عمان في ٢١ حزيران ٢٠١٧
الأخ العزيز مصباح المحترم[1]
بعد التحية
قبل البدء في البحث في قانون السيكورتة العثماني، أجد من الضروري ان أمهد للبحث بتوضيح الفرق بين التأمين البحري والتأمين البري، وعلاقة نظام التأمين بنظام النقل البحري، ثم ألقي نظرة سريعة على تطور تقنين نظام التأمين في البلاد العربية.
إن نطاق التأمين البحري ينحصر بتغطية النقل الدولي، سواء أكان نقلاً بحرياً صرفاً (Maritime Transport) او نقلا متعدد الوسائط (Multimodal Transport)، وهو ينفرد بقواعد قانونية خاصة به غير القواعد القانونية التي تحكم عقد النقل البحري بصنفيه، وعلى الرغم من ذلك فان قواعد العقدين يجمعهما تشريع واحد هو قانون التجارة البحرية. اما ما يتعلق بالتأمين البري فهو لا علاقة له بعملية النقل إلا بقدر تعلق الأمر بالنقل البري الصرف (Inland Transport) وقواعده القانونية لا تنضوي تحت نفس النظام القانوني الذي تنضوي تحته النصوص القانونية التي تحكم عقد النقل البري، فعقد التأمين البري يخضع للتقنين المدني وعقد النقل البري يخضع للتقنين التجاري.
لقد كنت ان أوضحت في رسالة سابقة انه على الرغم من ان التأمين البحري بشكله المتطور كان قد مورس من قبل اللومبارد في منتصف القرن الرابع عشر الا انه لم يُعرف في ولايات السلطنة العثمانية الا في منتصف القرن التاسع عشر حيث اتسع نطاق التجارة البحرية بين السلطنة العثمانية والدول الأوربية، فأصبحت الفرصة مؤاتية لشركات التأمين الاوربية ان تبعث وكلاء عنها الى السلطنة العثمانية ليستقروا فيها بعد حصولهم على موافقة السلطان ويباشروا إصدار عقود التأمين البحري لتغطية ما يستورده ويصدره تجار الولايات العثمانية، التي يطلق عليها دار الإسلام، من والى الدول الأوربية، التي يطلق عليها دار الحرب.
وبالرغم من فتوى تحريم عقد التأمين البحري باعتبار كونه عقداً يتضمن الإلزام بما لا يلزم حسب ما وصفه به الامام محمد بن عابدين الحنفي، فقد استمر عمل وكلاء التأمين بإبرام عقوده. ومن اجل إيجاد قواعد قانونية تنظم مختلف أنشطة التجارة البحرية وتضع حداً لفتوى تحريم عقد التأمين البحري قامت السلطنة العثمانية بتشريع قانون التجارة البحرية العثماني في ٦ ربيع اول سنة ١٢٨٠ هجرية المصادف ١٣ تشرين اول سنة ١٨٨٣ ميلادية. وقد تضمن القانون المذكور في الفصل السابع منه النصوص القانونية المتعلقة بعقد النقل البحري، وفي الفصل الحادي عشر القواعد القانونية المتعلقة بعقد التأمين البحري، وقد كان هذا القانون محفّزا لوكلاء شركات التأمين بزيادة نشاطهم وتوسيع دائرة هذا النشاط في مختلف ولايات السلطنة.
ونظراً للترابط بين التجارة البحرية الدولية والتجارة الداخلية الاقليمية فقد ازدهرت هذه التجارة الاخيرة شاملة عقود البيع والخزن والنقل الداخلي للبضائع بين الولايات والتعاملات المصرفية، مما اضطر السلطنة العثمانية الى تشريع قانون آخر لتنظيم القواعد القانونية للتجارة البرية، فشرع قانون التجارة البرية العثماني في جمادي الثاني سنة ١٣٢٣ هجرية. وقد جاء هذا القانون محفّزاً آخر لوكلاء شركات التأمين الاجنبية لينوعوا من نشاطهم كي يشمل تأمين النقل البري الداخلي للبضائع بين ولايات السلطنة وتأمين الممتلكات الاخرى المنقولة والعقارية من حوادث الحريق والسرقة والحوادث الأخرى. وقد نبَّه هذا التصرف، من قبل الوكلاء، السلطنة العثمانية الى ان قانون التجارة البرية العثماني جاء خالياً من القواعد القانونية التي تنظم عقد التأمين البري، فبادرت لتشريع ذيل لقانون التجارة البرية العثماني يتضمن القواعد المذكورة ووصف هذا الذيل بكونه قانون السيكورتاه وأُلحق بقانون التجارة البرية العثماني في ٢٩ محرم ١٣٢٤ هجرية المصادف ٩ آب ١٩٠٥.
بعد هذه النبذة التاريخية عن ظروف تشريع القانون المذكور، اعود لدراسة مختصرة لأحكامه، فقد نصّت المادة الاولى منه على تعريف عقد التأمين بكونه يغطي الأموال المنقولة وغير المنقولة من الاتلاف (الخسائر) من كافة المهالك، ومن الواضح ان هذا القانون هو قانون تأمين بري ولا علاقة له بالتأمين البحري واشير الى انه جاء ذيلا لقانون التجارة البرية، كما تضمن في نهايته مادة خاصة اطلق عليها “المادة المخصوصة” نصّت صراحة على ان “الأحكام الواردة في حق الضمان البحري المذكورة في قانون التجارة البحرية تبقى مرعية الإجراء” وهذا يضع حداً لكل جدل حول طبيعة ونوع هذا القانون، ويؤكد كونه قانون تأمين بري.
وفي عودة لتعريف عقد التأمين الذي يتعلق به، فإن هذا العقد، كما جاء في المادة الاولى من القانون، يغطي الممتلكات المنقولة (Moveable Property) اي الأموال القابلة للنقل من حيّز مكاني الى آخر، كالأثاث البيتية والبضائع وغيرها، كما يغطي ايضاً الأموال غير المنقولة (Immoveable Property) اي الممتلكات العقارية، وان نطاقه لا يتحدد بحادث معين، بل يشمل “كافة المهالك” اي كافة الاخطار التي يحتمل ان تتعرض لها الأموال المنقولة وغير المنقولة، فيدخل ضمن ذلك خطر الحريق والسرقة وأخطار النقل الداخلي وخيانة الأمانة والمسؤولية المدنية وأي حادث اخر قابل للتأمين منه. وكررت المادة الثانية منه قاعدة إثبات عقد التأمين، بان يكون العقد تحريرياً، اي لا يمكن اثباته بالقرائن او البينة الشخصية، بل لابد من وجود وثيقة تأمين “”بوليصة”” لإثباته.
وفيما عدا المادة التاسعة من القانون، فقد تناولت المواد من ٣ الى ١٩ النص على الضوابط العامة لعقد التأمين منها تحديد مبلغ التأمين، وسقف مسؤولية المؤمن ووجوب توفر المصلحة التأمينية والتأمين الزائد والناقص والمكرر، وحق المؤمن في الرجوع على المتسبب بالضرر (Subrogation) وغير ذلك من ضوابط عقد التأمين. اما المادة التاسعة فقد تعلقت بالتأمين الزراعي فنصت على إمكانية التأمين على ضياع الفائدة المتوقعة من المحاصيل الزراعية والأثمار. وتولت المادة (٢٠) منه النص على إمكانية تغطية مسؤولية المؤمن له المُحتملة في حادث الحريق عما يلحق بالمبنى المجاور بسبب احتراق المبنى العائدة له. ونصت المادة (٢١) على تحديد تاريخ سريان عقد التأمين، ونصت المادة (٢٢) على كيفية احتساب قيمة الخسارة في حالة الحريق الجزئي للممتلكات المؤمنة. اما المادة (٢٣) فتعلقت باحتساب الخسارة في التأمين الزراعي، واختصت المادتان (٢٤) و (٢٥) ببيان شروط تأمين النقل البري الداخلي.
لقد بقي هذا القانون وما زال ساري المفعول في العراق حتى كتابة هذه السطور وكذلك الحال بالنسبة لقانون التجارة البحرية العثماني. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى انتقلت ولاياتها للانتداب الانجليزي والفرنسي، وكانت ولاية الموصل وبغداد والبصرة التي يتكون من مدنها قطر العراق من نصيب بريطانيا العظمى، ولم تحاول السلطة الانجليزية تغيير الأنظمة القانونية التي كانت سائدة في الولايات المذكورة في زمن السلطنة العثمانية. وبموجب القانون الأساسي الذي شرع سنة ١٩٢٥ بقيت القوانين العثمانية نافذة في العراق ما لم يتم الغاؤها. ومنذ ذلك التاريخ وحتى هذا اليوم لم يلغ قانون التجارة البحرية العثماني، فيبقي هو الواجب التطبيق في جميع مسائل التجارة البحرية ومنها التأمين البحري، ما عدا قواعد النقل البحري التي تعتبر ملغاة بموجب قانون النقل العراقي.
اما قانون التجارة البرية العثماني فقد تم الغاؤه مجزأ على مراحل، فقد الغيت المواد من ٤٠ الى ٥٣ بموجب تعديل صدر سنة ١٣٣٤ هجرية، كما ألغيت المواد من (١) الى (٩) ومن (٢٣) الى (٤٦) بموجب المادة (٥١٠) من قانون التجارة العراقي رقم ٦٠ لسنة ١٩٤٣، وألغيت المواد من (١٠) الى (٣٩) بموجب المادة (٣٢١) من قانون الشركات رقم (٣١) لسنة ١٩٥٧. وأخيراً، ألغيت بقية المواد المتعلقة بالإفلاس بموجب المادة (٧٢٣) من قانون التجارة رقم (١٤٩) لسنة ١٩٧٠.
وبقي ذيل القانون العثماني “السيكورتاه” لم يشمله الالغاء، والدليل على استمرار نفاذه حتى الآن فإن لدي، وضمن مجموعتي الخاصة التي تركتها مع الأسف في بغداد، قراراً صادراً سنة ١٩٨٦، على ما اذكر، من الهيئة العامة لمحكمة تمييز العراق استندت فيه الى المادة (١٧) من قانون السيكورتة العثماني التي تتعلق بحق المؤمن بعد دفعه التعويض الى المؤمن له أنْ يرجع على المتسبب بالضرر لاسترداد ما دفعه من تعويض، حيث ان وكيل المدعى عليه حاول ان يدفع الدعوى بالتمسك بان حق الحلول ينحصر بالتأمين ضد الحريق وان الدعوى المقامة على موكله لا صلة لها بالتأمين ضد الحريق، وقد كسب الدعوى بداءة واستئنافاً الا ان الهيئة العامة لمحكمة تمييز العراق نقضت قرار محكمة الاستئناف معللة قضاءها، بان المادة (١٠٠٧) من القانون المدني قد نصت بان المسائل التي لم يرد ذكرها في القانون المدني تنظمها القوانين الخاصة، وان قانون السيكورتاه هو قانون خاص وان المادة (١٧) منه جاءت مطلقةً ولم تحصر حق الرجوع بالتأمين ضد الحريق.
هذا كل ما اعرفه عن هذا القانون.
وفي الختام أرجو قبول فائق تقديري.
بهاء بهيج شكري
ملاحظة: إن السيد ….. السامرائي (نسيت اسمه الاول) هو أول من نشر قانون التجارة البحرية العثماني وقانون السيكورتاه العثماني، في مجموعته للقوانين التجارية التي نشرها في العهد الملكي.[2]
* من رجالات التأمين الأوائل في العراق، حقوقي متمرس في قضايا التأمين، ومؤلف للعديد من الكتب التأمينية.
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر.
http://iraqieconomists.net/ar/
[1] ترجع خلفية هذه الرسالة إلى رسالة سابقة للأستاذ بهاء بتاريخ 20 حزيران 2017 ذكر فيها الآتي: “لقد لفت انتباهي اهتمامك بقانون السيكورتة العثماني والذي يطلق عليه ايضا “قانون شركات الضمان”، فأرجو إعلامي بما تريد بحثه في هذا القانون، عسى ان يكون بمقدوري التعاون معك في ذلك.” وكتبتُ له بأنني حقاً كنت مهتماً بقانون السيكورتاه العثماني لسنة 1905 وأنني كتبت عنه مقالة اعتماداً على بعض المعلومات التي كانت متوفرة لي، نشرته في مجلة التأمين العراقي، (http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2011/04/ottoman-insurance-law-1905.html ونشرت ترجمته الإنكليزية في موقع History of Iraq
(http://iraqshistory.blogspot.co.uk/2011/04/ottoman-insurance-companies-act-1905.html
والمقالة متوفرة أيضاً كفصل في كتابي أوراق في تاريخ التأمين في العراق: نظرات انتقائية (منشورات شركة التأمين الوطنية 2011) ويمكن قراءته باستخدام هذا الرابط:
https://www.academia.edu/4261042/History_of_Insurance_in_Iraq_Selected_Perspectives_-_by_Misbah_Kamal
وكتبت أيضاً: “إن توفر الوقت لقراءة هذه المقالة ستكتشف بعض الأسئلة التي تنتظر الجواب ومنها: نفاذ قانون السيكورتاه أو توقف العمل به، معرفة أمثلة حقيقية عن تطبيق القانون في المحاكم العراقية للفصل في النزاعات بين المؤمن لهم وشركات التأمين بافتراض وجود مثل هذه الأمثلة وغيرها. في ظني أن لديك معلومات ضافية، تاريخية وقانونية، حول خلفيات هذا القانون ومصائره.”
رسالة الأستاذ بهاء هذه أغنت الكتابة عن هذا القانون بما هو جديد في التطور القانوني. آمل أن يكون هذا القانون موضوعاً لبحث أكاديمي لنتعلم منه شيئاً عن تاريخ النشاط التأميني في العراق ضمن معطيات التطور الاقتصادي للعراق في أوائل القرن العشرين الذي جاء القانون كاستجابة له. (مصباح كمال)
[2] أتمنى أن يقوم أحد القراء المهتمين بتوفير الاسم الكامل للمؤلف، وعنوان الكتاب، وتاريخ نشره، إتماماً للفائدة العلمية ومساعدة الباحثين في الموضوع. (م.ك.)
لتحميل ملف بي دي أف سهل الطباعة انقر على الرابط التالي
رسالة بهاء بهيج شكري-قانون السيكورته العثماني
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية