خواطر إقتصاديةمظهر محمد صالح

د. مظهر محمد صالح : تأملات في البداوة السياسية- الجزء الثالث: الكعكة المنقوصة

Iraqi Economists Network

تأملات في البداوة السياسية:

الجزء الثالث : الكعكة المنقوصة

                                        د.مظهر محمد صالح

    كثيرا ما تأتي الصدف الموضوعية لتجمع الاحداث المتباعدة بلا تلميح وهي اشبه ما بالموت لتصهرها في خطاب واحد من التوافق والاقتراب ينسجم مع الصدق الفطري المحيط بنا . وعلى هذا المنحى لم يفاجئنى خطاب لمياء النايف زوجة رئيس وزراء العراق الاسبق الذي امتدت ولايته لمدة 13 يوما فحسب بين 17 الى 30 تموز 1968 وهي تخاطب من مشفاها في لندن في شباط 1972 واصفة كيف واين ومتى يغدر الرجال ! بعد تعرضها هي وزوجها للاغتيال السياسي  وهي تناشد العقل المدبر للجريمة السياسية المنظمة في العراق آنذاك قائلة :  حيث اعتقلتم زوجي وهو ضيف عليكم كان يتناول طعام الغذاء على مائدتكم وهو اعزل من السلاح وعدتم بعدها الى اساليبكم البغيضة في التعسف والاستهتار وسفك الدماء …الخ .

استوقفني هذا الخطاب وعادت بي الذاكرة الى العام 1960 عندما استقبلتني هذه السيدة وانا احمل هدية عيد ميلاد ابنتها التي بعثت بها والدتي بعد انتهاء الحفل . حيث تلقت والدتي الدعوة من السيدة لمياء دون ان تذكر لها مغزى الدعوة التي كانت حفلة عيد ميلاد ابنتها كي لا تثقل والدتي بمشقة الهدية ، ولكن اصول وتقاليد ورمزيات الحياة المدنية تقتضي الكثير و تتمسك بها الاسر دون ان تغفلها ، وكان واجبي ايصال الهدية في مساء اليوم نفسه .

استقبلتني هذه السيدة الجليلة وطلبت مني ان اجلس الى جوارها لأتمتع ببقايا كعكة عيد الميلاد ولكنها كانت كعكة منقوصة بعد ان التهمتها النساء المحتفلات ، ولم يبق الا الجزء النزير منها ، وكان يجلس امامي على مائدة الطعام في ذلك المساء شخصية عسكرية فذة ، انه النقيب عبد الرزاق النايف  . وكان يبدو لي انه عائد من معسكره تواً وهو يرتدي البزة العسكرية بهندام عالي وشاركني في تلك الكعكة ولم يتحدث معي سوى بأظهار ابتسامات لائقة .. ولااتذكر من ذلك الرجل العسكري سوى لمعان وبريق كوكباته الذهبية الثلاث التي كانت تعلو كتفيه عن الشمال وعن اليمين. وكنت وقتها تلميذا في عمر المدرسة ، اذ تجسد في مخيلتي في تلك اللحظات  ان عبد الرزاق النايف  هو من اكثر ضباط الجيش العراقي اناقة وقيافة ونضارة ، وكنت من اخر المدعوين انا والنايف على تلك الكعكة المنقوصة التي لم تدم اكثر من 13 دقيقة ، وهي الدقائق نفسها التي امضاها في تناول غذائه المنقوص بعد ثلاثة عشر يوما من الحكم في حادثة 30 تموز 1968 ، عندما كان مدعواً بنفسه على طعام الغذاء  مع رئيس الجمهورية عندما داهمه العقل المدبر وهو يشهر سلاحه على مائدته، وقال لهم ارفعوا ايديكم جميعاً !!، وماكان لرئيس الجمهورية الذي يقف امام رئيس الوزراء المنكوب الا ترك المائدة المغدورة وعليها تلك الكعكة المنقوصة التي لم يكتمل اكلها، قائلاً : هل الطائرة العراقية حاضرة لرحيله غرب الوطن العربي ؟ عندها علم عبد الرزاق النايف ان مائدته مازالت منقوصة وان الكعكة التي تتوسطها تحمل صفة الغدر ورياح الخيانة لتجسد البداوة السياسية في مجتمعات مضمحلة شديدة البدائية قليلة الوفاء!.

لقد اتجهت الطائرة وهي تحمل على ظهرها رجل العراق المغدور الى المغرب العربي ، ليستقرعلى ضفاف محيط العرب الهادر ليترك خليج العرب الثائر يعج بأباطيل البداوة السياسية و يتمتع بموائد ناقصة وكعكات لم يقضمها احد في بلادي حتى وقت قريب.

لقد انتهيت شخصياً مع عبد الرزاق النايف على مائدة عيد ميلاد ابنته قبل اكثر من خمسين عاماً بكعكة منقوصة و غادرته بسلام ومودة واطمئنان الزمتها قوانين و اخلاقيات علم الاجتماع والاسرة العراقية ، في حين انتهى من غذائه مع رئيس جمهوريته وغادر كعكته المنقوصة تحت تهديد السلاح والخوف والغدر وهو مرتهن بقوانين الخدعة السياسية المضللة وفردانية البداوة السياسية وتحايلها وبؤسها  .

انه قدر رئيس وزراء العراق الاسبق عبد الرزاق النايف الذي ابتدأت معه بالكعكة المنقوصة في عيد ميلاد ابنته قبل خمسة عقود ولكن انتهى هو بنفسه بكعكة العراق المنقوصة يوم غدره على مائدة طعامه في القصر الجمهوري وهو بضيافة رئيس جمهوريته وامامه كعكة اسمها العراق التي اخذ ينهش اوصالها يومذاك الرفاق قبل الغرباء  وتركوها منقوصة حقاً لشعب يعاني 23% منه تحت طائلة خط الفقر و 23% منه ربما فوق خط الفقر بقليل في امة مازالت تتهالك على شيء من كعكتها المنقوصة التي هي من ارث الماضي، اسمها (الحصة) حتى يومنا هذا .

 

 اقول لبلادي لتطمئن على كعكتها المنقوصة ويرتاح بالها كما تطمئن الى مقعد خالي ولكن لابد ان تترك لنفسها فسحة التفكير والامل في مستقبل بناء امة قوية بكعكة كاملة لاينهشها احد من الغرباء اسمها كعكة العراق ! .

 

                                         انتهى

 لتنزيل الملف بصيغة بي دي أف

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: