تأملات في البداوة السياسية:
الجزء الثاني : ثرثرة فوق النيل
د.مظهر محمد صالح
الليلة اكذوبة بما هو نهار سلبي !! هكذا عبارة قالها نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل وهي العبارة الشامخة التي ستظل موفرة لواحدة من الحقائق السياسية المهمة في حياة الامة مصرية، حيث يمضى الرئيس ليلته الاولى في سجن (طرة) و يالها من ليلة! انها ليلة استيقظ فيها الرئيس من نومه العميق وهو في زنزانته في السجن…… مطلقا صرخته المدوية : ( نحن لم نتفق على ذلك !!!) وقد اجاب الشارع المصري كله في يومها ((ميهمش يا ريس!!!)) ولا احد يعرف مع من كان الرئيس مبارك متفقاً! ولااحد يعلم سر ذلك الاتفاق وكيف نكثت الوعود!
كان وصولي الى قاهرة وقضائي ليلتي الاولى فيها مفارقة حادة في تاريخ مصر السياسي . انه يوم 4 حزيران 2012 وهو اليوم التالي لليلة التي امضى فيها الرئيس يومه الاول في سجن (طرة) وانها بالتأكيد الليلة الاولى التي سأمضيها في مصر لاستقبل في اليوم التالي الذكرى 45 لحرب 5 حزيران 1967 تلك الحرب التي غزت فيها اسرائيل اراضي ثلاثة دول عربية في حرب خاطفة لم تدم الا اياماً قلائل بدأت صباح الخامس من حزيران من العام 1967 وسميت بحرب الايام الستة وهي الحرب التي احتلت فيها اسرائيل كامل شبه جزيرة سيناء المصرية والمدن الرئيسة فيها اضافة الى هضبة الجولان السورية والضفة الغربية من فلسطين . وذكرتني تلك الحرب بحجم الصرخة التي اطلقها الرئيس المخلوع حسني مبارك عندما صحى من نومه بعد ان قضى ليلته الاولى في سجن طرة وهو يقول نحن لم نتفق على ذلك ، كي اقول بنفسي : هل الساسة العرب لم يكونوا متفقين على ذلك !! عندما استيقظوا جميعاً من غفوتهم صبيحة يوم 5 حزيران 1967 ليجدوا اراضيهم ومدنهم حبيسة الاحتلال الاسرائيلي … لاندري !!!
كانت اقامتي في فندق فاره في جزيرة القاهرة حيث احتلت غرفة نومي الطابق التاسع عشر لتطل على قلب النيل في تلك البقعة الرائعة وامامي في وسط النهر نافورة مياه اصطناعية تزينها الاضواء ليلاً وعندما تسائلت عن سر تلك النافورة الغريبة اخبرني صاحبي الذي استقبلني بقلبه المنفتح وكرمه الاصيل ليسرني عن مغزى النافورة التي تتوسط مجرى النهر ، ذاكراً انها الغطاء الشكلي لحجرة العمليات العسكرية التي تغطس تحتها و التي قادت الى انتصار مصر في حرب 6 اكتوبر – تشرين الاول – 1973 ضد اسرائيل . و اصبح الجميع يعرف اليوم سر تلك النافورة في وسط النهر والحجرة التي تحتها والممر السري الممتد الى الضفة اليمنى حيث منزل الرئيس الاسبق انور السادات . انها النافورة التي تحمل رمزيات كثيرة في حياة مصر السياسية وحجرة العمليات التي تحتها التي ادارت ارادة مصر في الحرب والنصر والسلام وعادت سيناء الى حضيرة مصر .
تركت فندقي في المساء نفسه لاقضي بعض الوقت قبل ان استلق في فراشي . انها ليلتي الاولى في القاهرة وهي الليلة الثالثة التي يمضي فيها الرئيس حسني مبارك ايامه في سجن طرة .
توجهت مع صاحبي الكريم الى كورنيش النيل في قلب القاهرة وهو الجانب الايمن من النهر حيث كان يسكن الرئيس انور السادات والى جانب داره كان هناك اصطفاف جميل من العمران المطل على النيل . وامضيت ساعات رائعة في مساء ذلك اليوم وانا اتطلع من المقهى الذي جلست فيه ،وامامي تدفق النهر الذي يسير في مجراه عكس انهار العالم كما تقول الجغرافية الوطنية ، وفي مخيلتي حضارة مصر وتاريخ وادي النيل العريق . و تذكرت وانا اراقب مجرى النهر وسريان مياهه،كم هو طغيان الامبراطورية الفرعونية؟ والآية القرآنية التي تقول : ( .. ان فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) وقد اجابني نجيب محفوظ في ثرثرته فوق النيل وهي اجابة مازالت محفوظة في ذاكرتي وتصف الطغاة هي الاخرى قائلة: لم يكن نيرون وحشاً ولكن عندما وجد نفسه امبراطوراً قتل (امه ) فلما صار (إلهاً ) احرق روما .. وقبل ذلك كان مجرد انسان عادي عشق الفن !!.
لفت نظري وانا اتطلع الى امواج النيل ومياهه المتدفقة العالية في هذا الموسم من السنة ، ان ثمة قوارب نهرية متوسطة الحجم تقترب بصورة متكررة من حافات مقهانا . وان كل قارب كان يضم عدداً محدوداً من الأسر او العائلات المسحوقة ممن اكل عليها الدهر وشرب وهم يطلبون العون او الصدقة ،حتى و ان كانت من فتات موائدنا في ذلك المقهى الشاسع الذي كنا رواده في تلك الليلة او غيره من المكانات المطلة على الماء ،التي يرتادها عادة الميسورين والطبقة الوسطى المصرية والسياح او غيرهم. وسألت صاحبي الكريم الذي يقيم في القاهرة منذ سنوات بعيدة عن هذه الظاهرة في التعاطي الانساني ، فأجابني ان تلك القوارب (المتحركة) تحمل على ظهرها قوى بشرية مسحوقة من سكان مصر ، تفترش النيل وتعيش وتتقلب على ظهر النهر في قواربها … انها حياة متحركة تماثل حياة البدو الرحل في الصحراء في رحالها وترحالها ولكن اسمها هذه المرة المياه وليس الرمال. انها تتعاطى بعض الصيد وتكابد من اجل البقاء . انها عائلات تقضي ايامها ولياليها بصورة متواصلة في ممارسة العيش والحياة في هذه القوارب (انها جمال فوق الماء) تسير بالعشرات ان لم تكن بالمئات وعلى نحو لاينقطع و ان الليل والنهار لديها سواء!!!
انها اعداد غفيرة وسلاسل طويلة من تلك القوارب التي لم تنته وهي تكابد من اجل البقاء حتى غادرنا مقهانا ، انها حقا اسر منهكة تعج بها مياه النيل في حياة عائمة تصارع بلا هدف من اجل البقاء تتحرك مع التيار او ضده على سطح النيل واعماقه تغتسل فيه وتروي عطشها منه وتتطلع الى المجهول وان مثل هذه العائلات قد ندركها : على انهم مصريون ، انهم عرب ، انهم بشر، ثم ربما انهم مثقفون ، فلا يمكن ان يكون هناك حد لهمومهم ، .. وقد يجيبوننا : الحق اننا لامصريون ولا عرب ولابشر ، نحن لاننتمي لشيء الا لهذا القارب (او العوامة) المتحركة !نحن نستمر حتى يسحقنا اللاشيء! .
يا لها من مفارقات مؤلمة في ليلتي الاولى ، انها الليلة التي سيمضي فيها الرئيس حسني مبارك يومه الاخر في سجنه ( الثابت ) غير المتحرك في طرة وهو خارج النيل حتماً ويصارع من اجل البقاء بلا امل وهو يشترك هنا سوية مع عوائل مصر الفقيرة التي تمضي ايامها ولياليها في سجونها ( المتحركة ) او قواربها التي افترشت سطح النيل . وفي ثرثرتي وانا اتحرى البداوة السياسية فوق النيل ، قلت في نفسي بأي حال سأقضي ليلة مختلفة عن هؤلاء جميعاً ؟ انها غرفة فارهة حقا في فندقي المطل على وسط النيل وحافات جزيرة القاهرة ! انها مفارقات اثارت في نفسي ثرثرة التي لم يحض بها في تاريخ مصر الحديث الا الروائي الراحل نجيب محفوظ في رائعته ثرثرة فوق النيل !
لقد اصابني شيء عظيم من الحزن في ليلتي الاولى وانا في فراشي الوثير ونافذتي المطلة على ضفتي النهر ، وقد تسائلت في نفسي ماذا يعتمر صدرك في هذه اللحظات ؟ اجبتها بهدوء وغضب النيل الصامت نفسه هو حزني على فقراء مصر وكل الاسر الموعزة الهائمة على سطح نهرها العظيم ، وتفترش قواربها امواجه وهي تقضي ايامها ولياليها متحركة او ثابتة بلاهدف تبحث عن الامل المفقود !
فالكل يقضي ايامه ولياليه على طريقته الخاصة في صراعه من اجل البقاء ويحدوها شيء من الامل الا تلك الاسر البدوية الهائمة فوق المياه فأنها تكابد الحياة في طريقة عيشها تبحث فيها عن اليابسة التي لم تجدها الا في معاقلها او قواربها التي هي اشبه ما تكون بالسجون ولكن سجون(متحركة) .
انهم فقراء مصر ( البدو الرحل في قواربهم ) تحركهم المياه ذات الشمال وذات اليمين بعد ان تركهم طغاتها ليقبعوا اليوم في سجونهم ( الثابتة ) في طرة خارج النيل بلا وفاء . في وقت مازلت اقض ايامي في فندق رائع امام النيل ولكن احمل هموماً وخواطر هما حبيسان سجن كبير في نفسي ( ثابت اومتحرك ) في آن واحد اسمه الانسانية المعذبة .
لم اجد في همومي وخواطري الا ان ابحث عن سبيل كي انتصر لفقراء مصر الذين اهدتهم ثورتهم في 25 يناير كانون الثاني 2011 رئيساً مسجوناً مدى الحياة في سجن (ثابت) ولكن ابقت لهم سجونهم (المتحركة) عائمة فوق النيل بلا امل. فالقوة التي تسخرهم للاشيء هي اقوى من القوة التي تسخرهم لأشياء !.
انها ثورة مصر ، فهي ليست الثورة الفرنسية كي تأكل رجالها ، بل انها الثورة في عصر الديمقراطيات البدوية السائبة، فهي تأكل فقرائها قبل ان يلتهما رجالها : انك ستسمع وعلى الدوام من يصرخ في تلك القوارب، وحتى قبل ان يصرخ الرئيس في سجنه صرخته المدوية المشهودة، قائلين:
نحن نستمر في قواربنا المتحركة حتى يسحقنا اللاشيء !انه غياب في انسجام شامل وان الخوف الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت!انها ثرثرة اخرى فوق النيل!.
انتهى
أعزائي
مقالة جميلة من الزميل الدكتور مظهر ويا ليته أيضاً يكتب مقالا آخر بعنوان
ثرثرة على دجلة الخير الذي كان وعلى فرات الماء الناضب
البداوة السياسية التي يشير إليها الدكتور مظهر قائمة في كل مكان من بلادنا والأقطار العربية وهي سمة سياسية وسوسيولوجية شبه مستقرة عبر الازمان لدينا اكتشفها ابن خلدون وحللها لمجتمعنا العراقي الدكتور علي الوردي وأضاف إلى قوتها وديمومتها مجتمع الريع النفطي
تحياتي لكم وتقديري لشخوصكم الكريمة جميعا
فاضل عباس مهدي
On Monday, November 19, 2012, Iraqi Economist Network wrote:
الجزء الثاني من مقال الزميل د. مظهر حول البداوة في السياسة
مع اطيب تحياتي
بارق شبر
—–Ursprüngliche Nachricht—–
Von: mudher.kasim@cbi.iq [mailto:mudher.kasim@cbi.iq]
Gesendet: Sonntag, 18. November 2012 14:29
An: Barik.Schuber
Betreff: ثرثرة فوق النيل
الدكتور بارق المحترم
مع فائق التقدير
مظهر