قضايا محاربة الفساد والحوكمة الرشيدة

أ.د. عبدالحسين العنبكي: السياسة في العراق .. ملعب خداع لا ملعب إصلاح

لا يخفى على أحد ان كل تخصص او نشاط معين له سياسة خاصة به تتمثل بالخطط والاستراتيجيات وطرق الوصول لتعظيم منافع ذلك النشاط وتدنية كلفه ومضاره، ونستخدم له مصطلح (پُولَسي Policy).  مثلا، السياسة الاقتصادية Economic Policy ، والسياسة الصحيةHealth Policy  والسياسة التعليمية Education Policy وهكذا، إلا السياسة التي هي سياسة السياسيين، فتسمى (Politics). و(البوليتك) هذه أفضلُ من ترجمها هم العراقيون منذ دخول الإنكليز الى العراق في مطلع عشرينيات القرن المنصرم، حيث يسمع العامّة كلمة (بوليتك) للتعبير عن كل فعل سياسي مخادع وكاذب ومماطل ومتسوف ومتوعد ومتنصل، فدرج العراقيون على تسميته (بلتيقة)، والبلتيقة تعني بالمرادف العامي في زماننا (الكلاوات).  ولذلك صار تعريف السياسة في العراق هو اجادة فن (البلتيقة)، وهي مهنةُ من لا مهنةَ له، مهنةٌ تلوّثك بالخطيئة مهما كنت صادقاً او وطنياً او حريصاً لكثرة ما يمارس من عهرٍ سياسي بين الخصوم والمتنافسين.  كما درج الحال على تسميتها “فن الممكن”، في صيغتها غير الإزدرائية، (the art of the possible).  والممكن عندما يصبح الوصول اليه معيار للتنافس تصبح كل الطرق مباحة ومتاحة وتُسوّغ بمسوغات شتى لتحقيق الممكن، وبمجرد الوصول الى ممكن معين سيكون هنالك ممكن اخر مستهدف يحتاج الى أساليب ملتوية جديدة ويحتاج الى قادة افذاذ في (البلتيقة) للوصول إليها.  وجاءت الطامة الكبرى، عندما تجلببت السياسة برداء الدين، واقصد السياسة بالمفهوم العراقي الموروث، حيث تزوّجت (البلتيقة) زواجاً عابراً مع (الحيل الشرعية) و(لزوم ما لا يلزم) و(دفع الضرر) و(شوكة الإسلام) (والتورية) و(مجهول المالك) وغيرها من المصطلحات والمفاهيم لتعزز من ظاهرة (الدين البديل)، دين الطقوس والعواطف لا دين المعاملات، دين أدوات الرياء لا دين أدوات العمل لرضا الله سبحانه.  وتجد الكثير ممن كانوا زاهدين عابدين نزيهين، قبل ان يوضعوا في جريان السلطة والمال، قد انقلبوا الى ابطال في البلتيقات وسقطوا في ممارسات معاملاتية سيئة وتكسبوا بالحرام، حتى نمت طبقة كبيرة جعلت الدين لعق على السنتهم، واصبحوا يمارسون كل أنواع التخلف المجتمعي للإبقاء على المجتمع متخلفاً منقاداً، ينخدع بسهولة بأدوات الرياء التي يظهروها.
 
لقد كنتُ اول من كتب في الإصلاح الاقتصادي في العراق منذ عام 2008 وطبعت الأمم المتحدة كتابي بهذا العنوان،[1] وأصبح مرجعاً للإصلاح منذ عام 2009 وخرجنا بخارطة طريق إصلاحية لكل محور، وصادق عليها مجلس الوزراء في عام 2010، ثم منعونا من تنفيذ أي منها، لماذا؟  لأن “القائد الضرورة” في حينه انشغل بنقل التنافس والعمل من ملعب الاقتصاد والبناء والاعمار والاستثمار الى ملعب (السياسة)، وكان ملعباً قذراً تفوح منه روائح التآمر والخدع والبلتيقات والملفات الصحيحة منها والملفقة، وصار الهدف الأول الحفاظ على العرش بدلاً من بناء الدولة والمؤسسات الكفوءة، وكما قالها صدام في الثمانينيات (كل شيء من اجل المعركة) فعسكر الاقتصاد ودمره.  وبعد التغيير قالوها (كل شيء من اجل الكرسي) وهكذا سيَّسوا الاقتصاد ودمروه اكثر، وهو غباء مطلق، لأنهم لو نجحوا في الاقتصاد والبناء لأصبح الكرسي هو من يسعى إليهم ومنحوا الثقة لأكثر من ولاية، ولكنهم أهملوا كل ذلك وتمسكوا بالكرسي الذي أسقط البلد في أزمات اقتصادية وجعل كرسيهم يترنح.
 
شعبي المسكين، أمام تلك البلتيقات، كانت أفواهه تكمم بإرضاءات وقتية (خداع)، لان الإصلاح، اي إصلاح، هو دواء مُرٌّ، ولابد ان تكون له اعراض جانبية على القائد ان يتحملها في الأمد القصير ليجني ثمارها في الأمد المتوسط والطويل، ولكن الإرضاءات الوقتية التي تحقق لهم أصوات انتخابية دامت طويلا، ومورست كل البلتيقات – خداع التعيين، وخداع شراء الذمم، وتوزيع المال لأغراض استهلاكية، وتوزيع سندات الاراضي الزائفة، وتسويق المظلومات المذهبية بصورة مبتذلة، وشراء ذمم ناس مؤثرين (مجالس اسناد، شيوخ عشائر، فعاليات دينية)، كل ذلك تحت غطاء موازنات متخمة بإيرادات النفط.  استمر مسلسل الارضاءات الوقتية والبلتيقات، حتى اصبحنا في الأمد الطويل، حيث مضت (13 سنة) على النظام الجديد فيه محرك الديمقراطية الذي يفترض ان يعمل لخلق الكفاءة وإزاحة غير الكفوء جعلوه يعمل (بالمقلوب) وصار الجمهور المستغفل يعيد انتاج الفاشلين والمخادعين، وصار من مصلحة النظام الإبقاء على التخلف، وصار الفساد الذي امتد الى جلباب الدين مشرعنا، وشاعت ثقافة الرشى، ونسب العمولة من المشاريع، وصارت هنالك مشاريع وهمية لا تنفذ، لأنهم ليسوا حتى لصوصاً منصفين فلو سرقوا بإنصاف لكان هنالك تنمية في العراق اليوم.  لقد صرنا في الأمد البعيد ولم نبني البلد.  تحولت الدولة الى مؤسسة خيرية توزع الفتات لجمهورٍ من الايتام لكسب الولاءات، وهنالك معدل نمو سكاني في العراق بنسبة 3%، أي ان هنالك (800 الف) شاب وشابة يدخلون الى سوق العمل كل سنة، والفرص التي تخلقها الدولة في مؤسساتها هي فقط في الأجهزة الأمنية لمحاربة الإرهاب وبعض التعيينات في الصحة والتربية، وأصبحت المؤسسات متخمة بتنابل الموظفين وصارت إنتاجية الموظف لا تتعدى (17 دقيقة في اليوم).  وفي بلد كهذا ليس فيه احترام للزمن وليس فيه احترام لأي حسابات ( كلفة / عائد) فإنه ذاهب الى الدمار.  كما ان فرص العمل في القطاع الخاص هي الأخرى موصدة لان الدولة مازالت مهيمنة على كل شيء، ولم تزح العقبات أمام الاستثمار الخاص، بل على العكس.  ومع كل هذه الفوضى والتحديات ذهب الغطاء النفطي الذي كان يستر العورات بالتراجع الحاد لأسعار النفط، ذهبت الوفرة التي بعثرت بعبث شديد في سنوات الرخاء، وتوقفت الحكومة عن توزيع الأموال، وخفضت الرواتب.  هنالك 7 مليون شخص يتقاضون رواتب بحدود 3.5 مليار دولار شهرياً وصار لزاماً على الحكومة العودة الى الإصلاح الاقتصادي، ولان الإصلاح تأخر كثيراً وصارت اعبائه اكبر، ذهب الساسة إلى بعض الإصلاحات الإدارية التي يمكن ان تكون محمودة العواقب وتعطي نتائج إيجابية اذا صدقت النوايا ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب.  ثم تمَّ تخفيض رواتب الدرجات العليا وهو اجراء صحيح على اعتبار ان هنالك غلو في الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، ووصل الامر الى حد تخفيض رواتب السلم الوظيفي، وتبعه مزيد من الجبايات ورفعٌ لأسعار الخدمات والغرامات وهذه أمور تقشفية لابد منها الا أنها لن تكون بالضرورة محمودة العواقب كون الاثار الانكماشية لها ستكون كبيرة وفرص العمل على قلتها تتراجع بشكل مخيف خاصة وان القطاع الخاص بقي على مدى (13 سنة) يعمل مقاولاً لدى الحكومة بفضل العقلية الحكومية لدى اغلب المسؤولين، فضلاً عن الفشل الذريع الذي منيت به هيئات الاستثمار وعجزها التام عن خلق بيئة أعمال جاذبة وتقديم التسهيلات المطلوبة وفضلاً عن حالات الفساد الكبيرة والمحاباة.
 
امام هذه الصورة كانت مطالب الجمهور هي اصلاح اقتصادي بالدرجة الأولى، وقد قلتُ للسياسيين حكمةً شفاهاً أجد من الضرورة توثيقها هنا: (إذا تعرض البلد لازمة أمنية فإن الجمهور سوف يصطف مع الحكومة حتى لو كانت الحكومة سيئة، وإذا تعرض البلد لازمة اقتصادية فإن الجمهور سوف يخرج على الحكومة حتى لو كانت الحكومة صالحة).  وفي عام 2011 مسكت يد القائد وقلت: يا دولة الرئيس اقسم عليك بالحسين عليه السلام ان تلتفتَ الى الملف الاقتصادي لأنه سيكون سبب فناء نظامنا الجديد، فاعتذر قائلا وهو يبتسم ابتسامة لم افهمها (صعبة ما اگدر) وكان خلفي ضابط كبير بقيافة استعراضية أدى له تحية عسكرية مهيبة فانتفخ الزعيم أكثر وزاد حقده عليَّ أكثر لأني نبهته إلى الثقب الكبير والذي يتسع في السفينة التي هو ربانها.
 
واليوم نحن امام ازمة اقتصادية بامتياز، ولان السياسيين غير قادرين على حلها، وغير متعاونين في حلها، ولا يسمعون ولا يسمحون للمختصين بعلاجها، أخذوا بعضهم الى ملعب أخر يجيدوه، انه ملعب السياسة؛ وأوجدوا (كرة نار) أسموها “حكومة التكنوقراط” وأوجدوا تعريفاً عراقياً خاطئاً للتكنوقراط عندما ربطوا الأمر بالانتماء، وصاروا يتقاذفون الكرة فيما بينهم لخداع الجمهور الذي جلبوه الى هذا الملعب وصرف نظره إلى اتجاه آخر – الى المباراة السياسية فقط.  فمنذ أكثر من شهر وكل وسائل الاعلام والأحزاب ومراكز الأبحاث والجمهور المخدوع ليس لديهم إلا السجال والملاسنة والهتاف والتخيّيم والاعتصام والتظاهر، وتعاظمت المزايدات والكل يخدع الكل.  لقد أُتخمنا سياسةً مجدداً بعد ان ارتحنا من تلك المناكفات قرابة عام ونصف في حكومة شفافة وهادئة حلمنا ان تشغلنا في عمل منتج.
 
أيها الساسة، أيها المختصون بعلم البلتيقات، كفاكم تجذفون بكل الاتجاهات لان السفينة لن تسير، وإياكم والحَوَل السياسي او (الخوط بصف الاستكان) لان الجمهور يريد الآتي:
 
–              تحرير ارض العراق من داعش وإعادة النازحين الى بيوتهم، وقد هبَّ الجمهور ليصطف معكم في هذه القضية المقدسة رغم كل تحفظاته عليكم.
 
–              التخفيف من شدة الأزمة المالية عليه ومواجهة تراجع أسعار النفط ببدائل جيدة تحقق الهدف التمويلي والهدف الاجتماعي معاً.
 
–              فرص عمل (خارج إطار الدولة) للطاقات الشبابية التي لا تجد الا الانضواء تحت رايات شتى للقتال، او الانخراط في عصابات شتى للسلب والنهب، او الهجرة لتصبح لقمةً لحيتان بحر ايجة.
 
–              خدمات لائقة تقدم للجمهور ليعيشوا بكرامة.
 
–              حمايتهم من مافيات الفساد والابتزاز عند مراجعة دوائر الدولة.
 
–              محاكمة الفاسدين الذين أهدروا المال العام في سنوات الرخاء السابقة، لا ان يمتطي بعض هؤلاء صهوة الإصلاح ويعتصموا في البرلمان لتبييض سجلهم.
–              احتضنوا المستثمرين ولا (تطفشوهم) بالإجراءات والابتزازات، كي تأتي رؤوس الأموال الهاربة من أفعالكم لتبني عراقاً نفخر به أمام العالم.
 
لقد بحّتْ أصواتنا ونحن ننصحكم، فهل تريدون للنخب ان تعتكف في بيوتها، كما اعتكف العقلاء الراشدين من قبلهم، ويُترك الملعب للمشجعين المهووسين والساسة الذين يخدعوهم يخربوه ببلتيقاتهم التي لا تنتهي.
 
)*( رئيس منظمة اقتصادنا
 
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر.
http://iraqieconomists.net/ar/
 
الاراء الواردة في هذا المقال وفي كل المقالات المنشورة على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين لا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير وانما عن رأي كاتبها فقط وهو الذي يتحمل المسؤولية العلمية والقانونية
[1] عبد الحسين العنبكي، الإصلاح الاقتصادي في العراق: تنظير لجدوى الانتقال نحو اقتصاد السوق، عمان 2009.  طبع على نفقة الأمم المتحدة.
لتنزيل نسخة بي دي أف سهلة الطباعة انقر على الرابط التالي
Abdelhussain Al-Anabaki-Politcs in Iraq-v2

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. أ.د.عبدالحسين العنبكي
    أ.د.عبدالحسين العنبكي:

    الاخ محمد سعيد العضب المحترم
    شكرا جزيلا لتعليقاتكم القيمة

  2. Avatar
    محمد سعيد العضب:

    اتفق مع تحيلات الكاتب في ان العراق لم ولن تتولد فيه طبقه سياسيه واعيه تعلم او تعرف المفاهيم الصحيحه لعلم السياسه , انما مر في تاريخنا العتيد حفنه “كلاوجيه” من جميع الاصناف و الانتماءت ,حاول البعض منها استغلال جهل العامه وفرض الجاه عبر السلاح, الموروث للموقع الاجتماعي ,المال ,العشيره , الطائفه , القوميه او الاديولوجيه الممسوخه ,لذا فان اخفاق البلد او عجزه من تحقيق متطلبات النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي جاء من كثره المدعين فيه بالسياسه والوطنيه الفضاضه ومقارعه الاستعمار من ناحيه,غياب نخبه واعيه تومن ببناء الوطن والفرد ومستعده للتضحيه بمصالحها الذاتيه وكينونه ” الا نا ” المتجذره في جيناتها

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: