اراء اقتصاديةالرئيسيةالصفحة الأولى

النظام المالي العراقي: الاقتصاد رهين السياسة الشعبوية‎:‎

د. سهام يوسف:

في مشهدٍ يختزل مأساة الدولة العراقية الحديثة، تحوّلت الموازنة العامة من أداة للتنمية إلى وسيلة للترضية ‏السياسية، وغدا النظام المالي أقرب إلى شبكة أمان هشّة لحماية النظام السياسي من غضب الشارع، لا لحماية ‏الاقتصاد من التقلبات. لم يعد الإنفاق العام انعكاسًا لخطط النمو والإنتاج، بل أصبح انعكاسًا لمطالب الناس ‏بمزيد من التعيينات، حيث تُقاس كفاءة الحكومة لا بقدرتها على تحفيز الاستثمار، بل بقدرتها على دفع ‏الرواتب في موعدها.‏

في بلد يعتمد على النفط كمصدر لأكثر من 90٪ من إيراداته، تتحول كل دفعة رواتب إلى جرعة تهدئة ‏مؤقتة، وكل قرار توظيف جديد إلى أداة امتصاص للغضب الاجتماعي. أكثر من ثمانية ملايين مواطن ‏يتقاضون دخلاً من الدولة، ما بين موظف ومتقاعد ، يشكلون حوالي 17٪ من إجمالي السكان البالغ 46 مليون ‏نسمة. هذه النسبة الكبيرة ليست مجرد رقم، بل مؤشر صارخ على اعتماد الدولة على توزيع الريع كوسيلة ‏لامتصاص الغضب الشعبي، مع ما يترتب على ذلك من عبء مالي هائل على الموازنة، ضعف حافز الإنتاج ‏في القطاع الخاص، وزيادة اللزوجة المالية التي تحول النفقات المؤقتة إلى التزامات دائمة.‏

تجاوزت الرواتب في الموازنة أكثر من 50٪ من الإنفاق الجاري في بعض السنوات، ومعظم التعيينات جاءت ‏بقرارات سياسية لا تخطيط اقتصادي. ومع كل توسع في الإنفاق، تزداد صعوبة تقليص النفقات العامة، ‏خصوصًا الجارية منها كالرواتب والدعم، بمجرد توسعها في فترات الفوائض. هذه اللزوجة المالية تُقيد حركة ‏الدولة وتُضعف مرونتها في مواجهة الأزمات، إذ تتحول النفقات المؤقتة إلى التزامات دائمة، تستهلك الحيز ‏المالي المتاح وتمنع أي إصلاح هيكلي لاحق.‏

لقد بلغ العجز الفعلي في الموازنات الثلاث الأخيرة أكثر من 35 تريليون دينار، رغم تجاوز أسعار النفط 75 ‏دولارًا للبرميل وتحقق فوائض مالية قاربت 22 تريليون دينار في حسابات وزارة المالية. ومع ذلك، تم تمويل ‏العجز عبر الاقتراض الداخلي، الذي تجاوز 91 تريليون دينار، أي أعلى مستوى في تاريخ العراق. وهكذا ‏تحوّل النظام المالي إلى دائرة مغلقة: النفط يموّل الرواتب، الرواتب تشتري السكون، السكون يبرر استمرار ‏الريع، والريع يعمّق العجز، والعجز يُموَّل بالديون‎,‎‏ حلقة من الاعتماد المتبادل بين السياسة والاقتصاد لا يُنتج ‏فيها أي منهما شيئًا سوى الآخر.‏

لم تتعظ حكومات العراق المتعاقبة منذ 2008 حتى 2025 من الدروس الاقتصادية، بل كررت نفس ‏السياسات بصراحة: إذا لم نوزع الرواتب أو لا نعين الشباب، سيخرجون إلى الشوارع بمظاهرات، ويُهدّد ‏السلم الاجتماعي. بهذا الإعلان العلني تتحوّل الموازنة إلى أداة للتهدئة أكثر من كونها أداة للتنمية، ويزداد ‏اعتماد الدولة على اللزوجة المالية لتبرير استمرارية الرواتب والدعم، حتى في أوقات الفوائض أو ‏الانخفاضات في الإيرادات.‏

لمواصلة القراءة الرجاء الضغط على الرابط التالي:

الدكتورة سهام يوسف النظام المالي العراقي الاقتصاد رهين السياسة الشعبوية‎

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: