الموارد المائية و حماية البيئة

د. حسن الجنابي: العراق: خبرة في الأنشطة الإغاثية ولكن…

من الناحية النظرية يجب ان يكون العراق في مقدمة دول العالم بتقديم خدمات الاغاثة والطوارئ وسرعة الاستجابة للحوادث والكوارث، الطبيعية منها او تلك المتعلقة بسلسة الحروب والتفجيرات الارهابية، ولكن الواقع العملي يكشف ان الهوة بين الامكانيات المتاحة والرغبات لم تزل كبيرة.
فالعراق من اكثر دول العالم “خبرة” في مجالات الاغاثة الانسانية وادارة الازمات والكوارث، بسبب الاحداث العاصفة التي شهدتها البلاد نتيجة المغامرات العسكرية والحروب والاحتلال والمقاطعة الاقتصادية وغير ذلك، مما اوقع المجتمع العراقي بكامله ضحيةً لوضع انساني قاسٍ وطويل الامد قل مثيله في العالم، وحيث تراجعت قدراته الذاتية على البقاء ككيان متماسك ومنتج للثروة الى درجة مفزعة، بل اصبح معتمدا بشكل رئيسي على مساعدات حكومية شحيحة، احكمت من خلالها السلطة الغاشمة السابقة سيطرتها عليه، وامسكت بخناقه ومنعت حركيته المطلوبة، وعرقلت انعتاقه وانطلاقه نحو التنمية والرفاهية.
كما ان تجربة العراق في توزيع الطعام على السكان في ظل برنامج البطاقة التموينية لا يوجد لها شبيه في العالم من حيث طول فترة التطبيق، التي تجاوزت العشرين عاما، او من حيث المبالغ المخصصة للبرنامج، والتي تقدر كمعدل بحوالي خمسة مليارات دولار سنويا منذ عشرين عاما، ولا بسعة وشمولية التغطية المجتمعية به، حيث ان برنامج البطاقة التموينية يشمل الجميع، الغني والفقير، المهجّر والمستقر، الوزير والعاطل عن العمل.
ولكي يكون المرء منصفا فان برنامج البطاقة التموينية قد ادى غرضه الاغاثي بصورة مرضية في وقت سابق، وانه لم يعد يسهم لا من قريب ولا من بعيد في تحقيق الامن الغذائي، الذي تحققه التنمية وليس توزيع المساعدات الغذائية، وان استمرارالبرنامج بهذا النحو واقتصاره على تقديم المعونات الغذائية يعرقل الانتاج الزراعي المحلي، ويضعف من تنافسيته، اضافة الى انه يعيق تحرر المجتمع من سيطرة الدولة ويبقيه عبئا عليها، ولذلك فان استبدال البطاقة التموينية ببرامج تعزز الانتاج المحلي وتحقق تنمية معقولة بالقطاع الزراعي يبقى استحقاقا وطنيا بحاجة الى قرارت جريئة في السعي لكي يستعيد المجتمع عافيته.
واذا ما مثلت البطاقة التموينية استنزافا لموارد البلاد المالية بغرض الاستيراد من الخارج، فان الاوقات العصيبة التي مرّت على العراق ولحد هذه اللحظة، حيث يتواصل الهجوم الارهابي بأشكال مبتكرة للايقاع باكبر عدد من الضحايا، وخاصة من المدنيين والعزّل، ينهك عمل وكفاءة اجهزة الطوارئ في الاستجابة السريعة لتطويق الحوادث، وتلبية متطلبات الاسعافات الاولية، واخلاء ونقل الضحايا وتقديم الخدمات الطبية والامنية والغذائية وغير ذلك، نتيجة للاستنزاف المستمر للموارد ولشدة الهجمات الاجرامية.
الفيضان الاخير نموذجا:
شهد العراق خلال الاشهر الثماني الماضية عدة فيضانات غير مألوفة في اماكن عدة منها في بغداد وصلاح الدين، وكان آخرها فيضان العديد من المساحات في محافظتي واسط وميسان في بداية شهر ايار 2013 مما ادى الى غرق عشرات القرى وانهيار المنازل والاكواخ وهجرة مئات العوائل نتيجة له.
لقد اظهر هذا الفيضان في احد جوانبه تلاحما وطنيا وتعاطفا شعبيا مع الضحايا، وخاصة في انخراط الجيش بتقديم الدعم المادي واللوجستي للسكان، الى جانب الاجهزة المدنية الاخرى، وكذلك في الحضور اللافت لممثلي الحكومة، من وزراء ومسؤولين الى المواقع المتضررة، الا انه اظهر من جانب آخر ضعف امكانيات العراق اللوجستية والاغاثية، وهشاشة التجمعات السكانية القروية والحضرية في مواجهة حالات طارئة او كارثية، والنقص الفادح في الموارد المخصصة لحالات الطوارئ لدى المدن والقصبات والمحافظات العراقية، وبهذا الصدد اود تسجيل مايلي:
1.ان المناطق التي جرفتها السيول او غطتها مياه الفيضان في الكوت والعمارة هي من المناطق الاكثر فقرا في العراق ولذلك كانت السيول اشد فتكا. فقد هطلت كميات كبيرة من الامطار خلال مدة قصيرة على مساحات شبه مستوية، قطّعتها سداد ترابية وطرق، وانشئت بها عشوائيا بيوت طينية وتجمعات سكانية حتّمت انشاءها ظروف الفقر والحروب، فلم تجد معها المياه المتجمعة منافذ كافية للتسرب الى مجاري الانهار القريبة والمناطق المنخفضة، التي كانت عبر التاريخ مسطحات مائية واهوارا، فارتفعت مناسيبها الى حدود خطيرة اغرقت البيوت والاكواخ والممتلكات والحيوانات، واتلفت المزروعات وأجبرت الآلاف على البقاء في العراء.
2.لم تكن كميات السيول وكثافة الامطار التي سقطت مستغربة، اذ سبق ان شهدت تلك المناطق سيولا جارفة من المرتفعات الايرانية، اشهرها تلك التي كان يستوعبها هور السناف وتتسرب عبره الى هور الحويزة بدون عوائق، وهي غالبا ما كانت تأتي بشكل مفاجئ وبوقت قصير، فتحدث فيضانات جارفة يضخها نهرا دويريج والطيب وغيرهما من الروافد الى الاهوار الشرقية. لكن المستغرب في الفيضان الاخير هو توقيت حدوثه خارج الفترة الزمنية المتوقعة للعواصف المطرية. وبالمناسبة فقد شهد هذا العام تمدّدا للمواسم الماطرة والباردة بشكل لم يكن مألوفا في مناطق عديدة من العالم، واجتاحت اوروبا –مثلا- موجة امطار غزيزة اغرقت العديد من المدن الاوروبية وخاصة مدينة براغ، وفاض نهر الدانوب وانهار اوروبية اخرى في منتصف حزيران وهو من شهور السنة الجافة. كما تأخرت الامطار الموسمية في شبه القارة الهندية المعروفة بحوالي الشهر عن موعدها المألوف، مما يضيف مؤشرا آخر على حجم التغيرات في انماط الطقس التي تعزى الى التغيرات المناخية.
3.بما ان المنطقة التي عصفت بها الامطار والسيول هي بالاساس عرضة للفيضان، وفقا للمعطيات الهيدرولوجية، فقد قامت السلطات في فترات سابقة بانشاء سداد ترابية لحماية القرى والتجمعات السكانية من احتمال حدوثها، ولكن الخلل الاساس في عدم فعالية تلك السداد ينبع من عاملين رئيسين: اولهما ان السداد اهملت ولم تشهد تعزيزا او تأهيلا يسمح لها بالصمود امام موجات الفيضان، بل كانت متهرئة نظرا لطول المدة منذ انشائها، وحيث لم يحدث ما يستدعي الالتفات اليها واعادة تأهيلها نظرا لطول فترة الجفاف. اما السبب الآخر فهو ان نسبة كبيرة من السداد الترابية التي انشئت في ظل النظام السابق كانت لخوض العمليات العسكرية وكذلك بغرض تجفيف الاهوار العراقية، وقد شيدت من اجل منع انسيابية المياه خوفا من تسربها الى المساحات المجففة التي كانت تستوعب الفيضانات الكبيرة التي كان يشهدها وادي الرافدين منذ الازل.
4.لم يمثّل ارتفاع مناسيب المياه في مناطق الاهوار مشكلة لسكان الاهوار في السابق مهما كان حجم الفيضان، بل على العكس لأنه يسرّع من وتيرة الحياة، وينعش حياة السكان اقتصاديا واجتماعيا، ويجدد دورة الحياة ويعزز التنوع البيولوجي، بالاضافة الى انه كان يحدث سنويا في الربيع. اما الفيضان وارتفاع المناسيب في المناطق الجافة او المجففة فهو يخلق مأساة انسانية ويحدث خسائر اقتصادية وتنتشر اثناءه وبعد انحساره الامراض والحشرات والبعوض وغير ذلك، ولذلك فان تحويل المناطق المجففة الى تجمعات قروية وسكانية فيه خطورة دائمة، ويفترض بالسلطات المحلية ان تشجع السكان على الانتقال الى اماكن افضل عن طريق تقديم مساعدات تغري (ولاتجبر) السكان على ترك المناطق المنخفضة.
5.ان العبث بالطبيعة وتحويل استخدامات الارض عشوائيا من صنف الى صنف آخر، وتجفيف الاراضي الرطبة والمسطحات المائية يفاقم المشكلات ويضاعف الخسائر، ويستنزف الموارد القليلة اساسا، ويزيد من انتشار الفقر، وهو بالتأكيد يضعف قدرة الدولة على تقديم المساعدات، وينهك قدرة المجتمع على مقاومة الطوارئ وامكانيته في المحافظة على سبل المعيشة الكريمة.
6.ان الكوارث المرتبطة بالمناخ او بالانماط السائدة للطقس في العراق (وفي مختلف مناطق العالم)، سواء على شكل فيضانات وسيول جارفة، او حالات جفاف ممتدة، او موجات حرارة مرتفعة، او برودة قاسية وغير ذلك، هي في تزايد مستمر، وهذه لم تعد تكهنات بل معلومات ملموسة، وفي ضوء ذلك فان تجاهل هذه المعطيات وعدم اخذها بالاعتبار في الخطط والمشاريع التي تنجز مستقبلا يدخل من باب الاهمال وعدم الالتزام بالواجب الوطني، لأن مسؤولية ضحايا تلك الحوادث او الظواهر المناخية المتطرفة وخسائرهم سيتحملها متخذو القرار اليوم وخاصة اولئك الذين يخططون المشاريع.
7.ان العراق بحاجة ماسة الى تطوير برامج وسياسات التأمين على الحياة والممتلكات والمزروعات لكي تتولى الجهات المعنية الاستجابة المباشرة والمهنية لحاجات السكان وخاصة من الضحايا، وتخليص الحكومة المركزية من اعباء جرد الخسائر وتفاصيل التعويضات والدخول بالمواجهة المباشرة مع ضحايا فقدوا املاكهم وديارهم وربما عوائلهم، ولن ترضيهم ابدا الاستجابة المرتجلة لبعض احتياجاتهم الآنية، ويزعجهم انتظار تقارير اللجان المشكلة وفق معايير قد يكون بعضها ارتجاليا، بل يجب ان تتولى الامر مؤسسات مختصة، قادرة على تسوية الاوضاع الانسانية بشكل عادل، ووفق مقاييس وطنية متفق عليها وبعيدة عن المزايدات السياسية التي تشتد في اوقات الازمات.
8.من “الطرائف” ذات المغزى السياسي التي يمكن ايرادها كعيّنات اثناء ازمة السيول والفيضانات الاخيرة، اذا ما غضضنا الطرف عن التباكي على الضحايا من قبل مسؤولين وسياسيين محليين لاسباب معروفة، هي الشكاوى الكثيرة من ان السيول جاءت من ايران، والايحاء بأن ايران مسؤولة عن اضرار الفيضانات، بعد ان كانت ايران ووفق نفس المصادر، تتهم بالتسبب بالجفاف وتلوث المياه الذي شهده العراق في السنوات السابقة، بسبب تحويل مجاري الروافد والانهار القادمة الى العراق من الى داخل اراضيها. فقد نشراحد المواقع خبرا عن الموضوع بعنوان” سيول ايران تقتل عراقيين وتدمر منازل وتحاصر مئات القرى”. وبغض النظر عن صحة او خطأ هذه المعلومات فان الاستغلال السياسي للحدث يثير الاستياء. كما ترددت كثيرا التهم بالتقصير من قبل مسؤولين محليين وصحفيين ومواطنين ضد الحكومة المركزية. ففي الوقت الذي حمّل محافظ ميسان المسؤولية لوزارة الموارد المائية مثلا، القى رئيس مجلس محافظة ميسان السابق المسؤولية على المحافظ قائلا ان غرق منزله الشخصي هو “مؤامرة تستهدفه شخصيا” من قبل الجهات التنفيذية، وغير ذلك الكثير من فوضى التصريحات التي تمتلأ بها المواقع.
9.لاشك ان السلطات المحلية بحاجة الى معرفة احصائية دقيقة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي ضمن مسؤولياتها، عن طريق اجراء المسوح المنتظمة وجرد الثروة الحيوانية والممتلكات وغيرها، بغرض تقديم الدعم اللازم للتجمعات السكانية والقروية لمساعدتها على مقاومة الضغوط، بما فيها الضغوط المتعلقة بتغيرات الطقس، ام تلك الناتجة عن سوء الخدمات في الارياف، وهشاشة سبل المعيشة، ولكي لا يكتفى بالتقديرات التي تتوصل لها لجان تقييم الخسائر المشكلة بصورة مؤقتة وتحت وقع
الكارثة.
10.ان تعزيز قدرات العراق في الاستجابة الاغاثية في حالات الطوارئ يكمن في نجاحه في مكافحة الفقر والهشاشة، وتطوير القدرات الوطنية والمحلية والشراكة الاستراتيجية مع منظمات الاغاثة الانسانية الدولية وخاصة برنامج الاغذية العالمي (دبليو اف بي) الذي يتمتع بامكانات هائلة بتقديم المساعدات الانسانية، ولنقل الخبرة والموارد الاخرى بما فيها التكنولوجية الى الجانب العراقي، وكذلك منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو) لاعادة تأهيل المزراع والحقول المدمرة والتي خسر بها العراق ما يعادل مليون طن من الحبوب من انتاجه لهذا العام حسب تقديرات غير رسمية.

* سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)

 جريدة الصباح البغدادية: 11/6/2013

 لتنزيل المقال بصيغة ملف بي دي أف

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. Avatar
    د.رعدتويج:

    IF WE WANT BUILDING AN INSURANCE SYSTEM COVERD THE RISKS FACED THE PEPEOLE WORKINING IN AGRILUCTURE SECTOR,IN START THOSE PEPEOLE HAVNTAPOWER PURCHCE ECPCIALITYIN SOUTH OF IRAQ THERFORE WE NEEDSAPUBLIC INSURANCE COMPANYTO GOVER ALL KINDS OF RISKS OR BAISES THE BOX INVESTMENTTO PRESENT AELPS FOR REFGUE .

  2. Avatar
    د.رعدتويج:

    WE CAN REGARDED THE IRAQ ONE FROM COUNTRIE WICH THRETEN BY
    MANYRISK NATURAL,SOCAIL,POLITICAL AND OTHERS ,IN ONE THE MOST SUFFERD THAT ABIG CRISES IN 2006 WHEN MORE ONE OR TWO MILIIONS CITIZNS BECAME WITHOUT WEARHOUSE OR HOMLESS AS MIGRATION ENTERNAL, IN THAT TIME I WRITTEN THE RESEARCH TO THE NATIIVE GOVERMENT OF NAJAF AND I INVITE FOR DRAWING THE EMERGENCY PLANING IN ALL IRAQ TO PROTECT THE POOR LEVELS TO EMPOWEMENT THEM TO PASSING SIMILAR CONDITION ,NOW AND AFTER SEVEN YEARS IFROM THIS TERRIBLE MEMORY IREMMBERDTHE REPRESETATON OF IRAQIN INTERNATIONAL ORGINIZATIONSTO TAKE THIER ROLE ACHIEVE
    THE SAFER FOOD IN IRAQ BY SCALE PROJECTTHAT MINIMIZE THE EXCESS IN WATER AND EXPLOIDED THAT IN QTHER TIMES OR ANOTHER USES
    WE MUSTINCREASE THE EVORTS TO BRING THETECHNOLOGY AND SKILLS

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: