د.مظهرمحمد صالح: الاتجاهات الراهنة للتضخم في العراق
1 – مدخـل
تركت الاتجاهات السعرية التي عاشها الاقتصاد العراقي منذ بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي وحتى العام 2006 متوسطات تضخم سنوية بلغت قرابة 50% لتعكس ثمة مشكلة هيكلية باتت متأصلة في مكونات ومداخل الاقتصاد الكلي في العراق الذي ما فتىء يعاني من ظاهرة اختلال التوازن بين قطاعات الانتاج السلعي (باستثناء القطاع النفطي حاليا) وبين قطاعات الخدمات والتوزيع التي ما زالت تعمل لمصلحة النشاطات الخدمية الهامشية او ضعيفة الانتاجية.
وعلى الرغم من حصول تطورات سعرية ايجابية مهمة بينتها حالة الهبوط النسبي في اتجاه الظاهرة التضخمية واعتدال الاسعار والاسعار النسبية ولاسيما خلال السنوات الثلاث الاخيــــرة 2003 – 2006 التي بلغ التضخم فيها قرابة 32% سنويا وفق متوسط 12 شهرا لكل سنة ذلك بعد تغير النظام السياسي في العراق والتحول نحو بدايات الاندماج في الاقتصاد الدولي،الا ان تبدلا جوهريا آخر اخذ يطرأ على اتجاهات الظاهرة التضخمية مجددا ومنذ شهر شباط 2006 وحتى الوقت الحاضر (بعد ان سجل شهر كانون الثاني من العام 2006 متوسطا سنويا بلغ 20% وهو الاقل خلال الاعوام الثلاث المنصرمة) اذ سجل الرقم القياسي لاسعار المستهلك ، كمؤشر للتضخم،في نهاية شهر مايس من العام 2006 معدلا قدره 53% مقارنة بشهر مايس من العام 2005،ليضع الاقتصاد العراقي مجددا في متوسط الاتجاهات التضخمية التي لم يعهدها الا ابان فترة الحصار الاقتصادي.
كما اخذ التضخم مساراً جديداً آخر فاقت متوسطاته الشهرية مؤشرات الفترة الطويلة بعد ان بلغت نسبة الزيادة الشهرية في الرقم القياسي لاسعار المستهلك في تموز من العام 2006 قرابة 70% مقارنة بالنسبة نفسها من العام 2005،كما واصل ارتفاعه في شهر آب 2006 ليبلغ نسبة 6ر76% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.مما يعني ان ثمة مرحلة ثالثة هي في غاية الحرج الاقتصادي عكستها اتجاهات التضخم مجددا عند تجاوزها مستوى سنوي فاق نسبة 50% ليصل الى 70% في شهر تموز الذي يعد من افضل شهور العراق غزارة في الانتاج ولاسيما في مجال الانتاج الزراعي والنشاط الاقتصادي العام.
2 – مصادر الظاهرة التضخمية ومسبباتها
تؤكد المؤشرات التضخمية الشهرية الراهنة ان ثمة فقرات قد اسهمت بشدة في تطور اتجاه التضخم الشهري Trend وتحوله من 3.12 نقطة مئوية في شهر مايس ليرتفع وبشكل لافت للنظر الى حوالي 4.23 نقطة مئوية في شهر تموز وارتفاعه الى 5.6 نقطة مئوية في شهر آب 2006 (لاحظ التفاصيل في الجدولين 2،3)،اذ اوضحت تلك التفاصيل المشار اليها في الجدولين انفا بان قرابة 85% في حركة اتجاه Trend الرقم القياسي لاسعار المستهلك في العراق منذ ايلول 2003 وحتى آب 2006 (أي ما يزيد على 6ر3 نقطة مئوية من اصل التغيرات الشهرية البالغة 4.23 نقطة مئوية في تموز وكذلك ما يزيد على 4.76 نقطة مئوية من اصل التغيرات البالغة 5.6 نقطة في شهر آب) تعزى تأثيراتها السعرية بالدرجة الاساس الى الفقرات الاتية :-
شهر تموز |
شهر آب |
الايجار بنسبة 41.7% |
الايجار بنسبة 36.6% |
الغذاء بنسبة 23.8 % |
الغذاء بنسبة 21.2 % |
الوقود بنسبة 19.6 % |
الوقود بنسبة 27.4% |
اخرى بنسبة 14.9% |
اخــرى بنسبة 14.9% |
المجموع 100 % |
المجموع 100 % |
واذا ما قورنت التطورات السعرية الراهنة بمستويات البطالة ومعدلاتها المرتفعة التي بلغت هي الاخرى حوالي 50%،فان ذلك يؤكد ما يشير الى ان الاقتصاد العراقي يتخبط في ظواهر (الركود التضخمي Stagflation) وبمستويات مثيرة للقلق،في وقت ما زال فيه القطاع الحقيقي يعاني من تدني في معدلات انتاجيته وتعطل في مستويات انتاجه والذي تؤشره حالة القصور الواضح في نشاطات العرض الكلي لقطاعات حيوية في الاقتصاد،مثل قطاعات الطاقة والوقود والنقل والمواصلات وقطاعات الخدمات الانتاجية المهمة الاخرى.واذا ما ادركنا درجة اختلال التوازن بين قطاعات الانتاج السلعي وبين قطاعات الخدمات والتوزيع،فيمكن ملاحظة ان القطاع النفطي الذي بات يحتل لوحده نسبة قدرها 70% في مكونات الناتج المحلي الاجمالي ، في حين ما زالت تقتصر مساهمة القطاع الصناعي الى حدود منخفضة لاتتجاوز نسبتها 1.5% في تركيب ذلك الناتج بعد ان كانت تشكل 9% من الناتج المحلي الاجمالي.اما القطاع الزراعي الذي تتسع اريافه الى اكثر من 8 ملايين مواطن فان مساهمته هي الاخرى لا تتعدى6.5% في تركيب الناتج المحلي الاجمالي بعد ان كانت مساهمته تزيد على 35% من تركيب ذلك الناتج قبل ثلاثة عقود.وعلى اساس هذا الواقع المختل,حظي قطاع الخدمات بالنصيب الاكبر في الناتج المحلي الاجمالي بعد القطاع النفطي،اذ احتل قطاع الخدمات نسبة 22% من مكونات ذلك الناتج الاجمالي.
وعلى مستوى التشغيل،وعند النظر الى القطاع النفطي الذي لايساهم في مكونات تشغيل قوة العمل العراقية الا بنسبة منخفضة لاتتعدى في الاحوال كافة 2% منها،فان ذلك يعني ان 98% من قوة العمل باتت تستوعبها قطاعات لاتتعدى مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي 30% وتهيمن عليها نشاطات خدمية هشــة التكويـن soft activities. وباستبعاد القطاع النفطي من تركيب معادلة الاقتصاد الوطني ترتفع مساهمة قطاع الخدمات في تكوين الناتج المحلي الاجمالي الى نسبة تزيد على 60% منه،مما يؤشر ان الاقتصاد العراقي بات اقتصادا خدميا ضعيف الانتاج وتأتي خطورة مثل هذا الاختلال بالاتجاهات الثلاث الآتية :-
الاول :سيادة قطاع خدمات دون توافر جهاز انتاجي متطور ومرن في الوقت نفسه،مما يعني توليد دخول نقدية تمثل قدرات شرائية تزيد من ضغوط الطلب،وازاء عجز الانتاج المحلي لمواجهته،يتمدد الطلب على السلع المستوردة للتعويض مما يضع ضغوط قوية على ميزان المدفوعات ويرفع من درجة تزايد الاعتماد على الخارج.
الثاني : ان النشاط الانفاقي المتزايد دون استجابة مناسبة من الجهاز الانتاجي المحلي قد امسى بالضرورة القوى الدافعة لنمو الضغوط التضخمية،التي تترك اثارها السالبة على حركة الانتاج المحلي ومستويات المعيشة وقدرات الفرد الشرائية.فنفقات الموازنة العامة لوحدها هي الاخرى ارتفعت من 45 ترليون دينار في عامي 2004 و 2005 على التوالي والتي زادت تقديراتها في العام 2006 لتبلغ قرابة 65 ترليون دينار ويتوقع ان تبلغ المستويات نفسها في العام 2007 . ومن اللافت للنظر ان هذه النفقات التي يغلب عليها الطابع الجاري الاستهلاكي تشكل نسبة غريبة التكوين حيث انها لاتقل عن 99% من الناتج المحلي الاجمالي.كما ان قوى الصرف الهيكلية في تلك الموازنة من رواتب واجور ونفقات تحويلية مختلفة باتت تفوق قدرات العراق الانتاجية اجمالا اذا ما استبعدنا القطاع النفطي كقطاع ريعي.
الثالث: تعد البنية التحتية المادية من اساسيات التكوين الرأسمالي الثابت والتي غدت مندثرة الى حـد بعيد بسبب تعرضها الى التخريب والاهمال بسبب الحروب والصراعات الاقليمية التي نشبت بعد العام 1980.لذا فان اعادة تأهيل البنية المذكورة التي تعد اساس من اساسيات النمو المستدام تتطلب تكاليف على وفق الاسعار الدولية الجارية تعادل خمسة اضعاف قيمتها في العام 1980 والتي بلغت 35 مليار دولار،مما يعني ان قيد النهوض الشامل بهذه البنية يتطلب مبالغ بين 150 – 200 مليار دولار.
ان سيادة قطاع الخدمات الهامشية في مكونات النشاط الاقتصادي باتت معروفة في تأثيراتها السلبية على تكوين وتركيب سوق العمل العراقية والقدرة على التوظيف او الاستخدام المنتج،اذ إن نسبة الاستخدام الناقص فيهــا incomplete employment تزيد على 22% من مكونات قوة العمل وهي على الرغم من ذلك تدرج ضمن احصاءات البطالة الفعلية في قوة العمل الناشطة اقتصاديا ولا يضم قطاع الخدمات الهامشية سوى مهن ونشاطات تنتمي الى خدمات ضعيفة الانتاجية وتستوعب في الاحوال كافة نسبة 50 % من قوة العمل الاجمالية في قطاع الخدمات والتي تعد كما ذكرنا انفا ضمن تصنيفات البطالة في سوق العمل على الرغم من حصول العاملين فيها على دخل او ايراد ولكن ذلك الايراد يعد هامشيا يجعلها دون مستوى خط الفقر البالغ 2دولار يوميا،الامر الذي يؤشر مدى تغلغل قطاع الخدمات ضعيفة الانتاجية في جسم الاقتصاد العراقي. كما إن لهذا القطاع الهامشي القدرة على التوسع والاستيعاب المستمر لقوة العمل وتعطيلها في ان واحد ، مما يعني تدهورا مستمرا في انتاجية قطاع السلع والخدمات والذي يولد ضغوطا تضخمية مضاعفة بما في ذلك الضغوطات التي يتعرض اليها سعر الصرف الحقيقي وفق الاثر الاقتصادي المعروف بـEffect Blassa- Samulson.
واذا كان الاقتصاد العراقي يمثل انموذجا للاقتصاد الريعي،أي الاقتصاد الذي ترتبط مصادر الدخل فيه بالطلب الخارجي بغض النظر عن الانتاج والانتاجية،فان الدولة العراقية هي بدون شك مركز الثروة ومصدر الدخل الاساس للبلاد،ولكن على الرغم من ذلك فما زالت فلسفة الانفاق العام وسلوكياته في الموازنة العامة تمثل انموذجا للدولة الريعية وان التوسع في النفقات مقابل التخلي النسبي عن التحصيل الضريبي هي مسألة تأسست تاريخيا في سلوكيات المالية العامة ذلك بان يذهب الانفاق الى المستفيدين سواء المحتاجين منهم حقا ام غير المحتاجين الامر الذي شجع من ظاهرة ما يسمى بالركوب المجاني Over riding وعلى نطاق واسع اذ يطلب الفرد من الدولة من دون مقابل يدفعه،وهو امر يؤشره ضعف قدرة السلطة المالية على الامتداد الضريبي تاريخيا،فضلا عن صعوبة اصلاح برامج الدعم في الموازنة التي تقدر نسبتها حاليا سواء المباشرة منها ام غير المباشرة 80% من الناتج المحلي الاجمالي،مما يعني انغماس النفقات الحكومية في التوسع المستمر لتغطية نشاطات تتعدى في مضمونها مفهوم دور الدولة فــي توفير السلـع العامــــــة Public – goods ازاء مساهمة افراد المجتمع الضعيفة في التعبير عن فهمهم للفلسفة الضريبية ودورها كمصلحة عامة يسهم الفرد فيها من دخله الحقيقي في رفد موارد متطلبات بناء العدالة الاقتصادية والاجتماعية على وفق احتياجات الموازنة التي تقابل تلك الامتدادات والتوسعات في الانفاق العام(اذ مازال الفرد يعيش دوما على مخيلة حقه في الريع النفطي مقابل التجنب الضريبي).
وبغض النظر عن هذا وذاك,فان مصادر الظاهرة التضخمية ومسبباتها الراهنة في العراق تنطلق من اساسيات واقعية مؤشرة نتائجها الرقمية تفصيليا في الجدول رقم 2 ويمكن تفسيرها بما يأتي :-
– ان التحرير الجزئي liberalization لبعض اسعار السلع والخدمات المقدمة ضمن برنامج الدعم الحكومي قد ترجمت الى حالة هيجان في المستوى العام للاسعار مما اشر في الوقت نفسه ان الاسعار النسبية لبعض السلع الحاكمة لها اثر دالي على المستوى العام للاسعار ومن ثم التحكم في اتجاهات الظاهرة التضخمية.ولاسيما مواد البطاقة التموينية والوقود واية خدمات حكومية ملازمة تقدم مجانا او شبه مجانا.
– ان التدخل الاداري الحكومي المرتبك سواء على مستوى ادارة نظام البطاقة التموينية او توزيع الوقود من منافذ التوزيع والمحطات الرسمية،ادى الى تقلبات سعرية مجهولة الاتجاه ولدت اسواقا سوداء او رمادية فاقت قدرة الاقتصاد الوطني والمواطن على التحمل.فنتائج المسح السريع الذي اجراه الجهاز المركزي للاحصاء في منتصف هذا العام اشرت ان اسعار الوقود والمحروقات باتت تستهلك ما بين 30 – 60% من الدخل الشهري القابل للصرف للمواطن العراقي.علما ان الرقم القـياسي لاسـعار الوقود والاضـاءة بلغ في شهر تموز من العام 2006حوالي (173516) نقطة مقابل الرقم القياسي لاسعار المستهلك البالغ (18577) نقطة.أي ان اسعار المحروقات والاضاءة فاقت الرقم القياسي لاسعار المستهلك بعشرة اضعــــــــــــاف (100= 1993 سنة الاساس) .
– ان توقف انتاج الكثير من المنتجات المحلية الصناعية ، والزراعية وغيرها ممن تتمتع بالقدرة التنافسية والميزة المقارنة في التجارة الخارجية لانخفاض اثمانها النسبية ، ادى الى احلال مثيلاتها المستوردة من منافذ دولية واقليمية على وفق الاسعار العالمية لها،مما رفع الرقم القياسي للسلع المتداولة في السوق المحلية الى مستوياتها السعرية الدولية وهو الامر الذي افقد المنتج العراقي ميزة ما يسمى wide price level disparities مع بلدان العالم والذي كان سائدا لمصلحة بعض منتجات نشاط الانتاج المحلي في العقود البعيدة الماضية.
– اخذت اسعار الخدمات المحلية تلاحق اسعار السلع المحلية والمستوردة بصورة مذهلة وتتطابق معها ، بعد ان كانت تتباطىء lagged لسنوات عند ملاحقتها لاسعار تلك السلع 0 وعلى هذا الاساس بدأت الخدمات تتزايد اسعارها بمستويات تجارية commercialized وعلى رأسها خدمات الايواء وايجار الدور السكنية.موضحين ان نقصا حادا في الطلب على وحدات السكن يمثل الاساس في تكوين الظاهرة التضخمية والذي تمثله فجوة السكن البالغة (2) مليون وحدة سكنية حاليا ترتفع الى (4) ملايين وحدة سكنية على وفق تعريف العائلة والسكن اللائق.
3 – السياسة النقدية في مواجهة التضخم
وعلى الرغم مما تقدم،ترى المدرسة النقدية في استمرار الحالة التضخمية الراهنة وتأصلها في الاقتصاد الكلي على انها ظاهرة لايمكن تحققها الا بوجود سيولة نقدية عالية تحول التضخم من قدراته الكامنة المكبوتة الى مستوياته الحقيقية المطلقة.وبهذا،تعتمد السياسة النقدية في العراق عبر فلسفتها الحالية ما يسمى بالقواعد Rules القائمة على المعلوماتية او الاشاراتية لتوليد الاستقرار في السوق المالية،وهو منهج بديل عن التدخل المباشر في تلك السوق وماقد يتركه من انقسامات وانحرافات غير مرغوبة على فاعلية الوساطة المالية . وتنطلق الوسائل الاشاراتية والمعلوماتية في هذه المرحلة من عمل السياسة النقدية في العراق من مؤشر معدل فائدة البنك المركزي العراقي او مايسـمى بمعـدل السياسـة النقديـة(Policy rate) وهو عبارة عن معدل فائدة تأشيري(كبوصلة ملاحية) تساعد على اطلاق اشارات قوية تؤثر في اتجاهات وتطور هيكل اسعار الفائدة والشروط الزمنية لمكوناته من خلال التسهيلات القائمة SF التي يستقبل بها البنك المركزي العراقي ودائع المصارف والتي يمنح بموجبها البنك المركزي الائتمان المطلوب الى المصارف التجارية كافة. وان جميع مثل هذه الآليات تقع في اطار ادارة السيولة النقدية والسيطرة على مناسيبها عبر تحقيق اهداف تشغيلية Operational Targets تؤدي الى السيطرة على تلك المناسيب،وتصب في نهاية المطاف في مسارات الاستقرار وغاياته القصيرة والبعيدة الأجل في خفض التضخم الى المستويات المستهدفة. وانطلاقاً من هذا المبدأ تعتمد السياسة النقدية قاعدة مركزية تسمى بقاعدة (تايلر-Tayler) التي تفرض على السلطة النقدية رفع اسعار فائدة البنك المركزي المنوه عنها آنفاً عندما يكون الانفاق الكلي في الاقتصاد اكبر من قدرات الاقتصاد الانتاجية وعندما تكون الاسعار خارج نطاق توازناتها.لذا تؤدي السياسة النقدية في اطار تنفيذ عملياتها في ادارة السيولة على وفق مسار تتحدد بموجبه معدلات نمو الكتلة النقدية بما يوازي التدفقات الحقيقية من السلع والخدمات،ليتحقق التوازن العام عبر توازن سوق السلع والخدمات وسوق النقد،اي تحقيق اعلى معدلات نمو مرغوبة في الناتج المحلي الاجمالي بأدنى مستوى من التضخم السنوي الذي لايزيد كسره الطبيعي عادة على 3% سنوياً وهو أمر معروف في مؤشرات الاستقرار الاقتصادية الكلية الدولية.
وهكذا باتت السياسة النقدية في العراق امام مفترق طرق قوي في التأثير على مناسيب السيولة وان من هذه الوسائل التي يعتمدها البنك المركزي هو دخوله كبائع للسندات في السوق النقدية ضمن القطاع المالي بغية السيطرة على تلك المستويات السائلة ومناسيبها في التصدي للظاهرة التضخمية النقدية.
لمـا تقدم،وفي اطار استخدام الوسائل غير المباشرة في السياسة النقدية،فان مزاداً يقـام كل اسبوعـين لحوالات او سـندات البنك المركزي العراقي يسحب بموجبه ( مئة ) مليار دينار،اضافة الى وجود مزاد فصلي يقام كل ثلاثة اشهر يتم بموجبه سحب ( 180) مليار دينار وهو يمثل عملية تسنيد Securitization للديون العامة الداخلية التي بلغت قرابة 5.3 ترليون دينار والتي تعد من مخلفات النظام الاقتصادي السابق في العراق. موضحين ان مـدة استحقاق سندات المزاد الاول هي ستة أشهر،في حين ان مـدة استحقاق سندات او حوالات المزاد الثاني هي سنة واحدة،وان هذين المزادين يتكاملان من حيث فترة الاستحقاق مع مزاد حوالات الخزينة(حوالات وزارة المالية) الذي يقام كل اسبوعين ايضا وذلك بفترة استحقاق هي ثلاثة اشهر.وتقع هذه النشاطات الاقراضية جميعها في اطار ما يسمى بعمليات السوق المفتوحة OMO التي بـدأ البنك المركزي العرقي لأول مرة ممارستها في اطار تفعيل ادواته النقدية غير المباشرة في ادارته للسيولة العامة وصولا الى اسعار فائدة توازنية في السوق النقدية ولاسيما الفائدة الطويلة الأجل وهي غاية من غايات استقرار القطاع المالي وتعميق مستويات نضجه التي تصب تأثيراتها في اتجاهات الاسعار ومستواها العام وتوفر في الوقت نفسه حاضنة قوية للاستقرار وتعد لازمة منطقية في نشاط النمو المستدام في البلاد بما يجعل للسياسة النقدية آثار قوية ومؤثرة على مسارات القطاع الحقيقي.
4 – الحلول والمقترحات(اطروحات في مواجهة التضخم)
اذا كان الاقتصاد العراقي اقتصادا ريعيا يعتمد على موارد النفط في تسيير نشاطاته الاقتصادية وتعظيم الرفاهية الاقتصادية فيه،فان ثمة استطراد يوضح ان السبيل لمواجهة حالة التضخم الراهن يتحقق عبر واحدة من الثوابت المتأتية من تعظيم القدرة الشرائية للدينار العراقي من خلال ربطه بسلة عائدات النفط بدلا من الانشداد الى الحالة الاقتصادية الراهنة.وان تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود لابد من ان يتم عبر مكون وحيد ومستقر معادل للقيمة numeraire وهو الدينار العراقي ضمن ترصين وبناء قيمة الوحدة النقدية العراقية ازاء العملة الاجنبية.اذ بينت التجربة التي مارستها السياسة النقدية في السنوات القليلة الماضية في استخدام وسائلها لتحقيق الاستقرار والتي جاءت نجاحاتها عبر عدد من اشكال المزادات التي يقيمها البنك المركزي العراقي ويتم فيها تداول مختلف الموجودات المالية للسيطرة على مناسيب السيولة النقدية وتحقيق الاستقرار وخفض التضخم.بيد ان مزاد العملة الاجنبية الذي يأتي على رأس تلك المزادات,بات لوحده يمتلك الفاعلية والقدرة على امتصاص الكتلة النقدية المصدرة وبمعدل مرة ونصف المرة خلال السنة الواحدة بدون التأثير على الاحتياطيات الدولية للعراق،مما يعني ان ثمة سيطرة قوية على نمو التدفقات النقدية وتهدئة الضغوط التضخمية من خلال نشاطات سوق الصرف المركزية ودورها في استهداف التضخم.
لما تقدم,يأتي الجواب على ذلك الاستطراد في معالجة التضخم من خلال تقوية سعر صرف الدينار العراقي،بعد الاخذ بالحسبان حقيقة ان التضخم واستمراره في الامد الطويل (مهما كانت مصادره ومسبباته في الامد القصير ولاسيما اهتزازات قطاع العرض supply shocks التي نواكبها حاليا)مصدره في النهاية النمو وتوسع الكتلة النقدية وان خفض التضخم لايتم الا عبر ضبط الظاهرة النقدية وثبات معدلات النمو النقدي على نحو يحقق الاستقرار الاقتصادي الذي هو من مسؤولية السياسة النقدية كما يقول ملتن فريدمان.ولكن مثل هذا الاستطراد في معالجة التضخم من خلال رفع قيمة الدينار العراقي في سوق الصرف لابد من ان يأخذ بالحسبان ما يأتي :
ان الطبيعة غير المستقرة في الطلب على النقود من خلال تحوط الافراد بالعملة الاجنبية وعـد الاخيرة خزين مستقر للقيمة ووسيلة مناسبة لحماية ثرواتهم،ادت بالمجتمع الاقتصادي العراقي الى تبني عادات ادخارية واكتنازية متنوعة لثرواتهم يأتي في مقدمتها المستوى العالي من التحوط بالعملة الاجنبية وهــو الامر الذي عـزز من ظاهرة الدولرة Dollarization بمختلـف اتجاهاتهــا.
فمن المعروف ان التحول من ما يسمى باستهداف الكتلة النقدية الى استهداف التضخم نفسه من خلال استهداف اداة سعر الصرف،يأتي نتيجة عوامل اساسية استندت على طبيعة دالة الطلب النقدي والعوامل المؤثرة فيها وفي مقدمتها توافر مستوى متناسب من النشاطين الاقتصادي والسعري بحيث يجعل نسبة النقود الى الدخل تنمو بصورة مستقرة تتوافق والنمو المالي والاستقرار الاقتصادي الكلي.ونظرا لضعف توافر هذه الاستمرارية سواء في النمو المالي ام في حالة الاستقرار،قـد يلجأ الجمهور في الغالب الى حيازة بدائل من الموجودات السائلة وغيرها في ادارة حقائبهم تأتي على رأس تلــك الموجودات العملة الاجنبية.لذا فان النمو النقدي واية سياسات نقدية تستهدفه بشكل مباشر لابد ان تتآكل وتنحرف عن اهدافها بسبب حالة اللااستقرار وتأثيراتها على دالة الطلب النقدي مما يجعل السياسة النقدية نفسها تعمل بعيدا عن اهدافها المرسومة وان البديل المناسب امامها إزاء هذه الحالة هو استهداف التضخم بذاتــه.
لذا ، فان استهــــداف التضخــم مــــــن خلال استهداف سعر الصرف Foreign Exchange Targeting حتى وان تـم في اطار برنامج معلن للسياسة النقدية يعني ان المثبت الاسمي المعتمد حاليا Nominal Anchor ضمن الاطار النقدي الذي يعتمده البنك المركزي والذي توفره المتغيرات او الاهداف الوسيطة Intermediate targets سيتغير من مستوى الى مستوى اخر وسيترك اثـره باتجاهين:الاول ان التوقعات العقلانية للجمهور ستتأثر حالا من خلال تعاظم درجة الاحلال من الدولار الى الدينار،ذلك لتجنب اية خسائر قدرية محتملة Wind full Losses والآخـر فان نظام سعر الصرف سيكون نظاما اكثر مرونة من وضعه الحالي وسيعمل باتجاه الصعود التدريجي لمصلحة الدينار العراقي Flexible upward .
كما ان احتمال فزع الجمهور Panic بالتخلي عن موجوداتهم من العملة الاجنبية فورا ولمصلحة الدينار العراقي والاحتفاظ بالدولار الحدي حسب، يعني ان هناك حالة هلع مضادة للدولرة Dedollarization لمصلحة الدينار Dinarization . وان مثل هذا السلوك سيضع السياسة النقدية امام حراجة النمو المفاجيء في الكتلة النقدية بسبب سرعة الاستبدال او الاحلال النقدي المشار اليه آنفا وهو امر سيعمل باتجاه معاكس لتحقيق هدف الاستقرار ولاسيما في الفترة القصيرة او المتوسطة مولدا ضغوط تضخمية نقدية قـد تخفف من وطأتها،بالتزامن،حالــة الارتفاع الشديدة في الطلب على النقد بالدينار العراقـــي.
واخيرا وبغية الحفاظ على الرفاهية الاقتصادية للمجتمع من خلال توافر اداة نقدية مستقرة فضلا عن اهمية الحفاظ على ثروة الجمهور المعرفة بالموجودات الاجنبية وحماية تعاقداتهم المختلفة وتعظيمها بما بتناسب والهدف المنشود من رفع سعر صرف الدينار العراقي وخفض التضخم،يقتضي توافر ادوات اضافية في وسائل السياسة النقدية تعد جوهرية في توفير التحوط اللازم للجمهور وتضفي في الوقت نفسه استقرارا على دالة الطلب النقدي وتجنب الافراد اية خسائر ازاء حصول مفاجآت ضارة ناجمة عن تغيير نمط واهداف السياسة النقدية وتحويل الاقتصاد العراقي من حالة التخبط في ظاهرة تضخمية متأصلة في مكوناته وتفاصيله الى مناخ اقتصادي مستقر يوفر الازدهار والتفاؤل والنمو بصورة اكثر وضوحا وفق اشتراطات المرحلة القادمة.
قدمت هذة الورقة في ندوة “التضخم ودور السيسات المالية والاقتصادية” التي نظمها المركز العراقي للاصلاح الإقتصادي في يوم السبت الموافق 30/9/2006 في بغداد
لنزيل الملف بصيغة بي دي أف
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية