العلوم والتكنولوجيا ومراكز الابحاثملف الكفاءات العلميّة

أ.د. محمد الربيعي: هل يريد الوطن الاستفادة من علمائه وكفاءاته فـي الخارج حقا؟

فـي العالم لا يختلف اثنان حول أهمية الكفاءات المهاجرة فـي بناء البلد إلا في العراق فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الأخرى التي تعرقل حل المشاكلات والقضاء على الأزمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي إلى الأمام. وفي العالم لا جدال حول أهمية العنصر البشري فـي العملية الاقتصادية مهما كان انتماؤه أو لون بشرته او مكان إقامته مادام يمتلك الخبرة والكفاءة والمعرفة التي تتلاءم مع احتياجات المجتمع التنموية،
فدول العالم اهتمت وتهتم بكفاءاتها فـي الخارج كاهتمامها بكفاءات الداخل، لا بل تعطي اهتماما اكبر لكفاءات الخارج بسبب تمكنها ونجاحها فـي مجتمعات متطورة ومتقدمة وفـي أجواء تنافسية عالية ولتمتعها بدرجة عالية من التعليم والمهارة.
في العراق فقط ترى حالة عدم احترام القدرات العلمية والكفاءات التي ترغب صادقة في خدمة وطنها، وتسود آراء عدائية نحو كفاءات الخارج منها ما يؤكد على عدم احتياج العراق الى هذه الكفاءات وبأنها غريبة عن تربة الوطن ولا تفهم مشاكله ولا تستطيع ان تقدم حلولا لها. أصحاب هذه الآراء لا يعرفون ان العلماء العرب في أمريكا فقط يقدمون لها دخلا لا يقل عن 40 مليار دولار سنويا، وهو ما يعادل نصف دخل الدول العربية مجتمعة من النفط، وبأن احد أسباب ازدياد تخلف الدول العربية هو هجرة علمائها الى الخارج وعدم الاستفادة من خبراتهم في التنمية.
وفي المقابل تعتبر كل الآراء المنشورة والتصريحات الرسمية حول الموضوع ان الأدمغة المهاجرة هي خسارة جسيمة للاقتصاد الوطني، وتأكد على ضرورة الاستفادة منها في كل مجالات التنمية. وفي صدد تقديم أجوبة شافية للأسباب الداعية لهجرة الأدمغة العربية يشير الدكتور عبد الحسن الحسيني في كتابه “التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة”إلى تبذير الأموال والطاقات والتدخل المباشر في حياة الفرد والى انتشار الفساد واستلام الفاسدين والمفسدين مقاليد الأمور بحيث يؤدي ذلك إلى أن يعيش طلاب العلم في غربة وسط أزمات سياسية وعلمية واقتصادية مما تدفعهم إلى الهجرة والعمل خارج أوطانهم فيبرعوا وينتجوا. فإذا كان الجميع يتفق حول خطورة هذه الهجرة ويدق كثيرون ناقوس الخطر ويحذرون من نتائجها السلبية ويعقدون مؤتمرات ليبحثوا وسائل الحد منها وكيفية استعادة هذه العقول إلى وطنها فلماذا لا نجد حتى ابسط الحلول والسياسات تطبيقا في بلداننا؟ وهل ان من يبرع وينتج في الخارج لا يستحق الرعاية والتقدير في الداخل؟
ما هي أسباب هذا النهج والآراء العدائية؟ ولماذا لم يستفد العراق من كفاءاته في الخارج بصورة صحيحة وفاعلة؟ ولماذا يستمر إبعاد وتهميش الخبرات والكفاءات؟ ولماذا نجحت دول نامية في اجتذاب علماءها وكفاءاتها في حين فشل العراق؟ يعزو البعض ان بعض الأسباب تعود الى العرقلة الإدارية التي يمارسها بعض المسؤولين بسبب تخوفهم من الخبرة القادمة، حيث الهدف هو تحقيق المصالح الشخصية قبل مصلحة الوطن. قد يكون هذا هو احد الأسباب، الا انه ليس بالسبب الرئيسي. الفشل في الاستفادة من العقول العراقية في الخارج يعود بدرجة ما الى انعدام الاهتمام بهذه الظاهرة ومحاولة فهمها ووضع افضل السبل لمعالجتها. وتتحمل الدولة مسؤولية كبيرة في هذا التقصير ونحن نتفق مع جعفر الونان في انه يؤخذ على الحكومة عجزها في وضع برنامج علمي لتحفيز وجذب العقول العراقية المهاجرة وانعدام الحلول الجذرية واستمرار التجاذبات بين رئاسة مجلس الوزراء الحالمة بعودة عدد اكبر من الكفاءات وبين الوزارات التي تضع ضوابط معقدة. كما ان مجلس النواب السابق لعب دورا في إيقاف تشكيل هيئة إعادة الكفاءات الوطنية العراقية المهاجرة التي كان من المفترض تشكيلها من عدد من الوزراء ووكلاء الوزراء والشخصيات العراقية وذلك بعدم تشريع قانون الكفاءات في الوقت الذي اعتبر فيه وزير التعليم العالي د. عبد ذياب العجيلي الكفاءات العلمية المهاجرة ثروة وطنية وخزين وطني استراتيجي.
لابد من التأكيد على أن سياسات الاستفادة من الكفاءات لابد ان تبنى على أساس إزالة العوائق التي تعيق ارتباط العلماء وأصحاب الكفاءات بالوطن ومنحهم الحوافز المادية والاجتماعية للعمل في الوطن، ومنها إزالة الروتين القاتل في انجاز معاملات العائدين وصعوبة الحصول على سكن ملائم ووظيفة ملائمة. إلا أن هذا ليس بالكافي لان هجرة الكفاءات وعدم رجوع المهاجرين وبقاءهم في بلد المهجر يعود إلى جملة من العوامل السياسية والاقتصادية تم تناولها عدد كبير من الكتاب والباحثين في موضوع هجرة العقول ولا مجال لتناولها بالتفصيل هنا في هذه المقالة القصيرة، ونكتفي بذكر بعض الأسباب كالفقر والبطالة والاضطهاد السياسي وانعدام الحريات وحالة عدم الاستقرار والمشكلات الاجتماعية وضعف فرص المشاركة والعمل الملائم والتي أدت إلى هجرة ما بين عشرين الى ثلاثين مليون مهاجر أي ما يزيد عن 10% من سكان العالم العربي. وتشير التقارير الى أن 55 % فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلادهم فيما يستقر الآخرون في الخارج. يا ترى كم من الطلاب الذين ترسلهم وزارة التعليم العالي ورئاسة مجلس الوزراء سيعودون إلى العراق بعد انتهاء دراستهم؟ وهل أخذت احتمالات عدم عودة الكثير من الطلبة وأسبابها بنظر الاعتبار في اختيار المرشحين للبعثات؟ لقد كنا قد اقترحنا سابقا بالتأكيد على تدريب من هم أكثر ضمانة بالرجوع للوطن ألا وهم أساتذة الجامعات الحاليين واقترحنا فترات بين سنة وثلاث سنين وبدفع كافة التكاليف على عكس ما تعتمده وزارة التعليم العالي حاليا من برامج قصيرة للتدريب ومن دون دفع أجور التدريب للجامعات المضيفة وهو ما يؤدي إلى صعوبة إيجاد موقع ملائم للتدريب وإذا وجد الموقع فأن التدريب لا يؤدي إلى الغرض المرجو منه لقصر الفترة.
إذا ما فرضنا عدم وجود زخم كبير لهؤلاء الذين لا يرغبون بعودة الكفاءات او الذين يتخوفون من منافسة او مزاحمة الكفاءات الخارجية او حتى هؤلاء الذين يحملون الضغينة والكره لمن هو في الخارج لاعتقادهم بعدم وطنيته او بعمالته او لفكره السياسي الليبرالي، نجد ان فرص الاستفادة من كفاءات الخارج هائلة ولا تتطلب تخصيص مبالغ مالية كبيرة اذا ما اعتمدنا مبدأ “تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق” وذلك بالاستناد إلى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة لاعتقادنا بأن هذا الأسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة لأنه حل منطقي وعملي وهو حل ملائم لأصحاب الكفاءات المهاجرة التي تريد خدمة وطنها مع بقاءها في الخارج، ولقد سبق وان كتبنا حول هذا الموضوع ويمكن للقارئ مراجعة محاضرتنا المدرجة واصلها الالكتروني في أسفل هذه المقالة، كما يمكن مراجعة كتاب “العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار” للبرفسور نادر عبد الغفور احمد والذي يقدم دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية وكيفية استثمارها لخدمة الوطن.
وخلاصة ما يستهدفه خيار الاستثمار في مجال التعليم العالي هو بقاء العقول في الخارج مع أشراكهم في التدريس والإشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او “التعليم عن بعد” وطرق إيصال المعرفة الأخرى. وهنا لابد من ذكر ان وزارة التعليم العالي العراقية قامت بدعوة عدد محدود من العلماء العراقيين للمشاركة في مؤتمرات علمية ولتقديم بعض المحاضرات. ومن المؤسف عدم وجود خطة عملية لتنظيم الزيارات بحيث تضمن استمراريتها وازديادها وبحيث لا تخضع الى المزاجية والموسمية.أما وزارة التعليم العالي لإقليم كردستان فقد بدأت بالفعل في العمل ببرنامج للإشراف المشترك على الدراسات العليا في الجامعات التي تقع في إقليم كردستان حيث يتوجب على طالب الدكتوراه قضاء فترة لا تقل عن سنة في الجامعة الأجنبية وبالتحديد في مختبر الأستاذ المشارك في الإشراف حيث يتم إجراء بعض جوانب البحث التي يستوجبها المشروع الدراسي المشترك. ولقد قامت الوزارة بتقنين هذا الأسلوب لتطوير الدراسات العليا وكذلك تطوير التعاون العلمي مع المؤسسات البحثية العالمية.
وما نصبو إليه هو ان يتم العمل على تعزيز الجوانب التنظيمية والإدارية للزيارات العلمية على مستوى الوزارات والجامعات لتحسين النشاط التدريبي والاستشاري والبحثي وتعزيز فاعليته وبحيث يصبح دعوة العلماء عملا مستمرا لكل وزارة ولكل جامعة. لذلك يتوجب العمل وبسرعة لكي لا يستمر النزف هو ان تقوم الدولة والوزارات المختلفة بوضع الإجراءات الضرورية وخلق الآليات العملية وتخصيص الأموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير وبوضع التعليمات التي تؤدي إلى تشجيع وتسهيل الدعوات لعلماء وكفاءات الخارج بزيارة الوطن والمشاركة في بناءه. كما يتطلب اخذ الإجراءات التي من شأنها ان تشجع كل كفاءة خارجية بالاتصال بجامعة او بمعهد تدريب او تطوير او بوزارة لإعلامها بوجوده وبرغبته لتقديم خبرته حتى ولو كانت على صورة محاضرة قصيرة او اجتماع قصير. ولو كنت في موقع المسؤولية لوضعت مراقبا في كل مطار من مطارات العراق لكي يقوم بتقديم الدعوة لكل زائر من العراقيين ممن له كفاءة او خبرة لزيارة المؤسسة التي تتمكن من الاستفادة من خبرته. ان جامعات ومؤسسات البحث والتطوير العالمية تتطلع وتتوق الى زيارات العلماء من خارجها وتخصص التمويل اللازم لتضييفهم والاستفادة من خبرتهم كما تقوم الشركات العالمية بالاستفادة من خبرة العلماء عن طريق الاستشارة وتكلفها مثل هذه الفعاليات أموالاً طائلة لان العلماء لا يمنحون جهودهم مجانا للشركات الصناعية مثلما يمنحون هذه الجهود للجامعات الأخرى. فإذا كانت جامعاتنا العراقية ومؤسسات البحث والتطوير في وزارة العلوم والتكنولوجيا وفي الوزارات الأخرى راغبة حقا في الاستفادة من العقول المهاجرة فستجد المئات من العلماء العراقيين مستعدين لتلبية الدعوة وتقديم الخبرة، مستجيبين بذلك إلى الرغبة بتعويض وطنهم الأصلي جزئيا من الضرر الواقع نتيجة هجرة تلك الأدمغة.
*) استاذ جامعي ورئيس شبكة العلماء العراقيين فـي الخارج

 
 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: