قطاع الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية

د. حسن الجنابي: مواطن الضعف والهشاشة في النظام الغذائي العراقي

النظام الغذائي (Food System) في ابسط تعريفاته هو جملة الانشطة والافعال المتعلقة بالغذاء بدءا من انتاجه وانتهاءا باستهلاكه مرورا بعمليات الاستزراع والسقي والقطف اوالحصاد والتخزين والتسويق والنقل والتصنيع ومتعلقاته من بنى تحتية، وغير ذلك من سلسلة متشابكة من الانشطة بابعادها الاقتصادية والمجتمعية والبيئية وماشاكل.

فكلما كان النظام الغذائي متكاملا ومرنا وفاعلا وفق متطلبات السوق الوطني للغذاء كان هذا مؤشرا على تحقيق، او قرب تحقيق، الأمن الغذائي (Food Security) في البلاد، بالرغم من ان العلاقة بين النظام الغذائي والامن الغذائي هي ليست بديهية، اي ان الامن الغذائي لا يتحقق تلقائيا نتيجة لتحسن النظام الغذائي، فالمفهومان متفاعلان ولكنهما غير متطابقين.

 فالنظام الغذائي اذن هو آلية متحركة وقابلة للتنظيم ويتأثر بالسياسات والقرارت والبرامج المحلية والوطنية، ويعتمد في الكثير من الاحيان على دور القطاع الخاص ومدى فاعليته وقدرته على الاستثمار وعلى تطوير البنى التحتية الضرورية لخلق نظام غذائي يتناسب مع مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وحيث يفترض ان تعمل الحكومة على خلق بيئة قانونية لتشجيع وقوننة انخراط القطاع الخاص في مجالات تعزيزه وتطويره.

 لذلك لايوجد نظام غذائي موحد او نموذجي لجميع البلدان، بل يختلف الامر من بلد الى آخر حسب الخصائص الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها.

 اما الامن الغذائي فهو ليس آلية بل هدف محدد وطَموح وهو مفهومٌ معاصر لقضية طالما عانت منها الشعوب كثيرا من قبل، ولكنها لم تحظ في ظل الحرب الباردة بنفس الاهتمام الذي تحظى به اليوم، وذلك لعدة اسباب: يتعلق بعضها بالحساسية السياسية لقضية الامن الغذائي، لان الحق في الغذاء الكافي هو حق قانوني من حقوق الانسان معترف به، وان عدم تحقيق الامن الغذائي للمجتمع هو موضع ادانة واستنكار من قبل الرأي العام العالمي.

 اما البعض الآخر فيتعلق بسياسات السيطرة والمضاربة وتحقيق الارباح عن طريق وسائل تجارية غير منصفة تتعامل مع الغذاء كسلعة لممارسة الابتزاز وتشويه سوق الغذاء، وغلق المنافذ امام البلدان النامية لخوض منافسة شريفة تحقق معها حماية معقولة لقطاعها الزراعي، وتنميتها الريفية بما يحافظ على تماسكها الاجتماعي والسياسي.

لذلك فالأمن الغذائي يتحقق “عندما يتمتع البشر كافة في جميع الاوقات بالامكانيات المادية والاقتصادية للحصول على اغذية كافية ومأمونة ومغذية تلبي حاجاتهم التغذوية وتناسب اذواقهم الغذائية كي يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة” ويتضمن الامر اربعة مؤشرات يمكن قياسها او معاينتها وهي: وفرة الاغذية بالسوق، واستقرار امداداتها، وقدرة المجتمع على الوصول اليها، والانتفاع منها.

 النظام الغذائي في العراق:

النظام الغذائي في العراق هو نظام هش في احسن احواله بسبب انعدام او ضعف العديد من حلقاته، التي يمكن من خلالها تأمين سهولة وانسيابية الحصول على الغذاء بشكل منتظم ومأمون، وتوجد فيه اختناقات واضحة وفشل في العديد من المرافق والحلقات لاتسمح للنظام الغذائي بالعمل على تزويد المواطنين باحتياجاتهم الغذائية في مختلف الظروف.

 لهذا السبب مازالت هناك فئات كبيرة في المجتمع العراقي تعاني من حالات انعدام الامن الغذائي، ومازال الفقر منتشرا في اوساط تقدر حسب الاحصائيات الرسمية بحوالي ربع سكان البلاد، وتقوم الحكومة العراقية بتوزيع المساعدات الغذائية على المواطنين منذ عشرين عاما وفق برنامج “البطاقة التموينية”.

 ولالقاء نظرة سريعة على النظام الغذائي في العراق، يمكن تصنيف العوامل المؤثرة فيه الى اربعة مجموعات كما يلي:

1-   عوامل متعلقة بالانتاج والانتاجية:

من الواضح ان انتاج الغذاء في العراق قد تدهور كثيرا منذ عقود نتيجة لظروف معروفة اصبح العراق معها مستوردا صافيا للغذاء وبنسبة تزيدعلى (70%) من احتياجات السوق في بعض المحاصيل. كما تقلصت المساحات الخصبة المزروعة وتوسعت المدن وحواشيها بصورة عشوائية واخطبوطية على حساب الاراضي المنتجة، وكانت قد توقفت عملية استصلاح الاراضي منذ تسعينيات القرن الماضي من الناحية العملية، ولم تنجز او لم تستكمل عمليات استصلاح اراضي حقيقية جنوب بغداد وهي متأخرة عن اوانها على الاقل بعشرين عاما، وان انجازها وتشغيل ما انجز منها يجب ان يستند على المعطيات المائية الجديدة وليس معطيات السبعينيات وما قبلها التي انجزت في ضوءها الدراسة الروسية الشاملة للموازنة المائية في العراق.

اما انتاجية الارض فهي الاخرى قد شهدت تدهورا مريعا نتيجة لعوامل عديدة منها: تفتيت الملكية والهجرة من الارياف والحروب وشحة المياه وتكرار حالات الجفاف وتلوث المياه وارتفاع حرارة سطح الارض، نتيجة التغيرات المناخية، مما جعل غلة الدونم الواحد في العراق تصل حدودها الدنيا برغم التحسن الطفيف الذي طرأ مؤخرا نتيجة الدعم الحكومي المستمر وكذلك استخدام تقنيات ارواء جديدة.

 بودي الاشارة الى ان زيادات معتبرة قد حصلت في منتجات زراعية نباتية وحيوانية الا انها لم تنعكس ايجابا على المزارعين والفقراء حيث تتلف سنويا مئات بل آلاف الاطنان منها لعدم التمكن من بيعها او استهلاكها او تصديرها او تصنيعها وحفظها، كما جرى لمنتوج الطماطم في كربلاء وحليب الجاموس في مناطق الاهوار وغيرها الكثير.

تجب الاشارة كذلك الى ان تحسن المداخيل المادية لفئات واسعة من المجتمع العراقي تدفع باتجاه زيادة الطلب على خدمات افضل في قطاع الاغذية مقارنة بما هو معروض سواء في الاسواق او المطاعم او حتى على مستوى الموائد المنزلية.

 2-   عوامل متعلقة بالموارد الطبيعية وخاصة المياه والتربة:

تعتمد الزراعة اساسا على عاملي التربة الخصبة وتوفر الموارد المائية. وفي العراق يسود نمط الزراعة الاروائية مقارنة بالزراعة الديمية او الجافة التي يمارسها المزارعون في بعض المناطق الشمالية حيث يزيد هطول الامطار على 350 ملم بالسنة. وبما ان غالبية منابع الانهار العراقية تقع في الدول المجاورة، ولم تتوصل الدول المعنية بعد الى اتفاقية شراكة منصفة لتقسيم المياه فان عامل الموارد المائية يبقى نقطة ضعف في سلسلة النظام الغذائي في العراق.

 اما موارد التربة الصالحة للزراعة فهي محدودة كذلك حيث تنتشر الترب الصحرواية الرملية وتتمدد الصحراء وتستفحل حالة التصحر التي تدمر خصوبة الارض، ولم تسمح الظروف منذ سقوط النظام السابق باتخاذ اجراءات حازمة لايقاف زحف الصحراء، واذا ما اجتمعت ضغوطات التصحر مع شحة ملموسة بالموارد المائية فان السبيل الوحيد المتبقي امام سكان الريف، وهم منتجو الغذاء الرئيسيون، هو الهجرة الى حواشي المدن، وتعريض النظام الغذائي للمزيد من الهشاشة.

3-   عوامل متعلقة بالحوكمة:

ان الحوكمة (Governance) مفهوم شامل ولم يأخذ بعدُ معناه الحقيقي في اللغة المتداولة في منطقتنا، ولكنه مفهوم غاية في الاهمية للتعبير عن مستوى ممارسة السلطات (التي يتحيها الموقع او القوانين او النشاط الحكومي والمجتمعي العام) للتحكم بالقطاعات المتنوعة، ومنها القطاع الاقتصادي، ويقدر بمستوى الاداء المؤسساتي لذلك القطاع.

 ففي القطاع الزراعي قد يشمل مفهوم الحوكمة سياسات الانتاج والتسويق والتخزين والتسعير والاستيراد والتصدير والقوانين التي تتحكم بأي نشاط من هذه الانشطة ومديات ممارسة مديريات الزراعة والري لمهامها ودرجة التنسيق بينها وارتباطها المباشر او غير المباشر بالمنتجين والمسّوقين وحركية السوق وما الى ذلك.

ومن الواضح فان هذه الشبكة من العلاقات التفاعلية بين الانشطة المتنوعة لاتنم عن وجود انسجام بين اطرافها المختلفة في سوق الغذاء في العراق وتتخذ، على سبيل المثال لا الحصر، قرارات ايقاف استيراد بعض السلع والمحاصيل الزراعية بصورة مفاجئة وغالبا ما تخلق حالة من فوضى الاسعار وهو دليل على هشاشة سوق الغذاء.

 4-   عوامل اجتماعية ونمط استهلاك الاغذية:

ان العوامل الاجتماعية وتقاليد الاكل وطقوس الضيافة والموروث الثقافي هي من اكثر المؤشرات وضوحاً في التعبير عن هشاشة النظام الغذائي في العراق.

 فالعراقي مجبول على انواع محددة من المأكولات، والمطبخ العراقي قد يعتبر من افقر المطابخ على مستوى النوعية التي يتناولها المواطنون، خاصة من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، ولا تبدو ان لدى المواطن العراقي اية مرونة في اختياراته او قائمة مأكولاته على المائدة اليومية، التي لاتخلو بتاتا من الخبز والرز مثلا، وان اي نقص في هاتين المادتين يخلق ازمة حقيقية.

 وعلى سبيل المقارنة فان  مائدة المواطن الغربي مليئة بعشرات الانواع من الاجبان والمعكرونة واللحوم المجففة والمأكولات المعلبة وعشرات الانواع من الخبز وبمختلف الاحجام والاشكال، ولا يشكل نقص مادة معينة اية اشكالية او ازمة غذائية، لأن تنوع المواد الغذائية تتيح خيارات لاحدود لها لتناول اكلات مغذية ولاتشكّل شحة اية مادة بعينها خطرا حقيقيا على الامن الغذائي للمواطنين.

 يمكن بالطبع مناقشة قضايا اخرى مهمة تؤثر على النظام الغذائي في العراق ولكني تجنبت الخوض فيها نظرا لسعة الموضوع، ومنها تأثيرات التغير المناخي وسياسات التكيف مع المعطيات المناخية الجديدة، وكذلك مايتعلق باندماج العراق بالسوق التجاري العالمي، واستمرار العمل بالبطاقة التموينية التي تتسرب من خلال برنامجها مليارات الدولارات العراقية سنويا دون ان تحفز التنمية الاقتصادية، بل تزيد في هشاشة وهزال النظام الغذائي في العراق وغيرها.

 واخيرا وبرغم المرور السريع على قضايا كبرى يتبين ان النظام الغذائي في العراق بحاجة الى تطوير كبير ليغدو فعالا في تقديم الخدمات للمجتمع، اذ ان تنمية النظام الغذائي ينعش الاقتصاد الوطني، ويخلق فرص عمل لعشرات الآلاف من المواطنين، سواء في قطاعات انتاجية او خدمية متنوعة، ويحسّن الامن الغذائي للمجتمع ويجعله قادرا على مواجهة الازمات المتكررة في سوق الغذاء العالمي.

 *سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)

جريدة الصباح 9/5/2013

http://alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=46173

 لتنزيل المقال كملف بي دي أف انقر هنا

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: