التجارة الخارجية وموقع العراق في الاقتصاد الدولي

أ. د. عبد الكريم جابر شنجار العيساوي: المقايضة خياراً اقتصادياً وتجارياً لمواجهة الأزمة المالية في العراق

قد يتصور البعض ان دول العالم في ظل العولمة الاقتصادية تخلت نهائياً عن مسألة الرقابة الحكومية على السياسات الاقتصادية المختلفة (التجارية والنقدية والمالية). بالتأكيد ليس ذلك صحيحاً بشكل مطلق، فهناك العديد من الاستثناءات في المبادئ والقواعد والاسس التي تعمل بها المؤسسات الدولية المتعددة الاطراف المعنية بحركة رؤوس الأموال والتجارة الدوليين مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، الى جانب وجود مؤسسات عامة اجتماعية تتمتع بدرجة من الاستقلالية داخل المنظومات الاقتصادية الرأسمالية تعمل على منع عمليات الاحتكار عندما تلمس هذه المؤسسات ان هناك ضرراً سيلحق بالمستهلك المحلي من الممارسات الاحتكارية للشركات المنتجة للسلع والخدمات التي يرغب المستهلك باقتنائها. وتبعا لذلك وضعت تشريعات قانونية للحد من الاحتكار. على سبيل المثال، كانت هيئة الإشراف على عمليات الاحتكار والاستحواذ في بريطانياThe Monopolies And Mergers Commission (MMC)[1] تعمل على تنظيم المنافسة بين الشركات والحد من الاحتكار لحماية المصلحة العامة، وكذلك المساعدة في المفاوضات بين الأطراف المعنية لوضع شروط عادلة بين المستهلكين والمنتجين فيما يخص تحديد الأسعار. لذلك تلجأ مثل هذه الهيئات الى تنظيم الاسعار التي تفرضها المنشأة المحتكرة لتخفيف وقع الأسعار على المستهلكين. ويهدف مثل هذا التدخل الى جعل المنشأة تسلك سياسة سعرية وإنتاجية كما لو أنها كانت منشأة متنافسة، وهذا لا يحدث دون الرقابة الحكومية وتدخل الهيئات العامة المختصة.
 
أردنا من هذا العرض السريع التأكيد على أن تدخل الحكومات الغربية في الحياة الاقتصادية ما زال قائماً ويتخذ أشكالاً متباينة. ونود فيما يلي التوسع في الموضوع ضمن السياق العراقي الحالي المتمثل بالأزمة المالية للدولة. وسنركز بالتخصيص على إدارة الحكومة لنمط من التبادل التجاري الدولي المتمثل بالمقايضة السلعية.
 
اسلوب التجارة بصيغة المقايضة له تاريخ طويل ليس هذا بالمجال المناسب لعرضه يختلف عن التجارة النقدية، والتي تتمثل بتبادل السلع مقابل المال (النقد)، فهنا يقبل البائع المال لأنه يعلم أن بالإمكان استخدام هذا المال مباشرة لشراء السلع التي يحتاجها محليا من الطرف الشريك او من طرف ثالث.
 
اما اسلوب المقايضة التجارية( Trade-barter ) في العصر الحديث والذي يمثل نحو 10% من التجارة العالمية، فقد اعتمد على نطاق واسع ما بعد الحرب العالمية الاولى وحتى ما بعد ازمة الكساد العظيم (1929 – 1931) واتسع نطاق اعتماده بعد الحرب العالمية الثانية من قبل جميع الدول الأوربية (الشرقية والغربية) على حدٍ سواء، لأن عملتها لم تكن قابلة للتحويل او القبول بها دوليا حتى عام 1958 وهو العام الذي حقق فيه ميزان المدفوعات الامريكي عجزاً لأول مرة. وعلى إثر ذلك بدأت الدول الاوربية الغربية تحقق فائضاً في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة بعد نجاح مشروع (مارشال) لإعادة اعمارها، وترافق ذلك مع فقدان الثقة بالدولار كعملة ارتكاز في نظام (بريتون وودز) ومشكلة السيولة الدولية المرتبطة باستمرار العجز في ميزان المدفوعات الامريكي.
 
كل هذه المشاكل الاقتصادية والمالية العالمية شجعت على زيادة اهمية المقايضة التجارية والتي كثيرا ما ارتبطت بموضوع الاقتصاد السياسي للتنمية، لا سيما في حقبة الاتحاد السوفيتي (السابق)، اذ ان أكثر من (15 – 20 %) من التجارة بين الدول الاوربية (الشرقية والغربية) كانت قائمة على المقايضة التجارية، كما أن ما يقرب من 60% من التجارة بين الدول الاقل نمواً والاتحاد السوفيتي (السابق) كانت مقايضة تجارية.
 
ولا يختلف اثنان على تعرض الاقتصاد العراقي الى مجموعة من المشاكل الاقتصادية والمالية، وفي مقدمتها تداعيات عجز الموازنة الاتحادية والتي من المتوقع ان تستمر الى ما بعد عام 2016 بسبب ما يلي:

  1. الانخفاض المستمر في سعر البرميل من النفط الخام بعد الاتفاق بين إيران ومجموعة (5+1) وما تسبب عنه في زيادة المعروض النفطي في الاسواق المستهلكة، الى جانب عمليات التهريب للنفط واسباب اخرى. كذلك من غير المتوقع أن تتفق دول أوبك على تخفيض مستويات الانتاج لأسباب تتعلق بالصراعات الإقليمية التي تجري في منطقة الشرق الاوسط والتي تنتج أكثر من 70% من الانتاج العالمي للنفط في العالم.
  2. استمرار تسديد التعويضات الى الكويت استناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 687 لتعويض الأشخاص والمؤسسات والحكومات والمنظمات الدولية المتضررة من عملية غزو العراق للكويت في 2 آب 1990.
  3. اللجوء الى الاقتراض الخارجي والركون الى شرط الالتزام بمبدأ (المشروطية) ومراقبة اداء السياسة النقدية للعراق، وتقليص دور القطاع العام، والبدء في فرض الضرائب النوعية على مجالات الاستهلاك على السلع والخدمات مثل الضرائب على خدمة الاتصالات، ورفع الدعم عن المشتقات النفطية، والبدء في سريان سياسات التقشف الحكومي في كثير من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية (الانتاجية والخدمية).
  4. الانفاق العسكري المتصاعد لتحرير المحافظات العراقية التي سقطت بيد داعش الارهابي، والذي يقاس حجمه بنسبة الى الموازنة العامة، وبالطبع ربما تصل النسبة الى أكثر من 10%، وهذا يمثل عبئا هائلا على الاقتصاد العراقي في حالة استمرار أمد الحرب. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يلجأ العراق الى هذا الاسلوب، المقايضة التجارية بصورة مؤقته ومستعجلة، سيما وأن العراق قد تبنى هذا الاسلوب ما قبل دخول النفط الخام كبند رئيسي في هيكل الصادرات العراقية، وتحديدا ما بعد عام ثورة 1958النمط الاول: الاتفاقيات التجارية ذات المبادئ العامة(الاتفاقيات المفتوحة) ومنها الاتفاقيات التي عقدها العراق مع الدول الاشتراكية (سابقاً) والدول العربية تونس والمغرب وكذلك اندونيسيا والدنمارك.النمط الثالث: الاتفاقيات التجارية ذات التحديد القيمي للصادرات والاستيرادات، وقد عقد العراق مثل هذه الاتفاقيات مع الهند والباكستان والبانيا وفنلندا.  ومن أبرز الاتفاقيات في هذه الفترة ما يلي:
  5. وكان للعراق العديد من الاتفاقيات الثنائية التي اشارت صراحة الى هذا الاسلوب من التجارة، اذ كان يضمن منها الحصول على الاستيرادات خصوصا الاسلحة والمعدات العسكرية، وكذلك الاستيرادات النابعة من الحاجة الى تعجيل حركة التصنيع. وتركزت معظم الاتفاقيات الثنائية وفي انماطها المختلفة مع مجموعة الدول الاشتراكية (سابقا)، وكانت تمثل فرصة لتسويق النفط الخام بعد قرار التأميم عام 1972 وضغط الحاجة الى العملات الصعبة.
  6. وبعد تصحيح اسعار النفط الخام عام 1973 ساهم النفط في تطوير الاخذ بالمقايضة التجارية، حيث لجأت العديد من الدول الصناعية المستهلكة للنفط الخام لمقايضة السلع الصناعية والمعدات العسكرية مقابل الحصول على النفط الخام. ثم انعكست هذه المعادلة عندما واجهت العديد من الدول النفطية الرئيسية خلال ثمانينيات القرن المنصرم مشاكل مالية اثناء فترات الفائض النفطي مما دفعها الى عرض النفط في السوق النفطية كوسيلة للتخفيف من ضغط النقص في العملات الصعبة.
  7. النمط الرابع: الاتفاقيات التجارية ذات التحديد الكمي للصادرات والاستيرادات، وقد عقد العراق هذا النوع من الاتفاقيات مع كل من الصين والمانيا الشرقية (سابقا).
  8. النمط الثاني: الاتفاقيات التجارية ذات التحديد النسبي للصادرات والاستيرادات، وتتضمن وجود توازن بين قيم الصادرات مع الاستيرادات بنسبة (100%)، كما هو الحال في الاتفاقية مع الصين، وبنسبة (25%) مع كل من رومانيا وهنغاريا كحد أدنى لمشترياتها من المنتجات العراقية قياسا الى قيمة صادراتها الى العراق، وبلغت نسبة 50% مع فيتنام وكوريا الشمالية.
  9. بشكل عام اخذت الاتفاقيات التجارية في تلك الفترة الانماط التالية :
  • الاتفاقية مع الاتحاد السوفيتي (السابق) في/6/1972 وكانت تتضمن شراء النفط الخام ومبادلته بسلع مستوردة بنسبة 100%.
  • الاتفاقية مع بولندا بتاريخ 16/11/1972 اذ تم تحديد نسبة 60% من استيرادات العراق لتسدد بالنفط الخام.
  • الاتفاقية مع بلغاريا في 8/9/1972 التي تضمنت التأكيد على قيام الجانب البلغاري بعقد صفقات لشراء النفط الخام العراقي لمدة ثلاث سنوات وتسدد نسبة 60% من قيمتها بالسلع المصدرة الى العراق.
  • الاتفاقية التجارية الطويلة الاجل مع رومانيا بتاريخ 12/9/1975 وتضمنت تسديد 25% من استيرادات العراق بالنفط الخام.
  • الاتفاقية بين العراق وتشيكوسلوفاكيا (سابقا) بتاريخ 18/12/1973، وقد تضمنت الاتفاقية مجموعة من المبادئ المشتركة في الاتفاقيات المبرمة مع الدول الاشتراكية، اضافة الى تأكيدها، وفقا للقوانين السائدة في كلا البلدين بجواز اجراء صفقات مقايضة للسلع بين الطرفين.
  • الاتفاقية التجارية بين العراق والمانيا الديمقراطية (سابقا) بتاريخ 17/11/1972 وتضمنت استخدام النفط الخام العراقي لتخفيف الضغط على موجودات العملات الصعبة، اذ نصت على تسديد المدفوعات العراقية بالمقايضة بالنفط الخام بنسبة (90%) و (10%) بالسلع العراقية الاخرى.يكشف هذا الاستعراض السريع لأهم الاتفاقيات الثنائية التي عقدها العراق في الماضي أهمية المقايضة السلعية في ظل اجواء الضائقة المالية والحاجة الى تصريف النفط الخام مقابل السلع والمعدات العسكرية والمدنية، دون اللجوء إلى استخدام العملات الصعبة. واليوم يعيش العراق نفس الاجواء الاقتصادية التي سادت في الماضي وربما أخطر منها بسبب انخفاض سعر النفط الخام والحراب الدائرة ضد داعش. لذلك نرى من الملائم العودة الى مثل هذا النوع من الاساليب التقليدية للتبادل التجاري، ويعد ذلك امرا اضطراريا لعبور الازمة المالية الحالية الخانقة.وأخيرا يمكن اجمال الفوائد المترتبة على استخدام هذا النوع من التجارة كما يلي:اولا: تلائم المقايضة التجارية السلع الخاضعة للتقلبات الكبيرة في الاسعار، وهذا ينطبق على سعر بيع البرميل من النفط الخام حاليا.ثانيا: يمكن النظر إلى المقايضة على أنها نوع من الرقابة، غير المباشرة، على الصرف الاجنبي لمواجهة الاختلال في ميزان المدفوعات والحد من استنزاف احتياطيات النقد الاجنبي.ثالثا: العمل على تقليص أولوية استخدام النقد الاجنبي للواردات من السلع الكمالية والاستهلاكية غير الضرورية وتحويل الأولوية الى استخدام النقد الأجنبي في شراء السلع الرأسمالية وخدمة الدينالخارجي .رابعا: تجنب التدهور في معدلات التبادل التجاري.

خامساً: انشاء عقود طويلة الاجل لضمان التصريف الدائم للسلع الرئيسية في هيكل الصادرات مثل النفط الخام على غرار ما قامت به الدول الخليجية في عقد اتفاقيات طويلة الاجل لبيع النفط الخام الى المشترين الرئيسيين للنفط في اسيا.
 
نأمل أن نكون قد فتحناً باباً للتوسع في مناقشة الأزمة المالية للدولة العراقية من منظور مختلف واقتراح حلول فعّالة لهذه الأزمة.
 
(*) أستاذ التنمية الدولية، كلية الادارة والاقتصاد/جامعة القادسية
(**) أتقدم بالشكر والتقدير الى الزملاء في هيئة التحرير على ملاحظاتهم القيمة والمفيدة كما اتمنى لجميع الزملاء في الشبكة المزيد من النجاح والتقدم.
 
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 5/9/2015
[1] منذ نيسان 2014 تغير اسم هذه الهيئة ليكون Competition and Markets Authority

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. farouk younis
    farouk younis:

    تحتل المقايضة نسبة لا يستهان بها فى التجارة الدولية —
    طبعا ليس المقايضة بشكلها التقليدى وانما المقصود هو التجارة المتقابلة Counter Trade
    والتى تاخذ اشكال متعددة مثل:
    1- اعادة الشراء Bayback
    2- الاتفاقية التجارية Trade Agreement
    3- الافسيت Offset
    بالنسبة للعراق جرت عمليات المقايضة بصورة رئيسية مع الدول الاشتراكية ( سابقا)
    تركزت عمليات المقايضة بالنفط العراقى الخام مقابل السلاح والمعدات العسكرية والسيارات -هذا الى جانب عقد الاتفاقيات الثنائية مع الدول الاخرى لتصريف التمور الفائضة عن الحاجة المحلية مقابل استيراد السلع المصنعة
    اليوم وبعد 2003 بادر مكتب مستشار رئيس الوزراء للشوْون الاقتصادية باقتراح برتامج الاوفسيت وتضمن البرنامج جميع اشكال ( التعادل التجارى ) كما اسماه المستشار الاستاذ الدكتور عبد الحسين العنبكى
    ارجو من القارىْ الكريم الاطلاع على مقال الاستاذ العنبكى ( عن برنامج الاوفست ) المنشور على الانترنيت 2009
    شكرا للاستاذ الدكتور عبد الكريم جابر شنجار العيساوى لمقاله القيم
    مع التقدير
    ية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: