جدل اقتصادي
22/11/2012
في النظم الإقتصادية المستقرة والعاملة على وفق أسس إقتصادية وإجتماعية عقلانية وسليمة، لا تقوم الحاجة الى توزيع الطعام المجاني أو المدعوم جزئيا لجعله رخيصا وبسعر يناسب دخول الشرائح الفقيرة في المجتمع. قد يتم اللجؤ الى هذه الحالة عند إنزلاق الحكومة والبلاد الى حروب، او عند حصول كوارث جسيمة، عندها سيكون إتخاذ إجراء، مثل تزويد أصحاب الدخول الواطئة ببطاقات تسمى “تموينية”، لغرض تعويضهم عن إرتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية، مثل اللحوم والرز والطحين والزيوت، وغيرها، مبررا بسبب حصول تضخم هائل يولد، عادةَ، إرتفاعا حادا بالأسعار، وخصوصا للمواد أو السلع الغذائية الأساسية. ولكن، تبني مثل هذا الإجراء يكون في الأصل مؤقتا، أي لحين معالجة حالة التضخم الهائل، ولحين وضع سياسات كافية لجعل الأسعار متناسبة، نسبيا، مع دخول الأفراد، حسب قدراتهم الشرائية. إلا أن ما حصل في العراق من حروب وحصار طويل، قد طال كثيرا، إذ إمتد من ثمانينات القرن الماضي، عندما تورط النظام السابق في حرب دامية مع الجارة إيران، إستمرت لثمان سنوات، تبعتها حربان مدمرتان، الأولى أبان غزو الكويت الطائش في عام 1990، والثانية في عام 2003، عندما غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق. هذه الحروب أدت الى تدمير البنى الإرتكازية للإقتصاد العراقي، وهدمت النشاطات الإنتاجية في الزراعة والصناعة، وحتى في الخدمات، مما أدى، بطبيعة الحال، الى زيادة الفقر والبطالة، فتم الإعتماد على البطاقة التموينية، طوال هذه المدة. ولحسن الحظ، لعب قطاع النفط الإستخراجي دورا أساسيا في تمويل هذه البطاقة التموينية التي شملت أكثر من ربع السكان، على الرغم من عدم كفاءة التوزيع ورداءة نوعية السلع الغذائية الموزعة على السكان.
في ظل الظروف التي سادت خلال اكثر من عقدين، قبل سقوط النظام السابق، لم يكن بالإمكان معالجة الفقر والبطالة، وإعادة إعمار البلاد وزيادة الإستثمار للنهوض في النشاطات الإنتاجية والخدمية، غير النفطية، ولمعالجة البطالة الواسعة، مما جعل الإعتماد على البطاقة التموينية كبيرا، وكانها بطاقة نجاة أو تحوط ضد حصول مجاعات وثورات شعبية! ولكن الأمر كان يبدو مختلفا بعد سقوط النظام السابق في عام 2003، حيث قد مضى ما يقرب من عقد من الزمن حتى الآن، واصبحت العائدات النفطية تصل الى أكثر من مئة مليار لعام 2011 وحده. وتعاقبت قوى سياسية تتداعى لبناء العراق الديمقراطي المزدهر، على الرغم من صراعاتها الفئوية والتحاصصية والطائفية، ولكن، في أضعف الإيمان، كان يمكن تنشيط النشاطات والقطاعات الإنتاجية وخصوصا في الزراعة والصناعة التحويلية غير النفطية، وبما يؤدي الى زيادة المعروض السلعي من الإنتاج المحلي، وإمتصاص البطالة ورفع مستويات الدخول. وكل ذلك، بما يمّكن السكان، وخصوصا ذوي الدخول الواطئة من الإعتماد على قدراتهم الشرائية لإقتناء السلع والخدمات التي تتناسب معها، وبدون الإعتماد على بطاقة تموينية، تقدم لهم أصنافا بائسة من السلع القليلة او المتضاءلة، فضلا عن هدر كراماتهم.
ولكن شيئا من هذا لم يحصل، فسياسات الباب المخلوع تماما أمام تدفق الإستيرادات من مناشئ عديدة، بدون أية حماية أو في الأقل، تمكين إقتصادي ومالي ولوجستي لحماية صناعات الإنتاج السلعي المحلية، فقد مورست حتى سياسات إغراق ضد الصناعات العراقية المحلية التي كانت ولا تزال تكابد من عدم وجود بنى إرتكازية كافية ولا سياسات إئتمنانية ولا دعم لوجستي ومالي وضريبي، كما كانت قد عانت من دمارات الحروب السابقة، ومن هجرة العقول الصناعية في القطاع الخاص. وحينما لا توضع سياست تنموية، بدون فساد، لمعالجة تنمية صناعات الإنتاج المحلي، كيف يمكن إتخاذ قرار لإلغاء البطاقة التموينية؟ وتعويضها بمبلغ نقدي ضئيل لا يتجاوز الخمسة وعشرين ألف دينار؟ ماذا ستفعل العوائل الفقيرة بهذا المبلغ؟، هل يكفي لشراء سلعهم الأساسية والتي ستكون مستوردة بمعظمها، لإن الإنتاج المحلي لا يزال ميتا؟ كما أن هذه السياسة ستمعن في إبقاء الإقتصاد العراقي ريعيا، أي يستخدم عوائد النفط المصدر من أجل الإستهلاك المباشر وغير الكفؤ، وليس من أجل الإستثمار الإستراتيجي، بهدف بناء صناعات محلية دائمة، لمقابلة صناعة نفطية إستخراجية ناضبة!
نخلص من كل ما تقدم الى جملة من النتائج الموجزة، كالآتي:
1. نعم إن سياسة البطاقة التموينية يجب أن تنتهي، فهي بالأصل إجراء طارئ ومؤقت، ولكن يجب أن يتم ذلك بشروط مسبقة، منها تحقيق نهوض شامل في القطاع الإنتاجي المحلي.
-
2. في غياب السياسات اللازمة لزيادة المعروض المحلي من الإنتاج الوطني، سيوضع الإقتصاد العراقي رهينةَ لمصالح التجارة الدولية، وعرضة لإزماتها المالية والإقتصادية!
-
3. أن التعويض بمبلغ نقدي ضئيل لأكثر من ربع السكان في العراق، ممن هم دون خط الفقر وبمحاذاته، سوف لن يسد رمقهم، لاسيما وإن تجار المفرد سيزيدون أسعار سلعهم الغذائية الاساسية أضعاف مضاعفة.
-
4. الأخطر من كل هذا، إن هذه السياسة، بدلا من أن تتصدى لمشاكل العراق التنموية، وفي مقدمتها حالة الإقتصاد الريعي التابع للتجارة الدولية، فإنها بالعكس تماما، تؤدي الى زيادة تحكّم هيمنة الإقتصاد الريعي على النشاطات الإقتصادية الكلية في البلاد.
-
5. نعتقد ان العقلانية تقتضي أن تراجع الحكومة العراقية الحالية قرارها هذا، وتعيد دراسته ضمن منظور تنموي إستراتيجي وطني.
شبكة الاقتصاديين العراقيين – 21 تشرين ثاني، 2012
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية