الخبر الذي اصدرته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشأن اجتماع الوزير الدكتور حسين الشهرستاني، مع اعضاء من لجنة التعليم البرلمانية، لم يذكر شيئا مهماً عدا ان الاجتماع “ناقش استحداث جامعات عراقية جديدة تعني بالتخصصات التي يحتاجها البلد”، مما وفر لنا فرصة للسؤال عن نتائج هذا النقاش خصوصا في ضوء المعطيات التالية:
1- استحداث الادارة السابقة للتعليم العالي 10 جامعات جديدة في الثلاثة سنوات الاخيرة تعني “بالتخصصات التي يحتاجها البلد”.
2- تاسستْ جامعات جديدة بسلخ بعض الكليات من جامعات اخرى متميزة تسعى للحصول على الاعتماد الدولي.
3- تاسيس جامعة خاصة بالبنات في بغداد بالرغم من وجود كليات خاصة بهن داخل جامعة بغداد.
4- توسع الجامعات الحالية بإضافة كليات وأقسام عديدة ليس لها بالضرورة علاقة “بالتخصصات التي يحتاجها البلد”.
5- لا توجد حاليا اية دراسة حول حاجة مؤسسات الدولة والسوق الاهلي الى التخصصات التي يحتاجها البلد مما يلقى الشكوك على صحة مفهوم “حاجة البلد” عند الدولة.
6- معاناة الجامعات الحالية من ضعف المناهج الدراسية وضعف المستويات الاكاديمية للتدريسيين وضعف مهارات التعلم والتعليم للطلبة.
كما اشار الخبر الى مناقشة الاجتماع امكانية توسيع القبول للدراسات العليا وفي الوقت الذي يشن مئات من اصحاب الشهادات العليا العاطلين حملة واسعة تتضمن وزارة التعليم العالي وأعضاء البرلمان للمطالبة بتعيينهم. هل اخذ المجتمعون بنظر الاعتبار ضعف الدراسات العليا ومشاكل القبول فيها وشحة التخصيصات المالية، وانعدام حاجة الدولة والسوق الاهلي للشهادات العليا، وتخبط سياسة البحث العلمي، وضعف التعاون الدولي مع الجامعات الخارجية؟ هل كان في علم المجتمعين ان معدل ما يصرف على بحث طالب الدراسات العليا لا يزيد عن بضعة دولارات في مقابل 200 الف دولار كمعدل لما يصرف على طالب البعثة العراقي في البلدان الغربية.
سبب رغبتنا بالحصول على جواب حول نتائج الاجتماع يعود بالأساس الى الدافع الذي وراء كل ما نطرحه ونسعى لتحقيقه وهو اصلاح التعليم العالي لدرء انخفاض الكفاءة التعليمية والتدريبية و”الجودة”، وإيقاف الزيادة في الفاقد التربوي المرتبطة بنشوء الجامعات الحديثة، والذي يتطلب نهجا تربويا وإداريا وتعليميا مغايرا لما هو قائم حاليا، وليتمكن خريج الجامعة في يومنا هذا من ممارسة مهنته بصورة متقنة أو يتمكن من تنمية قدراته وقابلياته لكي يتقن مهنته.
هل ان الادارة الجديدة بصدد مراجعة قرارات الادارة السابقة في انشاء جامعات جديدة؟
وهل ان الادارة الجديدة ستتمكن من وضع سياسات جديدة لإحداث توازن بين مدخلات الكم وجودة المخرجات؟
اصبح موضوع الكمية مقابل النوعية في صدارة المواضيع التي تهم التعليم العالي والجامعات العراقية وبدأ الكثير من التربويين والتدريسيين من التذمر من استحداث جامعات جديدة في الوقت الذي لازالت فيه الجامعات الحالية تعاني من ضعف مزمن في مناهجها واساليب تدريسها، وشحة التدريسيين الأكفاء فيها، والنقص الرهيب في تجهيز مختبراتها وأبنيتها، وتوفير المساكن اللائقة لطلبتها، مما دفعني للتساؤل في مقالة سابقة ” لماذا لازالت جامعاتنا في مؤخرة السلالم العالمية لتصنيف الجامعات؟ ولماذا يمتلئ “فولدر الايميل” في حاسبتي برسائل الشكاوي والتذمر من قبل اساتذة الجامعات (سبق وان ضمنت بعضها لاحقا في رسالة مفتوحة لوزير التعليم العالي)؟ ولماذا تنعدم الثقة بين العراقيين بأهلية خريجينا، خصوصا في المؤسسات الحكومية كالتعليم والطب؟ ولهذا، ليس غريبا ان تدور بداخل المجتمع العراقي قصص حول عدم كفاءة المعلم، وتخلف معلومات الطبيب. اليس من واجب الجامعات ان تكسب ثقة الناس بمنتوجاتها حالها حال اي شركة صناعية لإنتاج البضائع الاستهلاكية؟ من المسؤول عن قياس جودة البضاعة؟ واذا كانت البضاعة فاسدة، فمن المسؤول عن غلق المعمل؟ عمل الجامعات في المقام الاول هو في مجال التنمية البشرية حيث عليها التركيز على تطوير وتعزيز قدرات طلبتها في مجال المهارات بوضوح، وعلى نحو فعال وليس فقط في مجال نقل المعلومات بالتلقين والاجترار”.
لم تعد مسألة عدم توفر معلومات وإحصائيات موثقة بشأن جودة التعليم ومستوى الخريجين مهمة لان هذه المعالم اصبحت واضحة من خلال تفشي البطالة، والبطالة المقنعة بين صفوف الخريجين، وضعف مهاراتهم الاحترافية والمهنية، وفرض امتحان الدور الثالث على رغم انف التدريسيين، وقبول طلبة في الجامعات على اسس اخرى لا تعبر عن تحصيلهم المدرسي والذي هو في بعض الاحيان مشكوك به بسبب تفشي الفساد وبيع اسئلة امتحانات البكلوريا.
ادى عدم وجود نظام متكامل وفعال للجودة وللاعتماد الاكاديمي للبرامج والجامعات الى تفاقم المشاكل. نظام الجودة والاعتماد نظام واضح ومحدد يعتمد على معايير اكاديمية لمنح الترخيص وإجازة للشهادة، وهو لا يمنح الا اذا استطاعت الكلية او الجامعة من تطبيق أسسه وشروطه، ولابد للاقسام والكليات والجامعات الحصول عليه لكي تتمكن من الاستمرار في ممارسة عملها لكونه وسيلة لتعادل الشهادات وللتغيير والتطوير. ومن دون تطبيق اسس ضبط الجودة والاعتماد ومعاييرهما (كالخطط الدراسية، وآلية التعليم والتعلم، وآلية التقييم والامتحانات، ومراقبة تقدم الطلبة وإنجازاتهم، والدعم الأكاديمي، والدعم اللامنهجي واللاصفي، ووفرة المصادر التعليمية، ومستوى البنية التحتية والخدمات، وعملية متابعة الخريجين والتواصل مع المجتمع المحلي، وتنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية، وتطوير المناهج وطرائق التدريس، والمرونة التنظيمية والهيكلية) فان الجامعات ستستمر في ضخ منتوجات بصورة عشوائية وليس بالمستوى المطلوب ومعظمها لا يحتاجها سوق العمل.
وهناك سبب آخر مهم لركود، بل وحتى هبوط المستوى الاكاديمي وهو التوسع السريع في قبول الطلبة واستحداث اقسام وكليات وجامعات جديدة حيث تم اضافة 69 كلية و217 قسم و 48 فرع في الجامعات العراقية في خلال الثلاثة سنوات الاخيرة، بالإضافة الى 10 جامعات جديدة، بينما لم يتم اغلاق قسم واحد لانتفاء الحاجة الى اختصاصه او لعدم استيفائه لمستوى اكاديمي مقبول. وإذا كان سبب استحداث هذه المؤسسات التعليمية الجديدة هو “لاستيعاب العدد المتزايد من خريجي الثانويات وهو الحل الامثل لاستقطاب الاعداد الكبيرة من الطلبة الذين يمكن ان يلبوا حاجات المجتمع والسوق” كما تدعي الوزارة، يطرح سؤال عن مدى توفر القوى البشرية من تدريسيين وباحثين وقيادات ادارية كفوءة، وبيئة ملائمة من بنايات ومختبرات ومرافق أساسية. اننا نعرف جيدا ان عددا كبيرا من الاقسام والمراكز البحثية والجامعات تم استحداثها من دون توفر ابسط الشروط الاكاديمية والعلمية المعتادة في الجامعات العالمية (على سبيل المثال توجد في احدى الجامعات كلية ومعهد ومركز لهما نفس الاهداف العلمية)، ولم تستحدث نتيجة دراسات معمقة عن حاجة المجتمع والسوق وانما تمت لرغبة عميقة عند المسؤول العراقي في التوسع الافقي وضرب الارقام القياسية مقارنة بهذه الدولة او تلك من دون النظر إلى المستوى الاكاديمي والذي قد لا يختلف كثيرا عن مستوى الدراسة الثانوية، وكذلك إلى الحاجة الحقيقية للمجتمع.
كانت قرارات التوسع، بالحقيقة، قرارات سياسية بحتة، هدفها ايجاد مناصب جديدة وليس لاشباع حاجة المجتمع، وانما لاشباع حاجة القوى السياسية في مؤسسة تعليمية هائلة تقدس المنصب الاداري، فهو أسمى واهم عندهم من المنصب الاكاديمي. فدرجة استاذ (بروفسور) في نظرهم ليس لها اهمية بقدر اهمية منصب اداري في الوزارة، او عميد كلية او رئيس قسم ومركز بحثي، وتعتبر المناصب الجامعية تكليف وليس تشريف، ولهذا تجد هدف التدريسي في الحصول على منصب اداري اهم بكثير من تبوئ مركز علمي شرفي مرموق.
لقد أدت زيادة الجامعات في ارتفاع عدد الملتحقين من الطلاب دون أي اعتبار للقدرة الاستيعابية لهذه المؤسسات أو الموارد المتاحة لها. لذا أصبح عدد الطلاب فوق طاقة المرافق والبنايات والمختبرات في معظم الجامعات، واستعانت عدد من الجامعات بتدريسيين من جامعات اخرى وبعقود عمل جزئي. اخبرني عدد من اساتذة احدى الجامعات بأنهم يعملون في جامعة اخرى تبعد بحوالي ثلاث ساعات مما يضطرهم السفر مبكرا في الصباح والعودة مساء الى مقر اقامتهم. ما يمكن ان يقال عن المستوى العلمي والاكاديمي لهذه الجامعة ليس الا انها مجرد مؤسسة تعليمية تفتقد فيها شروط البيئة الجامعية المطلوبة. إن تحقيق الجودة اصبح مهمة صعبة للجامعات، فمن دون توفر تدريسيين متفانيين ومخلصين في عملهم وعلى مستوى عالي من التدريب والمعرفة ومرافق جامعية ملائمة وبيئة جامعية محفزة للتعلم والتعليم، لن تتمكن الجامعات من النهوض لـتأدية واجباتها لتلبية احتياجات المجتمع والسوق بما فيها تشخيص وتطوير مواهب جميع الطلاب.
ان عملية ضمان الجودة هي الوسيلة الوحيدة لتطوير وتحسين التعليم في ظل اجواء التوسع الكمي الهائل في اعداد الطلبة، وزيادة الطلب الاجتماعي وفي هذا الوقت بالذات حيث تواجه دعواتنا بالاصلاح الشامل لمنظومة التعليم العالي مقاومة شديدة ورفض واضح لضرورة اعادة النظر قي التعليم الجامعي برمته من حيث هياكله وادارته وتنظيمه. لذا ادعو قيادات التعليم الجامعي الى التفكير والتخطيط لنظام تعليمي جامعي تتم فيه المواءمة بين الكم والنوع ويعتمد على:
1- وقف استحداث جامعات جديدة ليست لها بنايات، ولا مرافق ، ولا هيئة تدريسية مستقلة، ولا حاجة مجتمعية لها.
2- وقف استحداث جامعات جديدة للبنات. إن الفصل بين الجنسين في التعليم الجامعي خطوة خطيرة إلى الوراء، لا تقل خطورة عن سياسة الحكم المقبور في إحياء القبلية والعشائرية في المجتمع العراقي.
2- استيعاب الزيادة في أعداد الطلبة في الكليات والمعاهد التقنية.
3- الأخذ بمعايير الجودة في جميع مؤسسات التعليم العالي، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يجب تأسيس هيئة او وكالة مستقلة للتقويم والاعتماد الأكاديمي، يكون من أبرز مهامها مساعدة الجامعات في تطوير وتحسين النوعية.
4- تقليص الدراسات العليا بدرجة كبيرة وربطها بحاجة مؤسسات الدولة وذلك بضمان وجود وظيفة ملائمة عند التخرج قبل المباشرة بمشروع البحث.
5- ضم الكليات والاقسام المتشابهة في كلية او قسم واحد داخل الجامعة الواحدة وبما يضمن تقليل عدد الاداريين من عمداء ورؤساء اقسام وموظفين وزيادة الموارد المالية المخصصة لتحسين البيئة الاكاديمية.
6- الغاء الدراسات المسائية للحصول على شهادات البكلوريوس في الاختصاصات الاكاديمية وتحويلها الى دراسات تدريبية على مستوى الدبلوم وتعليم المهارات لتحسين فرص العمل وتطوير الاداء.
7- تمديد اوقات فتح الجامعات الى الساعة السادسة مساء على اقل تقدير لكي يتم تحويل بيئاتها من بيئة مدرسية الى بيئة علمية وثقافية للتعليم العالي ولتعزيز روابط الطالب بالجامعة.
8- قبل الاقدام على اصدار قرار باستحداث اي مؤسسة تعليمية او بحثية ومهما كان حجمها يتم دراسة الموضوع دراسة شاملة تتضمن تحديد الاهداف وتحليل جدوى ودراسة تفصيلية لحجم القوى البشرية وعدد الطلبة وتقدير التكاليف وحاجة الدولة والسوق وتقدير الفائدة للتعليم العالي والاقتصاد الوطني، والتأكد من وجود دعم من قبل اصحاب المصلحة الحقيقيين، ووجود قيادة فاعلة للمشروع.
واخيراً، من الواضح ان التحديات التي تواجه الجامعات العراقية لتحقيق الجودة في التعليم العالي هائلة، وتحتاج إلى التصدي لها ومجابهتها لتلبية احتياجات التنمية في العراق، ولكنها تحديات ليست مستعصية على الحل. إذ يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال الشراكة والتعاون على جميع المستويات، داخل العراق وخارجه على حد سواء، فليس من الضروري أن نضحي بالجودة لمجرد تحقيق زيادة في عدد طلبة الجامعات.
(*) أستاذ جامعي وباحث متخصص في العلوم والتكنلوجيا وفي التعليم العالي
ان ما يطرحه البروفيسور محمد الربيعى ( الكم مقابل النوع فى التعليم العالى ) ليس نقدا من اجل النقد كما يتوهم البعض بل انه يتناول موضوع فى غاية الاهمية الا وهو موضوع الجودة والمفاضلة بين الكم والنوع وهو فى هذا المقال المختصر يرفض الاستجابة التلقائية لحاجات المجتمع بالمصطلح الكمى على حساب النوع
يراْى المتواضع ان احد الاسباب من بين اسباب كثيرة اخرى لانهيار الاتحاد السوفيتى السابق ( ولا اقول انهيار الاشتراكية ) هو عدم الاهتمام بجودة المنتجات المادية والتعليمية
ونحن فى العراق ما زلنا نعانى من رداءة المنتجات من السلع والخدمات المنتجة محليا والمستوردة من الخارج
ان مصطلح الجودة بالاساس مصطلح اقتصادى اقتضته ظروف التقدم الصناعى والثورة العلمية والتكنولوجية ولابد ان نحسم الجدل حول الكم والنوع لصالح النوعية الجيدة من وجهة نظر مستهلكى ومستعملى السلع والخدمات واعتبار الجودة المدخل الاساس لتطوير وتحسين الاداء فى جميع الموْسسات الانتاجية ومن اهمها موْسسات التعليم العالى
مع التقدير
ان وضع الجامعات العراقية ينطبق عليه المثل القائل ( غفل وزانها وضاع الحساب )،وهذه الفوضى التي تحدثت عنها ، ليست بعيدة بل هي جزء من الفوضى العارمة التي تضرب كل مفاصل الحياة في العراق ، لك الله … يا عراق.