أبحاث نظرية في الفكر والتاريخ الإقتصاديالرئيسية

كلارا ماتـيّ*: نظام رأس المال: كيف اخترع الاقتصاديون التقشف ومهدوا الطريق للفاشية

المراجع: ماكس هاريس**

 

ترجمة: مصباح كمال***

 

كلارا ماتَيّ*: نظام رأس المال: كيف اخترع الاقتصاديون التقشف ومهدوا الطريق للفاشية. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 2022، 480 صفحة، 30 دولار (غلاف مقوى)، ISBN 978-0226818399

 

إن كتاب كلارا ماتَيّ، نظام رأس المال: كيف اخترع الاقتصاديون التقشف ومهدوا الطريق إلى الفاشية، هو كتاب استفزازي.  ويتضح ذلك جيدًا من العنوان.  فالاقتصاديون، والتقشف، والفاشية: تشكل مع بعضها مزيجًا رائعًا تمامًا.  تقول ماتَيّ، أستاذة الاقتصاد في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، إن “التقشف كان وسيلة للاقتصاديين الموجودين في السلطة لإعادة فرض نظام رأس المال الذي شهد ضياعًا بعد الحرب العالمية الأولى.  ووفقا لماتَيّ، فإن هدف التقشف هو ضمان بقاء رأس المال، وتفضيل الأقلية على حساب الأغلبية.  ومن خلال التركيز على بريطانيا وإيطاليا في فترة ما بين الحربين العالميتين — الأولى دولة ديمقراطية ليبرالية، والأخيرة دولة سلطوية—  تسعى إلى إظهار عالمية التقشف وقوتها في تجاوز الاختلافات السياسية التقليدية، فضلاً عن دور النخب التكنوقراطية في تنفيذها.

 

تحشد ماتَيّ مجموعة رائعة من المصادر البريطانية والإيطالية لتتبع الاضطرابات العميقة التي أصابت النظام الاقتصادي خلال الحرب العالمية الأولى.  لقد قلَّبت هذه الحرب الشاملة السياسات الاقتصادية التقليدية رأساً على عقب.  إذ تضخمت الميزانيات الحكومية بشكل لم يسبق له مثيل.  وتمَّ التخلي عن قاعدة الذهب، وخضعت الأسعار للسيطرة وكذلك التجارة.  وترى ماتَيّ أن هذا التحول غير المسبوق في الإدارة أظهر بوضوح — وعلى الأخص للعمال — أن الطريقة القديمة لتنظيم العلاقات الاقتصادية لم تكن الطريقة الوحيدة.  لقد أزيلت العصّابات عن أعينهم، وبدأ العمال في بريطانيا وإيطاليا في التحريض الثوري للسيطرة على وسائل الإنتاج وقلب النظام الرأسمالي. وكتب ماتَيّ أن هذا “النضال من أجل السيطرة العمالية بلغ ذروته في 1919-1920 بهدف الحكم الذاتي لضمان تحرير الأغلبية.”

 

وبحسب ماتَيّ، فإن أصحاب السلطة كانوا ينظرون إلى هذه اللحظة الثورية على أنها غير مقبولة، وتواطؤا على فرض “التقشف” كوسيلة لتكميم أفواه العمال والعودة إلى نظام ما قبل الحرب.  وتكتب ماتَيّ: “لقد ظهر التقشف كما نعرفه اليوم بعد الحرب العالمية الأولى كوسيلة لمنع انهيار الرأسمالية: لقد استخدم الاقتصاديون في المناصب السياسية أدوات الخطط السياسة لجعل كل طبقات المجتمع أكثر استثمارا [اهتمامًا] بالإنتاج الرأسمالي الخاص.”  ومن خلال العودة إلى قاعدة الذهب وتقليص عجز الموازنة، نجح صناع السياسات في إبطاء النمو الاقتصادي، وبالتالي “فرض القبول الشعبي للظروف القمعية في الإنتاج الاقتصادي.”  وقد ساهم الاقتصاديون في برنامج السياسات هذا من خلال تبرير هذه الاختيارات باعتبارها طبيعية، فضلا عن عزلinsulating  عملية صنع القرار في المؤسسات التكنوقراطية، مثل البنوك المركزية المستقلة.  أما بالنسبة للصلة بالفاشية، فترى ماتَيّ أن موسوليني حصل على الدعم — محليًا ودوليًا — من خلال فرض التقشف.

 

والحجة إذن هي أن الحكومات سعت إلى فرض النظام impose order من خلال جعل الحياة الاقتصادية أكثر أمانًا من خلال سياسات تقشفية، وبالتالي إجبار العمال على قبول الأمور كما ينبغي (على الرغم من أنه ليس من الواضح لماذا يؤدي المزيد من عدم الاستقرار precarity بالضرورة إلى إضعاف العمال بدلًا من تنشيطهم).  وصحيح أنه في أعقاب مثل هذه الحرب المدمرة، وفي ظل تفشي الفوضى وتصدر الثورة الروسية الاهتمامات، سعى صُناع السياسات إلى “العودة إلى الحياة الطبيعية،” كما كان الشعار في الولايات المتحدة.  تنظر ماتَيّ إلى هذا الدافع باعتباره مؤامرة من رأس المال، عازمة على كسر ظهر العمال.  إنها تناقش قضيتها بحماس.  ومع ذلك، في تفسير الأحداث والسياسات حصريًا من خلال هذه العدسة الطبقية، فإنها تقلل من المشاكل التي كانت تواجه صناع السياسات.  لقد كان هؤلاء يعملون في خضم أزمة اقتصادية خطيرة: فقد بلغت الديون أعلى مستوياتها على الإطلاق، وكان التضخم في ارتفاع، وكان المجتمع عند نقطة الانهيار.  وما لم يعتقد المرء أن أياً من هذا لا يهم، وأن الدين كان بالفعل أو لم يكن في حاجة إلى أن يكون مستداماً، وأن التضخم يمكن أن يستمر على قدم وساق، فقد كانت هناك حاجة إلى الاستيقاظ من أجواء زمن الحرب.  وقد ذهبت بعض السياسات إلى أبعد من اللازم في تقييداتها — على سبيل المثال، عودة بريطانيا إلى قاعدة الذهب على أساس تعادل parity ما قبل الحرب — ولكن التقشف كان ضرورياً لتجنب الانهيار.  ولا يزال من غير الواضح ما الذي تطلبه ماتَيّ أن يفعله المسؤولون على وجه التحديد.  ومن المثير للاهتمام في هذا الصدد أن “فايمار”[1] Weimar و”التضخم المفرط” لا يظهران أبدًا في الكتاب.

ومن بين إشكاليات الكتاب أيضا تعريف ماتَيّ للتقشف.  وفق إطار تحليلها، يبدو أن أي سياسة لا تحفّز الاقتصاد goose the economy هي سياسة تقشفية.  على سبيل المثال، كتبت: “إن التقشف النقدي… يستلزم تقليص الائتمان في الاقتصاد، ويتزامن في المقام الأول مع ارتفاع أسعار الفائدة.”  هل الدرس المستفاد إذن هو أنه في أي وقت يقوم فيه البنك المركزي برفع أسعار الفائدة، فإنه ينخرط في سياسة لتقويض مصالح الجماهير؟  على ما يبدو، ترى ماتَيّ أن “سياسات التقشف التي تستهدف [مكافحة] التضخم ربما يكون من الأفضل وصفها بأنها سياسة تستهدف [زيادة] معدل الاستغلال.”  وبطبيعة الحال، فإن وجهة النظر هذه للسياسة النقدية — والسياسة الاقتصادية على نطاق أوسع — تمثل وجهة نظر خاصة للغاية.  وجهة النظر هذه التي يبدو أنها تستنتج أن التضخم المرتفع لا يشكل مشكلة أو ربما يكون جيدًا بالتأكيد، وفي كلتا الحالتين فإن مثل هذه السياسة منفصلة عن حقائق صنع السياسات.

باختصار، إن ماتَيّ كاتبة ماهرة، وهذا الكتاب هو بالتأكيد مدخل للاستمرار في مناقشة موضوع الكتاب.  رغم أن الجميع لن يتفقوا مع طريقة التحليل أو الاستنتاجات، إلا أن الكتاب مثير للتفكير ويسلط الضوء على لحظة حرجة في التاريخ الاقتصادي.■

 

(*) كلارا إي. ماتَيّ، أستاذة مشاركة في قسم الاقتصاد في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، نيويورك

 

(**) ماكس هاريس، زميل أول، مبادرة وارتون للسياسة المالية والتنظيم، جامعة بنسلفانيا

Max Harris is a senior fellow at the Wharton Initiative on Financial Policy and Regulation and author of Monetary War and Peace: London, Washington, Paris, and the Tripartite Agreement of 1936.

لتحميل المقال كملف بي دي اف انقر تلى الرابط التالي

كلارا ماتـيّ- نظام رأس المال- كيف اخترع الاقتصاديون التقشف ومهدوا الطريق للفاشية

 

(***) مصباح كمال، كاتب في قضايا التأمين

 

يمكن قراءة النص الإنجليزي للمراجعة بالنقر على الرابط التالي: https://eh.net/book_reviews/the-capital-order-how-economists-invented-austerity-and-paved-the-way-to-fascism-2/

 

Clara E. Mattei. The Capital Order: How Economists Invented Austerity and Paved the Way to Fascism. Chicago: The University of Chicago Press, 2022. 480 pp. $30 (hardcover), ISBN 978-0226818399.

 

Reviewed for EH.Net by Max Harris, Senior Fellow, The Wharton Initiative on Financial Policy and Regulation.

 

Copyright (c) 2023 by EH.Net

 

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين.  يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر.

http://iraqieconomists.net/ar/

[1] المقصود جمهورية فايمار، أو حكومة ألمانيا من عام 1919 إلى عام 1933، وهي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى ظهور ألمانيا النازية.  سُميت على اسم مدينة فايمار حيث تم تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة من قبل الجمعية الوطنية بعد تنازل القيصر فيلهلم الثاني عن العرش.

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: