3-صعود الطبقة الوسطى وانحدارها

ا-الانموذج الديناميكي الموجب

على الرغم من ان تاريخ الطبقة الوسطى في العراق ينتمي الى ولادة الدولة العراقية في العام 1921 وانها تدين في نشأتها الى انتشار المدارس النظامية والمعاهد العالية وتطور الصحافة ونمو الجمعيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتحاق المتخرجين بالوظائف العامة،فضلاً عن استبدال طبقة (الافندية) ذات الثقافة العثمانية بشيوخ العشائر وملاك الاراضي( وشبه) الاقطاعيين والتي جاءت بفعل عوامل خارجية وعوامل داخلية كما يذكرها الكاتب صلاح حسن الموسوي في دراسته الموسومة:دور الطبقة الوسطى في العراق/صوت اليسار العراقي-2009 وهما:اولاً ،شخصية الملك فيصل الاول وتغير منطق السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الاولى والعامل الاخر هو،نجاح الثورة البلشفية في روسيا وتاثيراتها على الشرق والمباديْ الاربع عشرة للرئيس الامريكي نيلسون التي اعلنها في خطابه امام الكونغرس في 18 كانون الثاني 1918والتي ركزت على اعادة بناء السِلم والامن الدوليين و جاء من بينها تركيزه على اهمية  اعطاء الشعوب غير التركية حق تقرير المصير وتوفير حرية الملاحة ومرور البضائع….الى آخره.والتي جميعها ،كما يقول الكاتب صلاح حسن الموسوي في دراسته آنفاً قد غذت نشوء الطبقة الوسطى التي اتحد بزوغها مع تعاظم التعليم ونشوء البرجوازية الوطنية (السوق الوطنية)التجارية والصناعية التي كان مطلبها الاساس هو الاشتراك في السلطة وعدم اقتصاره على ابناء الطبقة الاقطاعية المتمثلة بشيوخ العشائر والشريفيين من العسكر وابناء العائلات الثرية ممن تلقى تعليمه في الاستانة او الغرب.

كان التحول نحو نظام السوق كما يقول المفكر الراحل حنا بطاطو في تحليله للطبقات الاجتماعية في العراق،جاء بسبب تركز الاراضي بيد عدد محدود من شبهه الاقطاعيين الاثرياء ليقوموا بتأدية وظيفة أخرى هي حفظ النظام ،مما سبب انهيار نظام الاكتفاء الذاتي لجموع الفلاحين بسبب شدة الاستغلال وحصول هجرة واسعة من ارياف العراق الى مدنها وتعرض المجتمع الزراعي الى افتقار بشري شديد ليصب في مصلحة المدن والعمل في قطاع الخدمات والانصهار بالطبقة الوسطى تدريجيا،بل العمل على نشأتها.

من اللافت ان المفكر الراحل حنا بطاطو في موسوعته في دراسة المجتمع العراقي الحديث قد افلح بمنهجيته التي جاءت مزيجاً من الفيبرية والماركسية كما يقول استاذ الاجتماع ابراهيم الحيدري في مقاله الموسوم :حنا بطاطو وتحليل الطبقات الاجتماعية في العراق/تموز-2013.اذ يستنتج الحيدري مايلي((…فبالاضافة الى هرمية الثروة..فهناك هرمية دينية وهرمية عشائرية وطائفية الى جانب هرمية السلطة والمكانة الاجتماعية.إذ شّكل مُلاك الاراضي في بداية الدولة الحديثة(طبقة بذاتها)ولكنهم تحولوا في اربعينيات القرن الماضي وخمسينياته الى (طبقة لذاتها) واخذت تدعوا لنفسها سياسياً ازاء ظهور الطبقة الوسطى التي اْخذت تنشأ وتنمو وتنشط مع تزايد سكان المدن وارتفاع القاطنين في بغداد الى اربع مرات بين العام 1922 وحتى العام 1957 خصوصاً بعد تحلل العشيرة الاقطاعي وتدفق الريع النفطي الذي اسهم في تفكك الهرمية الريفية،والتحول نحو اقتصاد السوق التجاري والصناعي واندماج الزراعة تدريجياً بقوة الاسواق المتنامية في المدن والحواضر.كما ان انتشار التعليم والصحة والطرق والمواصلات ساعدت على ولادة قوة اجتماعية جديدة هي الانتلجنسيا او المثقفين  التي تطورت لديها عوامل إيديولوجية كالروح القومية او الارتباط بالشعور الاممي او الديني،فضلاً عن توافر قدرة منظمة في التعبير عن آرائها ،مما ساعد على صعود الطبقة الوسطى وفقدان الطبقة النافذة (من مُلاك الاراضي والاقطاعيين وغيرهم) مواقعها لمصلحة الطبقة الوسطى)).ومن هذا يُستدل بأن الاهمية الاساسية للطبقة الوسطى ودورها التاريخي يأتي من كونها طبقة انتقالية تلتئم فيها مصالح فئوية او طبقية مختلفة،وان دورها التاريخي كما يقول استاذ الاجتماع لطفي حاتم في دراسته الموسومة:الطبقة الوسطى ودورها في خراب الدولة العراقية/تموز2007 منوهاً:بأن دور الطبقة الوسطى التاريخي في العراق اكتسب اهميته بسبب غياب الدور الفاعل للطبقتين البورجوازية والطبقة العاملة…فضلاً عن ضعف الفاعلية السياسية للطبقة العمالية الناتج عن مواقعها الاقتصادية الضعيفة بسبب نموها وتطورها في قطاع الخدمات!.ويرى الاستاذ  لطفي حاتم ،ان اشتراط نمو راس المال البريطاني وتوسعه تطلب توافر دولة بكونها الرافعة السياسية والاجتماعية القادرة على حماية المصالح البريطانية.ولم يغفل الاستاذ لطفي حاتم آليات نمو الطبقة الوسطى التي لخصها بموظفي الدولة من النخب المتعلمة وولوج اجهزتها الفنية والقانونية والعسكرية والادارية والامنية وغيرها.وكذلك نمو الانتاج السلعي ودور الشغيلة والحرفيين في الاندماج  بنظام السوق والانتماء الى الطبقة الوسطى بكونها قاعدة اجتماعية عريضة آزرتها قوى الريف من  صغار الملاك الزراعيين مما جعل ارياف العراق قوة مضافة الى الطبقة الوسطى وتوسيع قاعدتها.

أن تعدد المصادر الاجتماعية للطبقة الوسطى وتحملها ارث القيم العشائرية والثقافات المتباينة التي ولدتها الحرب الباردة،ادى الى عجز الطبقة الوسطى عن بناء نفسها في قوة سياسية قائدة تشكل مرجعية موحدة بسبب الانقسام الثقافي الذي زرع بذور تفتتها وانقسامها بين تيارات قومية /دينية وتيارات علمانية /اشتراكية. وعلى الرغم من ذلك،استطاعت الطبقة الوسطى ان تجتمع على هدف واحد سامِ هو محاربة تبعية البلاد الى الاحلاف الاستعمارية وانظوت تحت زعامة تنظيم الضباط الاحرار المحكوم بالهيراركية العسكرية والروح الانقلابية الثورية لتفجر الثورة في تموز/1958واسقاط الملكية وبناء النظام السياسي الجمهوري.(لطفي حاتم-المؤسسة العسكرية وتحولات فكرها السياسي/الحوار المتمدن /آب-2013 ).

ب-الانموذج الديناميكي السالب

تشكل الطبقة الوسطى في بنية المجتمع العراقي الحديث البؤرة المولدة للطبقات الاجتماعية الاخرى كما يقول الكاتب ياسين النصير في مقاله الموسوم:مكونات الطبقة الوسطى/العراق انموذجاً-الحوار المتمدن/نيسان 2005/فهي بحكم نشؤها المستمر والمتغير جغرافياً واجتماعياً تمتلىء عندما تكون واضحة بأحتمالات المستقبل…ممهدة لظهور طبقات اجتماعية تتناسب وطبيعة المجتمع العراقي المتعدد الاعراف والديانات والقوميات واللغات والحغرافيات والتواريخ ..ويؤكد الكاتب النصيربالقول : ان الطبقة الوسطى تبدو من خلال تاريخها انها جدل المجتمع وحاضنته.فمنها ظهرت الشرائح السياسية والعسكرية والتجارية لاحقاً ليسهم بعضها في قيادة المجتمع العراقي نحو الحروب والتدمير ويسهم بعضها الاخر في البنية والتعمير.وافضل نماذجها الوطنية كانت ممثلة في مجتمع ما بعد ثورة تموز1958ولمدة لم تتجاوز الخمس سنوات..حيث فرزالصراع نتيجة لظهورها المفاجىء والكبير عن تناقض داخلي في مكوناتها لترتد ثانية الى بنيتها المؤسسة على العقلية العسكرية والدينية والثقاقية والعشائرية كما يقول الكاتب آنفاً.

وعلى الرغم مما تقدم ،فان غلبة المسار الثوري على المسار الديمقراطي لدى النخبة العسكرية بعد ثورة تموز 1958قد حول الدولة الى قوة( سلطة) بالتدريج ولمصلحة الشرائح المتنفذة في اجهزة الدولة البيروقراطية والامنية والمتسلحة بالعشائرية وبدعم اجنبي ، ادى الى مسسلسل الانقلابات العسكرية في حقبة الستينيات التي نفذها العسكر من الطبقة الوسطى ،مؤشراً في الوقت نفسه حالة البدء بتشتت الطبقة الوسطى وغياب المرجعية الايديولوجية  وضعف الجبهة السياسية الجامعة لها.أذ شهدت احزاب الطبقة الوسطى وتنظيماتها كافة الى حالة انشقاقات واسعة وادانة الاجنحة السياسية بعضها البعض في عدم التمثيل لجماهيرها او شرعيتها والتطرف بين اقصى اليمين واقاصي اليسار بما في ذلك الحركات القومية والاشتراكية والدينية وغيرها وامتد الانقسام ليطال التنظيمات العسكرية نفسها التي فقدت هي الاخرى الشكل الهيراركي التي وحدها ووحد الطبقة الوسطى معاً في خمسينيات القرن الماضي والذي قاد الى قيام الجمهورية الاولى بنجاح وتماسك عاليين.

فبين العام 1963/1964والعام 1972/1973تعرضت الطبقة الوسطى الى انتقالتين وضعت المقدمات المنطقية لتآكل تلك الطبقة.فالطبقة العسكرية التي تسلمت مقاليد حكم البلاد والتي عملت على بناء السلطة وليس بناء الدولة قد إستبدلت السوق بموارد النفط كقوة مالية سيادية تعارضت مع المدى الديمقراطي الذي ربط السوق ونشؤها الاقتصادي بالديمقراطية السياسية.فأليات السوق هي قانون موضوعي لنشوء القوى الجديدة من الطبقة الوسطى المتحزمة بمنظومة ثقافية تولدها مؤسستين متنافستين متكاملتين في بناء الدولة المدنية الحديثة:الاقتصادية والسياسية عبر ديمقراطية السوق (أي مؤسسة السوق التنافسية والمنافسة السياسية للطبقة الوسطى).وقد أدى تأميم مصالح السوق في العام 1964بموجب القانون 100 وغيره الى ضرب الصناعة الوطنية وراس المال الوطني وتعظيم المركزية وتفتيت القوى العاملة عن طريق تحويلها في وقت لاحق الى طبقة موظفين  فاقدة لمشروعيتها التاريخية ،مما فت في عضد الديمقراطية العراقية وقواها الممثلة بالطبقة الوسطى بذور تدهورها وحرمانها من بلوغ ضروراتها في الحرية القائمة على خلق مؤسسة السوق  وصولاً الى بناء الدولة المدنية الحديثة .

فالسلطة الريعية والعسكرة من ناحية والسوق الديمقراطي المولد للطبقة الوسطى من ناحية اخرى، هما متغيران متضادان في صنع الفلسفة السياسية للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.فعسكرة السلطة لاتسمح بولادة ديمقراطية السوق مايعني موت الطبقة الوسطى بموت السوق.حيث استغل تأميم المصالح النفطية الاجنبية في مطلع سبعينيات القرن الماضي لاْحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية مركزية احادية زادت من الدور الاقتصادي للدولة وقطاعاتها الانتاجية والخدمية وكان التقشف الذي اعتمد في العام 1972والسنوات القليلة اللاحقة المقدمة لحذف الحريات الديمقراطية وتغليب الطواقم العسكرية ونشاط السلطة الاقتصادي والاجتماعي المركزي على النشاط السوق  والدور الاقتصادي والاجتماعي الاهلي.كما بدأ تهميش نسيج الطبقة الوسطى التأريخي بأقصاء ثقافات وتيارات اليسار والتيارات الدينية على حساب تيار سلطوي واحد قام على مبدأ اعادة تشكيل طبقة وسطية هشة احادية التفكير تحمل فكرة الاقصاء للسوق(عن طريق خلق تقشف مضاد لنمو سوق المنتجة ونمو الطبقة الوسطى) وتناغمت في الوقت نفسه نشوء تلك الطبقة الوسطية الهشة بإديولوجية مركزية تقوم على عسكرة السلطة وافشال السوق والنتاج الديمقراطي لها القائم على ادراك الضرورة في بلوغ الحرية.وهنا بدأت مرحلة الانموذج الديناميكي السالب في قمع الطبقة الوسطى التاريخية وتنظيماتها وحرمانها من اية مصادربشرية جادة تنظم اليها اديولوجياً.

لقد مرت المدنية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي بمخاضات جديدة فقدت فيها تماسكها الاجتماعي وصوتها الديمقراطي الكامن جراء استقطاب قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى خارج السوق لتنضوي في المنظومة المركزية للدولة النفطية ذات الاستبداد الشرقي ، وان المدن بقاطنيها ومشتغليها امسوا جزءا لا يتجزأ من المؤسسة المركزية الحكومية البيروقراطية عندما قايضت قدراتها الديمقراطية وصناديقها الانتخابية بالسلع العامة الممولة بعوائد النفط . بل الانكى من ذلك جرى عسكرة موظفي الدولة ابان الحرب العراقية الايرانية وتحويلهم الى قوة مغتربة وسلعة عامة في دواليب الحرب.

وفي تسعينيات القرن الماضي تعرضت المدن الى تبدل اجتماعي كبير غير من شكل علاقة الدولة المركزية بمجتمعات الطبقة الوسطى (المدن) وابراز المجتمعات الهامشية (الارياف) جراء تبدل النمط السريع في موارد الدولة المركزية ، ولم يبق من الريع المركزي سوى التعاطي مع الريف وتقاسم الفائض الزراعي لادامة الماكنة المركزية الحكومية.

وان ضريبة التضخم التي تدفعها المدن وطبقاتها الوسطى التي اخذت تنسحق تحت وطئة تلك الضريبة امست تتسرب وبشكل او اخر الى منتجي الريف من الطبقة المالكة وهي طبقة محدودة متوسطة الدخل ولكن لاتنتمي تاريخيا الا للظرف الاقتصادي الاستثنائي الذي سببه الحصار.

لقد ترتبت تحولات اجتماعية قوية جعلت من الطبقة الوسطى وانحدارها الى الطبقة الفقيرة بأخلال في الهرم الوسطي الاجتماعي ، اذ تحولت الطبقة الوسطى الى طبقة التحمت مع الطبقة الفقيرة لتشكل تلك الطبقة المسحوقة قرابة 75% من سكان البلاد ان لم يكن اكثر ، وان الطبقة الوسطى لم تحظ الا بشريحة ضئيلة اخذت تتسرب تدريجيا بحكم مهارتها وثقافتها الى خارج البلاد.

رتب التحول الاجتماعي من المدن الى الارياف انقلابا بالهيكلين الاجتماعي والسياسي فضلا عن الهيكل الاقتصادي .فتوزيع الدخل بدأ يعمل لمصلحة الاسر الريفية ابان الحصار الاقتصادي . فعلى وفق معامل جيني اخذ توزيع الدخل ينتقل من 32% لسكان المدن ليصبح قرابة 40% مما يعني ان التدهور في درجة المساواة بدأ يعمل لمصلحة الارياف على حساب الطبقة الوسطى اذ سجل معامل جيني للارياف مستوى 36% بدلا من 40% مما يعني تبدلا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية انسحبت من الطبقة الوسطى في المدينة الى طبقة ملاك الاراضي في الارياف .

ويستخلص من ذلك ان الارياف اصبحت ثقل سياسي وعسكري وعليه فان النفط ونشوء الطبقة الوسطى لايمكن ان يلتقيان في الانماط الاقتصادية لما قبل السوق او الرأسمالية عموما . وان مظاهر العنف المسلح بأشكالها ووحشيتها صوب المدينة العراقية يمثل اصرارا على تهميش الطبقة الوسطى . وان ارياف العراق التي تحتضن قرابة 12       مليون من سكان البلاد (وبقوة عمل زراعية تشكل 22% من اجمالي قوة العمل العراقية ويعاني نصفها من البطالة وهي لاتساهم في الناتج المحلي الاجمالي سوى 5-7%) قد فقدت نفوذها السياسي وربما يكون مصادر العنف المسلح ضد المدينة والسوق هو صراع لاستعادة نفوذ الريف السياسي عن طريق اجهاض المدينة وتطور قواها الاجتماعية التاريخية وعلى رأسها الطبقة الوسطى ، بعد ان حلت الارياف محل المدن كقوة اقتصادية واستبدل ملاك الاراضي بالطبقة الوسطى التي تحولت الى طبقة فقيرة بسبب ضرائب التضخم وانسحاقها مع انسحاق الريع النفطي.راجع:مظهر محمد صالح/الريع النفطي والاستبداد الشرقي-الفصل الثالث من كتابه:مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق-الدولة الريعية من المركزية الاقتصادية الى ديمقراطية السوق/بيت الحكمة/2010

4-اعادة التشكيل الاقتصادي والطبقة الوسطى 2003-2014

أ-الاشكالية الاقتصادية الراهنة

لم يستطع العراق ان يشق طريقه بعد العام 2003 فور تبدل نظام الحكم الشمولي فيه وإستبداله بسلطة الائتلاف المؤقت او سلطة الاحتلال  قبل ان يجد مخرجاً أيديولوجياً يتلاحم فيه بنيانه الاقتصادي الجديد في حاضنة السوق الدولية وضمان آليات عملها التي تسهل الاندماج في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي . فالعولمة  التي ترى  في البنية السياسية( الدولة- السوق ) المرتكز و البديل الذي هو لامحال ( للدولة -الامة) هو شرط  الضرورة  قبل ان يتبلور شكل الدولة القادم للبلاد وووصف بنيانها السياسي.فهناك  تضاد إيديولوجي بين إستمرار شكل (الدولة -الامة)في العراق الذي افرغ من مقومات السلطة الشمولية  وأقحم بسلطة الائتلاف المؤقت(الاحتلال)وبين التطلع نحو بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة وتوليد سلطة قادرة في الوقت نفسه على حماية تلك الدولة -الامة بتكوينها السياسي والاثني  وتمتلك  قدرة الاندماج  في النظام الاقتصادي  الدولي(العولمة) كما نوهنا آنفاً. فالديمقراطية السياسية والاندماج في العولمة اصبحا بأمس الحاجة الى تخطي عقدة( الثالوث المستحيل – trilemma ) في النظام السياسي والاقتصادي الدولي كما يراهاDani Rodrik  استاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هارفرد .فمن المستحيل  ،على اي بلد نامي طرفي في منظومة  الاقتصاد العالمي مثل العراق ،ان يتمتع بنظام ديمقراطي اولاً وبنيانه السياسي يقوم  على اساس( الدولة- الامة) ثانياً وهو يتطلع في الوقت نفسه الى الاندماج في النظام الاقتصادي الدولي آخراً، وعلى وفق تلك (الثلاثية المستحيلة) التحقيق .إذ ترى العولمة في تكوين البنيان السياسي الديمقراطي ولاسيما في العالم الثالث بمثابة تعبير عن( فيدراليات) صغيرة او جزئية تؤدي وظائفها السياسية داخل مكون (الدولة-السوق) وليس (الدولة-الامة) وحسب متطلبات التلاحم الاقتصادي الدولي العابر لسيادة الامم. وبهذا فقد اصطدم بناء الدولة السياسي ، الذي شيد اساساً على مفهوم (الدولة -الامة)منذ العام 1921 ،بشرط الضرورة الذي يرى في بناء الدولة في منظومة الامم الطرفية المندمجة بالسوق العالمية العابر للسيادة ، هي محظ  (فيدراليات) سياسية داخل نظام السوق الدولي بعد ان تأخذ شكلا ديمقراطياً تتوافق فيه الليبرالية السياسية مع الليبرالية الاقتصادية.

لقد وجدت سلطة الائتلاف المؤقت مخرج للبلاد من (الثالثوث المستحيل) بأيجاد بنية سياسية توافق مفهوم( الديمقراطية-العولمة )وطرح بديل مناسب يلغي مفهوم (الدولة-الامة )ويحل محله مفهوم(الدولة-المكونات).حيث أضحت الديمقراطية ضمن (الدولة -المكونات) بمثابة العقد الاجتماعي لرسم مستقبل البلاد السياسي-الديمقراطي الذي يقطع الطريق على الدول-الامة كنظام سياسي للدولة الحديثة ويمتلك في الوقت نفسه قدرة التحول نحو الدكتاتورية السياسية والاستئثار بالسلطة السياسية بيسر وسهولة عالية.وهكذا رسمت خريطة الطريق السياسية وتشكل النظام الاقتصادي منذ يوم شكل (مجلس الحكم )في العام 2003على اساس المكونات الطائفية والعرقية بدرجة تتفوق على مكون المواطنة وبما ينسجم والجغرافية الاثنية او المذهبية على الارض.

ولما كانت الثروة النفطية  هي المورد السيادي الطبيعي الاحادي الغالب الذي تصطف حوله قوة الدولة الاقتصادية المركزية ويمثل بين 55-60% من الناتج المحلي الاجمالي للعراق واكثر من95%من موارد الموازنة الاتحادية ،فلا بد من ان تتحدد بموجبه شكل النظام الاقتصادي ومن ثم مسالك السياسة الاقتصادية في اطار راسمالية الدولة الريعية لقاء الحفاظ على نظام سوق حر يمثل قوه ليبرالية سائبة خارج الدولة وتحيط بالدولة وفق مبداء توازن المصالح  دون صناعة شراكة تنموية دافعة لبلوغ اهداف التقدم الاقتصادي عبر الالتحام بين المصالح الراسمالية الاجمالية (الدولة والاهلية) .

 وبهذا إستطاعت ( الدولة-المكونات ) من توصيف إطار نظامها الاقتصادي الجديد كنظام (ريعي- لليبرالي) كبديل عن النظام الاقتصادي (للدولة -الامة) وهو النظام (الريعي-المركزي) اي القائم على المركزية الشديدة لراسمالية الدولة ، الامر الذي ظل  يحدد إتجاهات السياسة الاقتصادية ،وتركيب ثوابتها ومتغيراتها واتجاهاتها المالية والنقدية  والتجارية  والتشغيلية كافة كقوة مستهلكة او تخدم ليبرالية الاستهلاك في ميكانيكيات هشة من أطراف السوق العالمية.

ب-اشكالية اعادة بناء الطبقة الوسطى

لم تتخلى الدولة الريعية التي تحتضن اليوم نصف قوة العمل العراقي بقرابة 4 ملايين موظف مسؤولين بشكل او بآخر عن كونها دولة كبيرة تعمل على اعادة تركيب الطبقة الوسطى واستعادة انفاسها مجددا من خلال التوظيف الريعي . وازاء دولة مكونات وسوق مغتربة داخليا ومرتبطة باسواق العولمة فأن تشوها كبيرا يشوب اعادة بناء الطبقة الوسطى التي امست منقسمة للاسف الشديد انقساما اثنيا او مذهبيا ولايجمعها جامع طالما السوق لا تستطيع ان تولد نسيجا اجتماعيا متكاملا بسبب كونها سوق مستهلكة تعمل بافق ليبرالي ومناطقي ولايوجد لديها التحام يعتد به كقوة فاعلة وانموذج ديناميكي موجب لبناء الطبقة الوسطى التي تقود مستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.راجع/مظهر محمد صالح/الريع النفطي والاستبداد الشرقي:القصل الثالث من كتاب((مدخل في الاقتصاد السياسي للعراق:الدولة الريعية- من المركزية الاقتصادية الى ديمقراطية السوق)).

ج –البديل الاقتصادي: الانموذج الريعي-الماركنتالي الجديد

لم تظهرالآصرة الليبرالية-الريعية بين السوق والدولة في العراق وعلى مدى عقد من الزمن ،الا انموذجاً فريداً يقوي الاندماج في السوق الاستهلاكية العالمية اوالذوبان بالعولمة الاستهلاكية وعلى وفق شروط التحول السياسي الديمقراطي،الذي تطلب الانتقال من الدولة -الامة الى الدولة -المكونات او المحاصصة (كما يصطلح عليه عرفاً في بلادنا اليوم).وان تعظيم الصرف غير المنتج لعوائد الثروة النفطية والتقاسم النهم بين المكونات وضياع العوائد  الريعية في نظام توزيعي-استهلاكي ،قد اسس للاسف الشديد لاقتصاد لايقوى على انتاج سوى موارد الثروة النفطية و يقوي في الوقت نفسه الاستهلاك الذي تغذيه اسواق العولمة، تؤازره وفرة نسبية من التراكمات المالية الادخارية وهي شبه معطلة محلياً و تتسرب في نهاية المطاف الى معاقل مالية خارجية ويدفع بها اللايقين والتردد في اتخاذ القرار الاقتصادي الاستثماري المحلي اوصناعته .

وبناء على ذلك ،فقد اصبحت الديمقراطية السياسية -وتعظيم الاستهلاك وفق تدني فرص العمل المنتجة ،عنواناً لفراغ التنمية وضياع مستقبل البلاد الاقتصادي كقوة منتجة خارج حدود ومحددات الريع النفطي.

إن الديمقراطية السياسية لاتنفي نظاماً إقتصادياً بديلاً يحل محل الانفلات الليبرالي الاستهلاكي الراهن ويعظم من آصرة الدولة-السوق الانتاجية،وان شرط الضرورة الموضوعية في مثل ذلك التحول يقتضي ماياْتي:

اولاً، أجراء تحول عقائدي في البناء السياسي للعراق من( دولة-المكونات )الى( دولة-المواطنة العراقية) وهو مفهوم اقوى من الدولة- الامة نفسها.فالمواطنة العراقية هي الاساس الموضوعي في التكوين والانتماء السياسي لمستقبل التنمية الديمقراطية في العراق.

ثانياً،على الرغم من ان الانموذج الاقتصادي الماركنتالي الجديد( التجاري)يعكس تمثيلا قوياً لراسمالية الدولة،لكنه يمتلك قوة الشراكة بين الدولة والسوق او خلق الدولة التعاونية ولاسيما في بلاد مثل العراق تهيمن فيها الدولة على موارد البلاد الطبيعية الرئيسة,فالتيارات الماركنتالية الجديدة،وعلى خلاف المذهب الليبرالي الاستهلاكي،تؤكد على اولوية الجانب الانتاجي في العملية الاقتصادية. فالاقتصاد السليم في نظرهم، يتطلب وجود بنية انتاجية سليمة ترتكز على بنية تشغيل عالية لقوة العمل وبأجور كافية.فالتجارة وفق المذهب الماركنتالي هي ليست إستيرادات جاهزة تتدفق من اسواق العولمة،بل انه انتاج شراكة يرفد اسواق العولمة بالمنتج الوطني العراقي،مثلما يرفد السوق المحلية بأنتاجه.وان التجارب الاقتصادية التي خطها الانموذج الاقتصادي الياباني اوالكوري وحتى الصيني قد وضت على اسس ماركنتالية حديثة ادت الدولة فيه دورها المشارك والملازم للانتاج .وبهذا جسدت التجربة الصناعية الاسيوية دور الدولة الماركنتالية الجديدة وهي الراسمالية الاعظم انتاجاً والاوسع إزدهاراً.

إن الاقتصاد العراقي في ظروفه الريعية الراهنة هو احوج ما يكون الى دور إقتصادي للدولة،يسهل الشراكة واندماج الدولة مع النشاط الانتاجي الخاص،وعلى وفق إيديولوجية  اومنهجية إقتصادية منافية للمنهج الليبرالي الاستهلاكي السائد،وتمثل عودة متجددة لمفهوم الماركنتالية الاقتصادية والترويج لاْديولوجيا النشاطات الخالقة للسوق ذات النمط المنتج المتمثل بالشركات المساهمة المختلطة التي تعمل على وفق مباديْ الحوكمة الادارية الجيدة والانتقال الى النظام الريعي-الماركنتالي(المنتج) كبديل للنظام الريعي-الليبرالي(المستهلك) الحالي والعمل الى تشيد نظام سياسي ديمقراطي يبتعد عن( الدولة-المكونات) الراهن ويقترب من مفهوم (الدولة-الامة) ويتخطاها بأحلال( الدولة- المواطنة العراقية)من منطلق ان الولاء للعراق.راجع/مظهرمحمد صالح/متلازمة السياسة الاقتصادية في الانموذج الريعي –الليبرالي في العراق/بغداد2013

5- الاستنتاجات

ان الطبقة الوسطى التي تشكل اليوم قرابة 60% من المجتمع العراقي هي انموذج هش لدولة المحاصصة السياسية والانقسام الاثني والطائفي المتعايش على ريوع النفط. وبناء على ذلك فالدولة الكبيرة (الدولة – المكونات) اصبحت تتوافق مع سوق ليبرالية استهلاكية مناطقية تتحد مع سوق العولمة وتغترب معها. وان هكذا نمط اقتصادي سياسي يولد طبقة وسطى مغتربة داخليا منقسمة قابلة للانكسار تتطلع الى الهجرة الى خارج الوطن . اذ تتشكل اليوم طبقة وسطى عراقية في المهجر ربما هي اكثر انسجاما من مثيلاتها داخل البلاد عبر وسائل الاتصال المستقلة المتاحة.

وبناء على ما تقدم فان ثمة تلازم بين ديمقراطية السوق والدعوة  الى بناء اقتصاد ماركنتالي جديد كما نوهنا يمثل الشراكة بين الدولة والسوق واحلال (الدولة-المواطنة العراقية) بديل لدولة المكونات والمحاصصة الطائفية والاثنية وعندها ستنشأ الطبقة الوسطى نشأة ديمقراطية وطنية بنسيج اجتماعي موحد. وان الشكل الاقتصادي السياسي الحالي  قد اعاد بناء الطبقة الوسطى ولكنها مستقطبة في الانموذج الريعي – الليبرالي ما جعل الرابطة ضعيفة بين صفوفها ان لم تكن منقسمة . اذ من النادر ان تجد حزبا او حركة سياسية اجتماعية عراقية يعتد بها اليوم وتمثل عموم الطبقة الوسطى مقابل القوى الاجتماعية والسياسية التي تعتمد المحاصصة والطائفية مبادئ عمل لها .

ختاما يمكننا الاستنتاج ان النظم الدكتاتورية السابقة قد صادرت الطبقة الوسطى وافقدتها الاساس التاريخي لنشوءها عبر تدمير السوق ومن خلال المالية العامة ابان (الدولة – الامة ) بوضعها المركزي الدكتاتوري وان الوضع الراهن في ظل الديمقراطية القائمة على المناطقية والاثنية والسوق المغتربة اعادت بناء الطبقة الوسطى لكن عرضت نسيجها الاجتماعي الى خطر الانقسام اذ مازالت المالية العامة وموارد النفط مثار للانقسام وان فرضية التقشف التي جاءت بها هذه الدراسة ربما تؤدي دورها هنا وهناك في تهميش نسيج الطبقة الوسطى وعوامل وحدتها. وعليه فبوحدة السوق الوطنية وديمقراطيتها واطلاق قواها المنتجة وتبديل سلوكها من سوق مستهلكة ليبرالية الى سوق منتجة ماركنتالية بشراكة الدولة ستولد الطبقة الوسطى كقوة منسجمة بأطار وطني ليعيد الانموذج الديناميكي الموجب دوره في تعظيم تلك الطبقة  كقوة اجتماعية وسياسية واقتصادية تتناسب مع تجانس السوق ونظام سياسي ديمقراطي وان كان ريعيا لكنه يقوم على الدولة والمواطنة العراقية وعندها ستتبدل الحياة الحزبية من احزاب وحركات سياسية مناطقية او طائفية الى احزاب عراقية ديدنها المواطنة والهوية الوطنية الواحدة والانتماء الى العراق وبمشروع نهضوي متجانس للطبقة الوسطى.

بغداد 21 اذار 2014

(*)مستشار إقتصادي لرئيس الوزراء و نائب محافظ البنك المركزي السابق

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    خلاصة مقال الباحث:
    ( بوحدة السوق الوطنية و ديمقراطيتها واطلاق قواها المنتجة وتبديل سلوكها من سوق مستهلكة ليبرالية الى سوق منتجة ماركنتالية بشراكة الدولة ستولد الطبقة الوسطى كقوة منسجمة باطار وطنى ) من المقال
    السوْال هل تم بناء سوق وطنية خلال المدة 1921- 2014 ؟ بالاعتماد على الانتاج الوطنى
    ما معنى السوق الوطنية ؟لم يوضح الباحث
    السوق العراقية توسعت من حيث كميات ونوعيات السلع بفضل الاستيراد من الخارج منذ تاسيس الدولة العراقية ولحد الان فهل بالامكان بناء السوق الوطنية فى الامد القصير او المتوسط بالاعتماد على الانتاج الوطنى وبالتالى يمكن الحديث عن النظام الطبقى فى العراق – عمال وفلاحين وبرجوزاية وطنية او طبقة وسطى

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: