خواطر إقتصادية

د .مدحت القريشي: لماذا الاصرار على اهمال الصناعة الوطنية ؟ صناعة السمنت نموذجا

تسعى معظم بلدان العالم لتقديم مختلف انواع الدعم من اجل تنمية وتطوير صناعتها الوطنية وجعلها  احد مرتكزات  اقتصادها الوطني .وهناك جملة من السياسات والادوات  المستخدمة في هذا المجال : منها توفير البنية الارتكازية من طرق ومواصلات  وطاقة كهربائية ومياه واتصالات، وكذلك تقديم الاعانات المالية المباشرة والاعفاءات من بعض الضرائب والرسوم ،فضلا عن معاملة المنتجات المحلية معاملة تفضيلية

في المشتريات الحكومية بالمقارنة مع المنتجات الاجنبية  وتسهيل توفير مستلزمات الانتاج  وبعض الخدمات . ومعلوم  ان مثل هذا الدعم يساهم في رفد السوق المحلية  بالسلع والخدمات ويولد الدخول وتشغيل الايدي العاملة العاطلة فضلا عن تنويع  النشاط الاقتصادي ومعالجة التشوه الحاصل في بنية الاقتصاد العراقي ..وتجدر الاشارة الى ان معظم هذه السياسات كانت مستخدمة خلال الستينات والسبعينات . الا انه منذ  سقوط النظام السابق في عام 2003  غابت جميع السياسات والادوات المذكورة  عن التطبيق بذريعة متطلبات اقتصاد السوق والمنافسة وبذلك اهملت الصناعة المحلية بشكل كامل رغم الظروف  الصعبة التي تواجه هذه الصناعات وكذلك الاقتصاد الوطني بشكل عام  ، الامر الذي ادى الى اغلاق العديد من المصانع الحكومية والاهلية  على حد سواء .

ورغم الدعوات المتكررة في الصحف المحلية وكذلك الندوات والمؤتمرات العلمية لم يحدث اي   تغيير يذكر  في هذا المضمار وكأن الامر لا يعني الحكومة  والجهات الاقتصادية المعنية .ان مثل هذا الاهمال المتعمد يمكن ان يفسر بعوامل عديدة  : منها غياب الرؤيا الاقتصادية  السليمة وضعف الشعور بالمسؤولية في هذا المجال ، الى جانب تاثيرجماعات الضغط المختلفة  وخاصة المصالح التجارية  (المحلية والاقليمية ) وبعض النواب والسياسيين المرتبطين معهم . لهذا فقد انتشر النشاط التجاري بشكل جنوني وتوسع ليشمل كل انواع السلع على حساب اختفاء النشاط الصناعي وحتى الزراعي في البلد .وقد اصبح اللوبي التجاري من القوة بحيث يستطيع الوقوف بوجه جميع المحاولات الرامية الى تحريك النشاط الصناعي . وهذا مايفسر تعثر تطبيق قانون التعرفة الجمركية لمرات عديدة بعد الاعلان عن موعد تطبيقها .

والجدير بالاشارة ان العديد من الدول المجاورة تقدم مختلف انواع الدعم لصناعاتها الوطنية وخاصة تلك المتوجهة للتصدير للسوق العراقية مستفيدة من السوق المفتوحة على مصراعيها وغياب او ضعف الرقابة والسيطرة فضلا عن استشراء الفساد الاداري والمالي في المنافذ االحدودية .   وعلى سبيل المثال ما تقدمه الحكومة الايرانية من دعم للصناعات وخصوصا  التي تصدر منتجاتها الى العراق ومن ابرزها  منتجات الصناعات الانشائية كالسمنت والطابوق والبلوك الخ . وتشمل وسائل الدعم الاعانات المالية المباشرة والاعفاءات من بعض الضرائب والرسوم . والمعروف  اقتصاديا ان  هذه المنتجات تعد  غير ملائمة للمتاجرة  ، وخاصة الطابوق كونها ذات حجوم كبيرة وبالتالي ذات تكاليف نقل مرتفعة .  لكن الاعانات السخية ووسائل الدعم المختلفة ساعدت على تخفيض اسعارها وجعلتها منافسة للمنتجات العراقية المماثلة . العراقية المماثلة والتي لا تحصل على اي نوع من الدعم والتسهيلات .،

والجدير بالاشارة هو انه    بالرغم من البيئة غير المواتية للمصانع العراقية والتي ذكرت انفا  فهنالك حالات قليلة استطاعت فيها بعض المصانع العراقية من تجاوز هذه الظروف السلبيةوشق طريقها نحو النمو والتطور .وعلى سبيل المثال ما حصل في الشركة العامة للسمنت العراقية (احدى شركات وزارة الصناعة والمعادن )حيث حققت خلال العام  2013زيادة كبيرة  ونسب تطور في الانتاج والمبيعات لمعاملها الاربعة ، وهي الفلوجة وكركوك والقائم وكبيسة   ،مقارنة بما تحقق  خلال العام السابق 2012  .ففي تصريح للسيد ناصر ادريس ،مدير عام الشركة ، بان اجمالي كميات السمنت المنتج بلغت نحو2.4 مليون طن وبنسبة نمو نحو 155% وازدادت المبيعات بحوالي نفس المعدل المذكور .وبطبيعة الاحوال فقد انعكس هذا الوضع الايجابي على حجم الارباح المتحققة (*) .

وقد استطاعت الشركة تحقيق  هذه النسب المرتفعة  من الانتاج والتسويق رغم استمرار مشكلة اغراق السوق المحلية بانواع  مختلفة من السمنت المستورد وخاصة  السمنت الايراني المدعوم من الحكومة  الايرانية .ومما ساعد على هذا الانجاز عمليات التأهيل للمصانع المذكورة التي تقوم بها الشركة وتوفير المحطات الكهربائية،فضلا عن تخفيض اسعار البيع للسمنت المنتج بمبالغ تتراوح بين 5-10 الاف دينار للطن الواحدعن سعر بيع  مثيلاته المستوردة (باستثناء السمنت الايراني الذي يباع باسعار متدنية جدا .  .والى جانب العامل السعري هذا فقد سعت الشركة ايضا للمحافظة على مستوى الجودة  و النوعية  المطابقة للمواصفات القياسية والتي مكنتها من الحصول  على شهادة الجودة العالمية. ان هذا المثال الواضح لنجاح هذه الشركة في مواجهة تاثيرات المنافسة  غير المتكافئة يجب ان يحفز  الحكومة على التوجه  نحو دعم هذه الشركة والشركات الاخرى لمساعدتها  البقاء وعلى  النمو والتطور وتحسين النوعية

خدمة للصناعة الوطنية والتنمية المستدامة .

*) خبير اقتصادي واستاذ جامعي

(*) انظر :السمنت العراقية : حققنا زيادة في الانتاج بنسبة153% في معاملنا الاربعة ، جريدة المدى العدد3986،الثلاثاء  2014 .

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    محمد سعيد العضب:

    المقالة تضمنت تحليلا صائبا لكل ما تحتاجه الصناعة الوطنية الوليدة من دعم واسناد عقلاني , بأشكاله المختلفة من دون الترهيل . عليه انها ليس بدعه خاصه بالبلدان النامية , بل ان مراجعه تاريخ التطور الصناعي عبر العالم يظهر ان الحماية والدعم للصناعة الوليدة مارسته ولا تزال تمارسه بلدان عتيه في التطور والتقدم , مثل الولايات المتحدة الأميركية والمانيا واليابان وغيرها
    فالانفتاح واعتماد نظام السوق لا يلغي التدخل الحكومي والمؤسسي لتحقيق اهداف التنمية والنمو وحل مشكلات البطالة وايجاد فرص عمل جديده
    ظلال الشعارات ساد ويسود في بلد مثل العراق, حيث يعم التطرف في كافه مناحي الحياه في السياسية والاقتصاد وغيرها. المشكلة التي رافقت بناء الصناعة في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية ولما بعد افول الدولة عام 2004اتكمن ,كما يبدو في التنافس الشديد بين تصور التركيز فقط علي صناعه استخراج النفط والزراعة وعدم ارهاق البلد في اتون بناء صناعه وطنيه ابتداء من صناعه تصفيه النقط وانتقالا الي البتروكيماويات او صناعات اخري لا حلال الواردات , لان البلد كما يعتقد رواد هذه المدرسة ,يمتلك من العملات الصعبة التي تؤهله استيراد احتياجاته من السلع والخدمات.
    . فاليوم عم الفكر والتصور ان الصناعة” وتطويرها غير استخراج النفط موروث فاشل من دون الامعان في حثيثات التهمه او التدقيق المبدع في ماهيه التطرف في تصعيد اهميه قطاع النفط حيث اصبح اللوبي هذا قويا واسند من دعاة ” ان لله وهب العراق النفط” ولابد من تركيز كل الاهتمام عليه كماا ستطاع ان يستقطب حوله ليس فقط بعض ا لاحزاب الدينية المتسلطة بل جند حوله التجار واصحاب الفكر الذي يؤمن “ان الاستيراد ” هو وحده يلبي الطموحات الاستهلاكية للشعب العراقي الذي حرم منها لعقود طويله .هنا تم ايضا نسيان او تجاهل السؤال السرمدي … هل فعلا يمكن لقطاع استخراج النفط وتجاره الاستيراد ان تساهم في خلق التشغيل الفعال للسكان والقضاء علي البطالة المقنعة في جهاز الدوله الذي اصبح المستوعب الوحيد للقوي العامله ا الجديده في الاقتصاد العراقي

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: