الاقتصاد العراقي الكلي

د. مدحت كاظم القريشي *: الفساد الاداري والمالي في العراق (اسبابه وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية وسبل مكافحته

1-  مقدمة

يعد الفساد الاداري والمالي ظاهرة عالمية تشمل مختلف البلدان، حيث لا يوجد مجتمع خال تماماً من الفساد، ولا توجد حكومة نظيفة من الفساد في كل المجتمعات، لكن الاختلاف هو في مستوى الفساد من مجتمع لآخر. فالفساد هو جزء من الطبيعة البشرية، فجذور الخير والشر موجودة في الانسان وقد تتغلب نوازع الخير في البعض فيما تتغلب نوازع الشر عند البعض الآخر. ولا بد من القول بأن ظاهرة الفساد ليست وليدة اليوم بل انها موجودة منذ وجود الانسان لكنها تتزايد وتتسع بشكل خاص في ظل الحروب وتدهور الحالة الاقتصادية والمعيشية وفي ظل الصراعات التي تحصل في المجتمعات. ويتسبب الفساد بخسائر اقتصادية كبيرة في المجتمعات المعنية الى جانب التأثيرات السلبية الاجتماعية والسياسية. وتشير تقارير المنظمات الدولية بأن الخسائر السنوية التي تتكبدها البلدان النامية بسبب الفساد تتراوح بين 20 – 40 مليار دولار. وعلى مستوى بلد واحد مثل ملاوي في افريقيا فأن خسائر الفساد تمثل نحو 5% من الناتج المحلي الاجمالي، وان التهرب الضريبي فيها يلتهم بحدود   8-12% منه ولهذه الاسباب فأن مشكلة الفساد تكتسب اهمية متزايدة وان مهمة مكافحة الفساد تبدو جلية من انتشار الهيئات الخاصة بمكافحة الفساد في مختلف بلدان العالم.

ويعرف الفساد بأنه استغلال المنصب العام لغرض تحقيق مكاسب شخصية مثل الرشوة والعمولة والابتزاز، وبمعنى آخر هو استغلال المنصب العام لتحقيق ربح مالي يتم الحصول عليه من خلال تقديم خدمة او عرض عقود للمشتريات الحكومية والخدمات الحكومية، او افشاء معلومات عن تلك العقود أو المساعدة على التهرب من دفع الضرائب أو الرسم الحكومي أو الجمركي أو المساعدة على غسيل الاموال او التمكن من الحصول على قرض مصرفي( حكومي) بفائدة اقل من السائدة في السوق لقاء رشوة أو خدمة للموظف المسؤول وغيرها من الممارسات(1) .

وفي العراق فأن الفساد الاداري والمالي هو ظاهرة قديمة أصابت الجهاز الاداري ولو بشكل محدود منذ نشوء الحكومة العراقية في العشرينات من القرن الماضي لكنها أستفحلت بشكل خاص منذ بداية الحروب العبثية للنظام البائد في عام 1980 وخصوصاً بعد حرب غزو الكويت في عام  1990-1991 وفرض الحصار الإقتصادي على العراق من قبل الامم المتحدة والذي صعد وتيرة الصراع الداخلي على الموارد ومعه انتشار ثقافة السرقة والرشوة كوباء إجتماعي إستمر في الانتشار بعد الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003 وحصول عملية التغيير السياسي فقد اصبح الفساد الاداري والمالي آفة تنخر في جسد البلد والشعب وتعرقل مساعي التنمية وتتسبب في انتشار الفقر. وقد انتشر الفساد بشكل كبير على مستوى الوزارات والمؤسسات الحكومية الاخرى وأجهزة الجيش والشرطة والقوات الامنية وعلى مستوى المحافظات كافة حتى اصبح الفساد مؤسسة بحد ذاتها وقادرة على مواجهة اجهزة النزاهة وليس العكس. وهنا تبرز مجموعة من الاسئلة مثل :

1-  ما هي الاسباب والعوامل المشجعة على ظهور وانتشار الفساد الاداري والمالي في العراق؟

2-  ما هي تأثيرات الفساد الاقتصادية والاجتماعية؟

3-  ما هي الوسائل والسبل الكفيلة لمواجهة وكبح جماح الفساد؟

في هذه المقالة سوف نحاول الاجابة على هذه الاسئلة ولكن قبل ذلك سوف نستعرض نبذة عن واقع الفساد الاداري والمالي في العراق.

2-  واقع الفساد في العراق

2-1 سلطات الاحتلال الامريكي في العراق والفساد

مع بداية الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003 لوحظت مظاهر الفساد الاداري والمالي وعلى نطاق واسع مع مجيء سلطة الائتلاف المؤقتة حيث بدأنا نلاحظ ونسمع بالعديد من مظاهر التصرف الكيفي في الموارد المالية والاختلاسات الامر الذي دفع الكونغرس الامريكي لتأسيس دائرة للمفتش العام الامريكي في السلطة المذكورة وذلك في شباط من عام 2004، اي بعد انتهاء فترة سلطة الائتلاف المؤقتة. وقد رافقت مظاهر الفساد آلية صرف الاموال المخصصة لتمشية امور البلد وكذلك مساعي ما سمي بأعادة الاعمار في العراق، سواء بالنسبة للاموال المخصصة من الجانب الامريكي او الاموال العراقية، الامر الذي ادى الى تبديد الموارد المتاحة للمشاريع فضلاً عن ارتفاع تكاليف العقود. ان احد عوامل الزيادة في تكاليف العقود هي ارتفاع تكلفة توفير الامن التي تدخل في تكلفة العقود والتي تستند الى قاعدة التكلفة زائداً هامش الربح ،الى تاثير تعدد المقاولات من الباطن (وبيع العقود من واحد الى آخر ).

ومن جملة الوقائع الواردة في تقارير المفتش العام الآتي :

1-  قيام العراق بتسديد الاموال لأحد المتعاقدين مرتين على نفس العمل.

2-  السماح لاحد المسؤولين الامريكان بالتعامل مع ملايين الدولارات نقداً حتى بعد ان طرد من العمل لعدم كفاءته.

3-  تم صرف 89 مليون دولار من مجموع 120 مليون دولار خصصت لمشاريع بدون عقود أو وثائق، ونحو 7.2 مليون لم يتم التعرف على كيفية صرفها.

ويشير تقرير المفتش العام بالتفصيل الى الفشل الاداري الممنهج وانعدام الاشراف وممارسات الغش والاختلاس من جانب المسؤولين الامريكان الذين كانوا يديرون جهود اعادة الاعمار في العراق. وقد اتهمت ادارة سلطة الائتلاف المؤقتة بالفساد والاستغلال السىء للموارد. فمن بين موارد صندوق  تنمية العراق فأن نحو 8.8  مليار دولار كانت قد تم تسليمها الى الوزارات العراقية ولم يمكن الوقوف على ابواب وكيفية الصرف. وقد تم رصد 57 قضية قيد التحقيق منها 15 سرقة و19 حالة رشوة و6 حالات غش في التجهيز. وهكذا تم هدر  المليارات من الدولارات وتخريب القدرات الانتاجية والخدمية واعاقة عملية اعادة الاعمار.

2-2 العراقيون والفساد

ولم يقتصر الفساد في العراق على المسؤولين الامريكان والشركات الامريكية العاملة في العراق، بل إمتد الى المسؤولين والموظفين العراقيين في كافة مفاصل الدولة. فقد وجد المفتش العام الامريكي فساداً كبيراً في الوزارات العراقية وخاصة وزارة الدفاع. فقد رفعت قضية أختلاس بمقدار مليار دولار على وزير الدفاع الاسبق حازم الشعلان ونحو 27 مسؤولاً في الحكومة الاولى التي شكلت برئاسة السيد اياد علاوي. ثم تبعتها اخبار السرقات من اموال العقود المتهم بها وزير الكهرباء الاسبق ايهم السامرائي. وانتشر الفساد الى جميع مفاصل الدولة وعلى جميع المستويات كما هو معروف . ( 2)

فقد ورد في موقع عراق الغد على شبكة الانترنيت(2) ليوم 26/2/2012 تصريحات لعدد من الاشخاص حول الفساد ومنها ما ذكره السيد احمد الجلبي حيث قال بأن ميزانية الدولة بلغت نحو 400 مليار دولار في خمس سنوات والناتجة عن ارتفاع الاسعار العالمية للنفط ، ويتساءل العديد من الاشخاص بضمنهم الجلبي ترى اين ذهبت هذه الاموال؟ اذ لم نر تشييد مدارس جديدة  كثيرة أو مستشفيات جديدة أو جامعات أو بنى تحتية ملحوظة. وقد سمعنا ايضا عن فساد في وزارة التجارة من خلال تنفيذ متطلبات البطاقة التموينية وكذلك في وزارة الكهرباء بالنسبة للعديد من وزراء الكهرباء الذين تعاقبوا على الوزارة، فضلا عن وزارة الداخلية وغيرها.

كما ادعى السيد الجلبي في تصريحه المذكور آنفا بان السيد رئيس مجلس الوزراء المالكي قد أنفق نحو 44 مليار دينار خارج اطار الموازنة العامة وبشكل غير قانوني خلال السنوات الاربعة الاولى من حكمه. كما يؤكد بأن الميزانية السرية لرئيس الوزراء تبلغ 7 مليارات دولار وهذه لا تخضع لرقابة البرلمان أو وزارة المالية وهي غير مدونة في الموازنة العامة للدولة، على حد زعمه. والسؤال الذي يطرحه البعض على ماذا انفق هذا المبلغ الذي يمثل نصف ميزانية الاردن أو سوريا؟ ويعلق السيد موسى فرج، الرئيس السابق لمفوضية النزاهة، أسألوا الحكومة والسياسيين لماذا قاطعتهم المرجعية الدينية ورفضت استقبالهم منذ ما يزيد على السنتين؟ أليس بسبب استشراء الفساد؟ (نفس الموقع المذكور آنفا )

ويشير البعض الى ان الفساد بطبيعة الحال ليس فقط سرقة المال أو تبديده، بل ان تصرفات من يقبضون على السلطة ويمارسون الكذب والدجل ولا يراعون مصالح المواطنين هي بالتأكيد مظهر من مظاهر الفساد التي تعاني منها بلادنا. فعلى مستوى مجلس النواب، الذي يقول البعض عنه انه مجلس منتخب والواقع إنه معين من قبل قادة الكتل السياسية الذين حصلوا على الكثير من الاصوات في الانتخابات ثم وزعوها على اتباعهم، وعليه فأن ولاء النواب الى قادتهم وليس الى الشعب الذي لا يمثلونه! ان الذين تم انتخابهم من قبل الناخبين  لا يزيد على 20 شخصاً فقط وهذه مثلبة كبيرة على العملية الديمقراطية في العراق.

ولهذا السبب فاننا نرى كيف يسارع النواب في اصدار كل التشريعات التي تهم مصالحهم الشخصية ويتباطأون ويختلفون على التشريعات التي تهم الفئات الشعبية. وقد كشف مصدر نيابي عن بعض ما جرى في جلسة مجلس النواب في 24/2/2012 والتي لم يسمح بنقلها للاعلام، من اجل رواتب النواب والحكومة وامتيازاتهم. فقد وقع اكثر من 200 عضو على طلب شراء سيارات مصفحة لكل واحد منهم بواقع 92 مليون دينار، وزيادة المخصصات لكل واحد مليوني دينار، وزيادة رواتب الحماية البالغ عددهم 30 فرداً بمقدار 300 الف دينار، لتصبح الزيادة في رواتب الحمايات 9 ملايين دينار لكل نائب، غالبيتها لا تسلم الى الحماية، والكثير منهم لا حماية لهم الا على الورق!! كما طالبت  احدى الكتل السياسية المتنفذة بزيادة المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاثة رغم وقوف غالبية الشعب بالضد من هذا المطلب! ويعلق أحدهم بالقول انظروا كيف يتصرفون بكرم عندما تكون المنافع لهم وكيف يقترون على الفقراء من الشعب وعلى المتقاعدين وغيرهم من الشرائح الاجتماعية المسحوقة ..

ومن مظاهر الفساد الاخرى الظاهرة الغريبة والمحزنة والتي اشار اليها البعض بالقول بأن اسيادنا في فترة الطغيان السابقة هم اسيادنا الآن في فترة الحرية الحالية ،ويشيرون بذلك الى ان الحيتان الكبيرة التي كانت تعمل في المقاولات وفي التجارة وغيرها خلال الثمانينات والتسعينات انتقلوا بسهولة من دون حساب من دهاليز عراق صدام حسين الى درابين العراق الجديد ( انظر الموقع الالكتروني المذكور

 آنفا ).

وهكذا يقول البعض بأن الفساد قد انتشر وتصاعدت وتائره حتى لم يعد ينظر اليه من قبل المسؤولين الحكوميين والاحزاب السياسية على انه وصمة عار اجتماعية. واننا نسمع يومياً انباء عن الفساد في جميع مفاصل الدولة وحتى في مفوضية النزاهة .

3-  أسباب الفساد في العراق(3)

من الضروري الوقوف على الاسباب والعوامل المختلفة لظهور وأنتشار الفساد في العراق بغية محاولة محاربته او التخفيف منه على الاقل . ومن اهم هذه الاسباب:

‌أ.      الحروب والصراعات والحصار: فالحروب والصراعات التي تنشأ في المجتمعات، سواء السياسية منها أو الاجتماعية أو الدينية تترك آثارها في تفشي وانتشار الفساد في المجتمع. وفي العراق فأن الحروب المتعاقبة التي شنها النظام المباد لعقود من السنين، وما تبعها من حصار شامل أفقرت الناس وأعوزتهم لدرجة ان اساتذة الجامعة تراجعوا اقتصادياً في التسعينات الى مراتب متأخرة وأضطر بعضهم الى بيع كتبه أو العمل كسائق بسيارته الخاصة، فيما أضطر المعلمون والمدرسون الى بيع السجائر في الشوارع. ويقال ان الاساتذة والمدرسين والمعلمين هم ملح الارض ( فأذا فسد الملح فسد كل شيء.) .

‌ب.انعدام العدالة الاجتماعية: عندما يحدث تباين حاد بين ثراء وترف خرافي لأقلية، وبين عوز أذلّ أعزّة واشقى اكثرية فعمد قسم كبير منهم الى اعطاء ضميره الاخلاقي اجازة حين رأى القوم ينعمون فيما اطفالهم شاحبون وزوجاتهم تتحسر على ثوب جديد. ان مثل هذه الحيثيات ادت الى اشاعة الفساد في زمن النظام السابق، وما حصل بعد الاحتلال هو ان التغيير أطاح بالنظام ولم يطح بالفساد، وأن الحكومات المتعاقبة غير جادة في محاربة الفساد بعد هروب مسؤولين كبار نهبوا ملايين الدولارات، (وكان قبلهم “الحواسم”) اشتروا الفلل والشقق الفارهة في عواصم عربية وغربية ومنهم من اصبحوا رجال اعمال بما نهبوا من اموال رافقت سقوط النظام. وفضلاً عن ذلك فقد مورس الفساد بشكل مشرعن من خلال تخصيص رواتب ضخمة وامتيازات خيالية للرئاسات الثلاث والوزراء واعضاء البرلمان (الذي ليس لها نظير في العالم المتقدم او النامي)، ناهيك عن الايفادات لعواصم حول العالم لا ضرورة لها. وكان الاجدر ان تصرف هذه الاموال على فقراء الناس ومعوزيها لتكون قدوة حسنة للآخرين. كما ان المبالغة في تخصيصات الحماية كانت وسيلة مشجعة للفساد، واذا كان الامان قد تحسن فلماذا لم تقلص مجموعات الحماية؟ يتساءل البعض ! .

‌ج.   غياب المحاسبة والشفافية: يقال حيثما تغيب الشفافية والمحاسبة يحل الفساد والعكس صحيح. لذلك فأن غياب المحاسبة والشفافية هو احد الاسباب الرئيسية لظهور وادامة الفساد في العراق. ان مثل هذا الاقرار قد ورد في تقرير المفتش العام الامريكي والذي يفسر به الفساد الذي ظهر في سلوك المسؤولين عن اعادة الاعمار في العراق وكما ظهر لدى المسؤولين العراقيين أيضاً.

‌د.     الاحزاب السياسية والفساد: ان الاحزاب السياسية العاملة في الساحة العراقية قد حصلت وانفقت أموالاً طائلة خلال السنوات الماضية وذلك من جراء الارتفاع الكبير الحاصل في اسعار النفط العالمية، فضلاً عن الانفاق الدولي الكبير نسبياً للاموال في العراق من باب المساعدات للنظام الجديد. فقد سهل هذل المال المتدفق على التوسع السريع في هذه الاحزاب، ويلاحظ البعض بأنه كلما إزدادت الموارد المالية لدى هذه الاحزاب كلما نمت وتوسعت وتعزز نجاحها، وكلما تعزز نجاح الحزب كلما ازدادت حاجته الى الاموال لدعم هياكله التنظيمية. وبسبب هذه الحلقة المفرغة فقد اتجهت الاحزاب نحو العمل على تعظيم عوائدها الامر الذي دفع هذه الاحزاب الى التزاحم والمنافسة للسيطرة على اكبر قدر من المناصب، سواء التي تجلب لها الاموال أو تلك التي تحمي مصادر دخلها (وهم المسؤولون الحكوميون) ولهذا السبب فأن اغلبية العقود الحكومية في العراق اليوم تتضمن عنصراً من الفساد في مجال التجهيز وفي عمليات الدفع. وتستمر المنافسة المحمومة من قبل جميع الاحزاب للحصول على المناصب الرئيسية لتعظيم المنافع المالية. ولهذا فقد أصبح الفساد ضرورياً لاستمرار الوضع القائم في العراق.

‌ه.     ويشير البعض أيضاً الى غياب القدوة النزيهة المتعففة على صعيد السلطة والنموذج المقارب لشخص عبد الكريم قاسم لتقتدي به الرعية.

وهكذا فأن المجتمع العراقي قد تعرض في الثلاثين سنة الاخيرة الى ضربات موجعة استهدفت منظومته القيمية وتهرئة نسيجه الاخلاقي نجم عنها تخلخل أضعف مبدأ الحلال والحرام عند بعض المسؤولين، ومع انهم قلة عددياً لكن تأثيرهم كبير.(أ.د قاسم حسن صالح ، مصدر سابق ) .

4-  اسس الفساد في العراق

فضلاً عن الاسباب والعوامل المذكورة أعلاه لظهور واستمرار حالة الفساد في العراق فأن هناك عوامل اخرى للفساد متصلة بالنسيج المعنوي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع العراقي. ومن المفيد الوقوف على هذه الاسس من اجل معرفة تأثيرها على الفساد في العراق. واهم هذه الاسس(4):

أ‌.      العوامل الاجتماعية –الدينية

يستند هذا العامل الى تحليلات عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين الذي يشير فيه الى ان هناك صراعاً بين القيم الدينية والقيم الاجتماعية لدى العراقيين والذي ادى الى بروز ظاهرة الازدواجية في الشخصية العراقية. فالقيم الاجتماعية تطورت خلال آلاف السنين من الثقافة البدوية والمعتقدات الموروثة التي تحترم التفاخر والقوة والسلطة. وفي القيم البدوية ليس هناك قيمة اجتماعية لظاهرة جمع المال بل هناك قيمة فقط لحقيقة جمع المال. واذا نظرنا الى المثل الاسلامية التي تتضمن التسليم لله والتقوى والعدالة فعندها نلاحظ التناقضات التي تنشأ من ذلك. ففي الوقت الذي يعرب الناس عن اعجابهم بالسلوك الاجتماعي البدوي الذي يحترم الشخص الذي يحصل على الثروة والسلطة وليس هناك اعتبار ديني أو اجتماعي لمثل هذا السلوك طالما انه يعكس صفة الجرأة والشجاعة. وعليه فأن مثل هذه الازدواجية في الشخصية العراقية تسمح للفساد بأن يكون عرضة للانتقاد الشديد والاعجاب الشديد في نفس الوقت.

ب‌.العوامل النفسية –الاجتماعية

ينظر الى العوامل النفسية الاجتماعية بأنها تدفع الاشخاص للسعي للحصول على الحاجات الاساسية، وبالتالي فأنه هذه العوامل تساهم في ظهور حالة الفساد الاداري. ان سقوط نظام صدام في 9/4/2003 مثَّل حلماً للكثير من العراقيين الذين استبشروا خيراً، لكن مثل هذا الحلم لم يدم طويلاً حيث ان الحكم الجديد أنتج حالة من الفوضى. ففي عام 2004 تشكل مجلس الحكم وهو هيكل صوري لا صلاحيات حقيقية لديه، وان عدم فعالية الحكومة بعد تشكيلها ادى الى ظهور وانتشار الجماعات المسلحة التي بدأت بالهجوم على المدنيين دون رادع. وخلال المدة 2004-2007 تجاوز عدد الضحايا  المليون شخص في العراق ,عدا الجرحى والمهجرين والمهاجرين. وقد قادت هذه الحالة الى عدم استطاعة الكثير من الناس تأمين حاجاتهم الاساسية رغم المنح الدولية والتبرعات التي انفقت في العراق من العديد من الجهات الاجنبية. وكل ذلك ادى الى فقدان الامل بالمستقبل لدى غالبية الشعب الامر الذي حمل معه تأثيرات اجتماعية مهمة ادت الى جعل الناس يركزون اهتمامهم على الحصول على حاجاتهم الاساسية واضعف الضمير الاجتماعي لديهم وجعل الفساد بالنسبة لأولئك الذين لديهم الفرصة السانحة بمثابة طريقة لتعزيز موقفهم في تأمين حاجاتهم المختلفة. ومما عزز هذه الحالة هو اعتقاد الناس بأن جميع المسؤولين فاسدون.

ومن هنا فأن الفساد في مثل هذه الحالة لم يعد ينظر اليه على انه وصمة عار اجتماعية.

ج. العوامل الاقتصادية

ان تكلفة الفساد بالنسبة للفقراء في العراق تستمر بالتفاقم، حيث ادى الفساد الى ازدياد تكلفة الحاجات الاساسية للناس مثل الكهرباء والغاز والدواء وحتى الغذاء. ولهذا فعندما تتوفر الفرصة للاستفادة من الفساد فأن عدداً متزايداً من العراقيين يستغلون هذه الفرصة وذلك كوسيلة لاشباع حاجاتهم الاساسية مما ينعكس على ادارة العدالة وحكم القانون والنظام التعليمي في العراق. وهناك تقارير تشير الى تزايد اعداد الضباط في الشرطة الذين يأخذون الرشاوى لانجاز الاعمال أو للتعيين …الخ كما ان العدالة يتم اعاقتها بواسطة الفساد.

ويقول البعض بأن الفساد ذاته يعدُ سبباً للفساد، أي ان الفساد من شأنه ان يديم حالة الفساد. فكلما ازدادت تكلفة المعيشة (كنتيجة للفساد) كلما تزايد عدد الاشخاص الذين يشتركون في ممارسة الفساد وذلك كوسيلة للعيش والبقاء.

5. تأثيرات الفساد الاقتصادية والاجتماعية (5)

       ان الفساد الاداري والمالي يترك جملة من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية وأهمها:

‌أ.      يترتب على ممارسة الفساد الاداري والمالي ربح مالي من قبل المسؤول أو الموظف مما ينعكس على رفع تكلفة الحصول على الخدمة ومن هنا فأن الفساد هو بمثابة ضريبة تفرض على طالبي الخدمة. وبالنسبة للمستثمرين فأن ذلك يعيق الاستثمار لانه يخفض العائد على الاستثمار.

‌ب.ان انتشار تعاطي الفساد بطبيعة الحال يؤدي الى تقليل ايرادات الخزينة العامة ويحرمها من موارد تحتاجها الدولة للانفاق على الخدمات العامة وتطويرها.

‌ج.  ان الفساد الاداري والمالي من شأنه ان يضعف اداء القطاعات الاقتصادية وبالتالي فأنه يضعف النمو الاقتصادي في البلد.

‌د.     يؤثر الفساد على العدالة التوزيعية للدخل والثروات لصالح الاكثر قوة في المجتمع (والذين يحتكرون السلطة) أو المقربين منها وبالتالي تزداد الفوارق الطبقية في الدخل والثروات بما في ذلك من تأثيرات سلبية على النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي.

‌ه.     ان الفساد في مجال تنفيذ المشروعات والمقاولات يفسح المجال لمنفذي هذه المشروعات للتلاعب بالمواصفات بما ينعكس سلباً على جودة المشاريع من الناحية الفنية فضلاً عن ارتفاع تكاليفها.

‌و.    ان الفساد في العراق يعد اليوم العامل الاكبر والاوحد الذي يسيء الى مصداقية الحكومة واصبح يمثل تهديداً للامن الوطني. ففي الوقت الذي تعمل الحكومة على جذب الاستثمارات الاجنبية للبلاد واعادة اعمار البنية التحتية فأن المستثمرين الاجانب يضطرون لدفع المال لتسهيل الحصول على الخدمات المطلوبة التي يفترض ان تكون جزءاً من عمل الادارة الحكومية الاعتيادية وهذا ما  يدفع الكثير منهم الى العزوف عن الاستثمار في العراق. ومن هنا فأن الفساد الاداري والمالي من شأنه ان يعمل على تعويق عملية التنمية ويعرقل مساعي البلد للدخول الى مجتمع الاعمال في العالم كلاعب على قدم المساواة مع الاخرين .

‌ز.   واخيراً فأن الفساد يؤدي الى حرمان العراقيين من رغد العيش وحتى من ابسط مقومات العيش، الامر الذي جعل بغداد تعد من بين أسوأ المدن من ناحية مستوى المعيشة حسب التسلسل العالمي المنشور.

6. وسائل مكافحة الفساد في العراق

تجدر الاشارة الى انه لا توجد صيغة سحرية سريعة لكبح جماح الفساد لكن ثمة خطوات واجراءات عديدة ينبغي اتخاذها لمحاربة الفساد والتخفيف منه وفي مقدمة هذه الاجراءات .

‌أ.      محاربة الفقر( الذي يعد احد اسباب ا لفساد وذلك نتيجة له  ) والسعي  لتحقيق العدالة الاجتماعية قدر المستطاع.

‌ب.اصلاح النفس البشرية كأداة لمكافحة الفساد وصيانتها من كل مظاهر الانحراف وترويض النفس على طاعة الله ومحاسبة النفس.

‌ج.  وضع وتطبيق قوانين صارمة لمنع هدر المال العام وأنشاء اجهزة أمنية تراقب التصرف بالاموال العامة ومحاسبة المقصرين بكل جدية.

‌د.     اعادة النظر بالحصانة الوظيفية التي يمارسها رؤساء الدوائر في حماية موظفيهم من المحاسبة حيث يبالغ هؤلاء في توفير الحماية لموظفيهم مما يجعل ذلك حجر عثرة في الجهود الرامية لمكافحة الفساد. فالحصانة الوظيفية ضرورة لتوفير الحماية القانونية للموظفين من الدعاوي الكيدية المرفوعة ضدهم على ان لا يتم استغلال ذلك في حماية المفسدين من الموظفين. ولا بد ان يتحقق التوازن بين ضرورة خضوع الموظفين لسيادة القانون ومساءلتهم عن الجرائم التي يرتكبونها كالرشوة والاختلاس، وبين ضرورة توفير الحماية للموظفين النزيهين من الدعاوي الكيدية.

‌ه.     استخدام الاعلام في بناء ثقافة النزاهة وتشكيل القيم والعادات من خلال تخصيص برامج ثابتة في الاذاعة والتلفزيون تهتم بمعالجة هذه المشكلة بوسائل مختلفة تشمل الندوات والاعلانات والتحقيقات … الخ وكذلك التوبيخ الاخلاقي للمفسدين.

‌و.    استعمال التوثيق والبحث لاعداد قائمة سوداء بأسماء المفسدين.

‌ز.   تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد من خلال ترسيخ مفاهيم الاستقامة والنزاهة والانضباط السلوكي، سواء في المجال الوظيفي العام أو الخاص وفي مجال السلوك الاجتماعي. فالمجتمع المدني اضحى مشاركاً في ادارة الدولة ورسم سياساتها ويلعب دوراً في عملية صياغة القرارات وسن التشريعات  ويتحمل مسؤولية تصحيح مسارات الدولة ومنها مكافحة الغش والفساد الاداري والمالي من خلال الرقابة والتوجيه والاحتجاج.

* خبير اقتصادي واكاديمي

الهوامش:

1)  علاء حافظ عبدالكاظم، جريدة النهار (البغدادية) العدد 22 كانون الثاني 2011.

2)  موقع عراق الغد على شبكة الانترنت ليوم 26/2/2012 مقالة بعنوان : ( الفساد في العراق… الشفافية غائبة والكبار مشاركون)

3)  أ.د. قاسم حسن صالح، دوافع السلوك المنحرف للشخصية غير النزيهة، جريدة النهار (البغدادية) العدد 34 شباط، 2012.

4)  Jeffrey Coonjohn: Corruption in Post-Conflict Environment An Iraqi Study Case
 

ملاحظة:

ان جيفري كونجون يعمل حالياً مستشاراً في افغانستان في مجال مكافحة الفساد. وقد عمل خلال المدة 2008-2011 مستشاراً كبيراً في مكافحة الفساد في مجلس المستشارين في مجلس الوزراء في العراق، كما عمل سابقاً مستشاراً في وزارة الدفاع العراقية خلال المدة 2006 -2007 ، وعمل ايضاً قبلها في السعودية والبلقان والشرق الاقصى وامريكا اللاتينية

5 ) نضال العليان، الفساد الاداري والمالي في العراق وآثاره الاقتصادية، جريدة النهار (البغدادية ) العدد 34 شباط 2012. وكذلك،علاء حافظ عبد الكاظم  الاثار السلبية للفساد على الاقتصاد والاستثمار ،جريدة النهار،العدد 22 كانون ثاني،2011

6) OECD,Private Sector Development in the Middle East and North Africa,Supporting Investment Policy and Governance Reforms in Iraq,2007-2008
PDF  لتنزيل المقال بصيغة

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    كثر الحديث عن الفساد فى العراق ولكن من الضرورى ان نميز بين الرشوة الكبرى التى يشارك فيها مسولون فى مستويات رفيعة وبين الرشوة المحدودة التى يشارك فيها مسولون فى دائرة الجوازات مثلا وعند التركيز على الرشوة الكبرى فان هدفنا ليس التقليل من شان الرشوة الحدودة التى تضر بمصلحة المواطن العادى خاصة اولائك الاكثر فقرا فى المجتمع لكن الرشوة الكبرى يمكنها ان توءدى الى تدمير دول وتزداد احتمالات الرشوة الكبرى فى المعاملات الاتية
    -المعدات العسكرية والطائرات والسفن واجهزة الاتصالات
    السلع الراسمالية
    -تراخيص الصناعات الاستخراجية
    -رسوم الاستشارات
    -المشتريات الحكومية الكبيرة مثل مشتريات قطاع النفط والادوية والمسحضرات الطبية والكتب المدرسية
    طبعا يعتبر وجود الوسيط الذى يتقاضى عمولة عنصرا اساسيا من عناصر الفساد
    ويمكن معرفة الضرر الذى يسببه الفساد من الزيادة المباشرة فى تكلفة المعاملةوهناك اضرار اخرى مثل اختيار مورديين غير مناسبين واعطاء اولويات لتوريدات غير ضرورية على حساب الاولويات الضرورية ثم هناك الضرر الاخلاقى الذى لا يقل خطورة عن الضرر الاقتصادى
    لا بد من تضيق فرصة الكسب غير المشروع -وضع قوانيين جيدة للمشتريات بحيث تكون المناقصات او المزايدات وسيلة للوقاية من الفساد- الركيز على ازالة اسباب عرض الرشوة وغيرها من اشكال الفساد الاخرى وهناك الكثير من
    الاجراءات المقدمة من قبل منظمة الشفافية الدولية وغيرها لمكافحة الفساد

  2. Avatar
    محمد جواد سنبه:

    حضرة الاستاذ الفاضل الدكتور مدحت القريشي المحترم … السلام عليكم.
    لقد بذلتم جهداً علمياً فريداً فعالجتم الموضوع معالجة قيمة تناولت كل زواياه وجميع ثناياه. اتمنى لكم من الله تعالى الصحة والسلامة لخدمة العراقيين الشرفاء، والله تعالى من وراء القصد. والسلام عليكم.
    محمد جواد سنبه
    كاتب وباحث عراقي

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: