أطلت علينا ً استراتيجية الطاقة المقترحة بعيدة المدى (لغاية عام 2030) بملخص نشر حديثاً. ولأول مرة نجد هكذا إنجاز وطني مميز ورائع من قبل خبراء في الطاقة يتبنون هكذا مشروع لمعرفة المسار المستقبلي للثروة الهيدروكاربونية التي يتميز بها العراق وباحتياطي كبير.
ويبدو من خلال قراءة سريعة لأهم ما جاء فيها من عناصر ورد تلخيصها في مقال باللغة الانكليزية عن الاستراتيجية الوطنية للطاقة للأستاذ الفاضل د. علي مرزا بعنوان Iraq’s National Energy Strategy, Oil & Gas production, Diversification, and Employment والمنشور في مجلة MEES(*) في 12-8-2013، انه على الرغم من وضع سيناريوهات متفائلة ووسط ومتحفظة في حجم الانتاج النفطي المستقبلي لغاية عام (2030) لكنها تركزت على مشاريع الصناعة النفطية في الاستكشاف والاستخراج بالدرجة الأساس وعلى تصدير النفط الخام بوتيرة متصاعدة لتصل في عام (2030) إلى 9.5 مليون برميل يومياً. لقد وضعت الخطة بشكل يبعث الأمل والاطمئنان في مستقبل زاهر ويفرح القلوب لما سيجنيه العراق من ثروة هائلة في المستقبل، والأكثر من ذلك ما تضمنته الخطة في استغلال الغاز الطبيعي والغاز المصاحب الذي كان يُحرق جزء مهم منه هباءً وتحترق قلوبنا معه منذ بداية الإنتاج النفطي الواسع عام (1928) لِحد الآن. وسيتم تجميعه وتوزيعه لتزويد محطات توليد الطاقة الكهربائية ومصانع الحديد الإسفنجي والصلب والألمنيوم (المخطط لإنشاءهم في المستقبل) والطابوق والإسمنت والصناعات البتروكيمياوية (كلقيم لإنتاج المواد البتروكيمياوية الأولية منها) وتزويد البيوت بالغاز السائل كاستهلاك محلي للمواطنين وتحلية مياه البحر في البصرة وغيرها، ويمكن أن يُصدّر الباقي بواسطة الأنبوب المزمع إنشاءه من قبل دول الخليج عبر تركيا أومن إيران عبر سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط في المستقبل أو مد أنبوب مستقبل لصالح العراق.
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية المستقبلية للطاقة وضعت لتزيد من خزينة الدولة وأنها ستكرس نحو السياسة الاقتصادية الريعية الاستهلاكية بالاعتماد على مبيعات النفط الخام وعلى النمط الاشتراكي الشمولي الذي كان سائداً قبل عام (2003) وتشير بأن القطاع الحكومي العام سوف يتولى هذه المهمة بالكامل عن طريق التعاقد مع الشركات الاجنبية المتخصصة، إلا أنها لم تضع خطة متكاملة من أجل تنمية القدرات الذاتية المحلية أو تشجيع ودعم القطاع الخاص في الاستثمار من خلال إنشاء شركات خدمية للمساهمة في عملية بناء صناعة نفطية بكافة مرافقها المطلوبة، خاصة وأن العراق كان من أوائل الدول في المنطقة التي باشرت بالإنتاج النفطي في القرن الماضي، وتولدت لدينا خبرات متراكمة وكادر متقدم بكافة المجالات النفطية من استكشاف واستخراج وتصدير وإنتاج مشتقات (تكرير) وصناعات بتروكيمياوية إلى عمليات تصنيع معدات خدمية مساعدة.
لقد تشكلت مئات الشركات الخدمية في دول الخليج النفطية، وكان قسم منها قد تقدم للمساهمة في عمليات الصناعة النفطية ضمن عقود التراخيص النفطية الأخيرة لدينا. أن الاعتماد المفرط على الشركات الأجنبية في تسليم المفتاح لكل صغيرة وكبيرة سوف يضّيع الفرصة أمام المجتمع لبناء نفسه والتقدم التقني في المستقبل.
إن عملية تصدير النفط وجني الأموال لوحدها سوف يقود حتماً إلى تكريس الاقتصاد الريعي أُحادي الجانب، ويعمل بالضد من المسار الديمقراطي المنشود. كذلك لم يشار في الخطة الستراتيجية عن وضع أسس التعاون المطلوب في الصناعة النفطية بكل أبعادها مع البلدان الإقليمية (الشرق أوسطية) النفطية، ولا السبل الكفيلة بالاندماج بالاقتصاد العالمي المطلوب مثل عملية الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وغيرها. أن عملية التعاون وحتى الشراكات في الاستثمار في المجال النفطي ستصب لمنفعة كل الأطراف، ولإنهاء حالة العداء والتقاتل على الحدود وبناء أساس رصينة للسلم الاجتماعي داخل البلدان نفسها وفي المنطقة عموماً لوجود عامل اقتصادي مشترك بينهما. فكما توحدت ألمانيا من خلال التعاون في صناعات الحديد والصلب في القرن التاسع عشر وكما تشكل الاتحاد الأوروبي من دول وقوميات ومذاهب متعددة من خلال التكامل الاقتصادي المطلوب ضمن المسار الاقتصادي في سياسة العولمة الحديثة. لذلك لا بد من إيجاد السبل الكفيلة بوضع خطط للتكامل الاقتصادي مع دول المنطقة كافة كي نضمن النجاح الاقتصادي للمشاريع النفطية بكاملها والتي ستقود نحو سلوك سياسي واجتماعي متطور.
ولا أريد أن أناقش هنا مدى إمكانية تطبيق مقترحات الستراتيجية الوطنية للطاقة بتفاصيلها والوضع العالمي للنفط الخام والمشاكل التي قد تنشأ مع منظمة أوبك بسبب الزيادة المتصاعدة لحصة العراق في تصدير النفط، وكيفية تأمين المنافذ للتصدير وعمليات التخزين والفعل وغيرها، وأترك ذلك لغيري من الخبراء المتخصصين، ولكن أود أن أبدي ملاحظاتي المتواضعة عن تأثير هذه الاستراتيجية الوطنية على المسار الديمقراطي المنشود، وعما ستؤول إليه من بيع النفط الخام وإذا ما أضيف إليه كمية من الغاز الطبيعي للتصدير أيضاً والغاز دون تنويع مصادر الثروة وإيجاد خطة لتقليص الاعتماد عليهما. لقد تقلصت نسبة مساهمة الإيراد النفطي في دول مجلس التعاون الخليجي في مجموع الميزانيات السنوية لتلك الدول إلى (60%) حالياً بينما وصلت النسبة إلى (35%) في دولة الإمارات العربية لوحدها، ولدى المجلس خطة مستقبلية في العمل على تقليص هذه النسبة إلى (20%) عام (2030) ولم نجد هذا النهج مطبقاً لدينا حالياً، ولا تشير الستراتيجية المشار إليها لذلك على الرغم من أن الموضوع يدخل ضمن اختصاص آخر وفي خطة البلد الاقتصادية المتكاملة. حبذا لو امتدت استراتيجية الطاقة هذه إلى فترة أبعد من ذلك إلى الحد الذي سينفذ فيه المخزون النفطي العراقي، فطالما أصبح الاحتياطي النفطي معلوماً (بحدود 150 مليار برميل والمؤكد في السابق 112 مليار برميل)، وتم رسم معدل الإنتاج اليومي بحدود 9.5 مليون برميل يومياً عام (2030) يصبح بذلك من السهل احتساب المدة التي سيستخرج فيها آخر برميل نفط أو على أقل تقدير يمكن معرفة الفترة التي سيهبط بها الضغط (القوة الدافعة إلى الأعلى) في المكامن النفطية العراقية للحد الذي تصبح فيه عملية الاستخراج مكلفة جداً، وبالتالي يمكن التصرف بحكمة أكبر في كيفية صرف الأموال المستحصلة سنوياً من بيع النفط الخام، وكذلك يمكن وضع خطة استراتيجية بعيدة المدى، ومن الآن لإيجاد البدائل والتهيؤ لعالم ما بعد النفط لدينا دون أن تحصل كارثة كبيرة بحق الأجيال القادمة، عند ذلك فقط سوف يُنشأ ويتجسم الشعور بأن كل برميل نفط يستخرج من باطن الأرض لن يعوض، ولا بد من وضع خطط مستقبلية كفيلة بتجاوز مرحلة تقلص المخزون النفطي إلى حدود متدنية. ولا بد أن تصرف المبالغ المتأتية من تصديره في عملية التنمية المستدامة وبناء الإنسان القادر أن يتخطى مشاكل المستقبل دون الاعتماد الكلي على الإيراد النفطي. كذلك يمكن السعي والتخطيط من الآن لبناء محطات توليد الطاقة الكهربائية من الطاقات الجديدة والمتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها أسوة بما يجري في بقية بلدان العالم الآن، ولا بد من شمول اهداف استراتيجية الطاقة بمراكز بحوث علمية وإنشاء مراكز للبحث والتطوير بكافة المجالات النفطية بالاستعانة بالخبرات الأجنبية المتقدمة لزيادة القدرات المحلية الذاتية في إيجاد منافذ أخرى للثروة الهيدروكاربونية عدا عمليات الحرق لتوليد الطاقة والتي قد تتعرض إلى هبوط ملحوظ في الطلب عليه عالمياً بسبب تزايد مصادر الطاقة الأخرى والتطور التكنولوجي السريع الحاصل في التقليص من استخدام النفط لإنتاج الطاقة كوقود لوسائط النقل كالسيارات التي بدأت تصاميمها تعتمد على تقليص استهلاك البانزين بشكل ملحوظ، أو تسييرها ببدائل أخرى كالبطاريات الكهربائية أو الهيدروجين أو الكحول المستخرج من المنتجات الزراعية… إلخ.
آثار الاقتصاد الريعي على عملية التحول الديمقراطي:
إن عملية التحول الديمقراطي بجانبها الاقتصادي – الاجتماعي الشامل والتي تبقى مستمرة لتحقيق مستويات حضارية أعلى لا تتوقف عند حد صناديق الاقتراع وكتابة الدستور والفصل بين السلطات وإعطاء بعض الحريات كالصحافة والتظاهر وغيرها، وحسب بل تتعدى ذلك لكونها مشروعاً حضارياً هدفه تنمية الإنسان باعتباره الغاية والوسيلة في سياق تحقيق مسيرة وطيدة ومتصاعدة للتنمية الحضارية المجتمعية الشاملة. ولدينا أمثلة عديدة لبلدان نامية حديثاً كانت متخلفة ولا تمتلك ثروات معدنية في باطن أراضيها، بينما أصبحت في مصافي الدول المتقدمة حضارياً، وتفوقت في ميزانيتها السنوية المتأتية من جهود مواطنيها ونهجها في المسار الديمقراطي السليم إلى مستويات أعلى من البلدان المصدرة للنفط المعتمدة في اقتصادها الريعي على بيع النفط الخام بأضعاف مضاعفة. أن عملية التحول الديمقراطي هذه تبدء عادة بخطوات تدريجية لتحتل مكانتها في مرحلة تالية من حيث العمق والشمولية على مستوى المجتمع. أن السياسة الاقتصادية المتبعة حالياً في العراق تكرس في الصرف المفرط من الميزانية السنوية على الميزانية التشغيلية (النفقات الجارية) وتعمل على زيادة الترهل الوظيفي وزيادة في الرواتب دون إنجاز ملموس مقابل ذلك، وكأن الدولة أصبحت جمعية خيرية وحتى دون توزيع عادل للثروة. (ناهيك عن أن هذه السياسة تقود حتماً إلى زيادة الروتين الحكومي الطارد للاستثمار وإلى الفساد الإداري). لقد فشلت الأنظمة السابقة والحالية في بناء الأنشطة الإنتاجية كالصناعة والزراعية على النمط الاشتراكي العام، وأصبحت نسبة مساهمة الأداء الصناعي حالياً في الناتج المحلي الاجمالي لا يتعدى (2-3%) رغم كل الصرفيات والجهود المبذولة في بناء الصناعة (بصرف النظر عن الظروف غير الطبيعية التي مرت على العراق).
إن ذلك يدعو للتخطيط السليم نحو تبني سياسة “اقتصاد السوق” كما نص على ذلك الدستور الحالي، ولا بد من تأهيل القطاع الخاص بكل الوسائل والسبل الكفيلة للصعود في بناء اقتصاد متنوع وتقليص الكادر الحكومي بحيث يقتصر على جعل السلطة التنفيذية كمنظم ومراقب ومسئول عن حماية أداء المجتمع الاقتصادي والاقتصار على المشاريع الصناعية التي لا يستطيع القطاع الخاص من الولوج فيها حالياً. ولا بد أن يكون التخطيط الحكومي مرتكزاً على إعادة بناء البنى التحتية المتكاملة للصناعة والزراعة والخدمات وتوفير الأمن والاستقرار واعتماد استراتيجة التربية والتعليم كأولى أولويات التنمية المستدامة . لقد فشلت الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى الآن بسبب قصورها في تبنى التحول الديمقراطي الحقيقي الذي يتبنى التعددية السياسية كإحدى الوسائل الكفيلة بحصول القناعة لدى الجميع لأجل بناء الوطن على أسس من التعايش السلمي ونبذ العنف بكل أشكاله، وكان من أسباب ذلك الموروث التاريخي المتأصل في الاستحواذ على السلطة والفكر الشمولي في الاعتقاد المطلق بامتلاك الحقيقة الكاملة والتعامل معها بمثابة آيات دينية واعتبارها ذات قدرة كاملة على حل المشاكل المجتمعية والدواء الشافي لكافة الأمراض المجتمعية.
لم يكن هذا الفشل يخص فئة معينة أو شخص معين ولكن هذا يعني فشل المجتمع برمته للوصول إلى المستوى اللائق. لقد عاش العراقيون لفترات طويلة من الزمن تحت حكم الدكتاتورية والاستبداد وسياسة الاقتصاد الأحادي الجانب، وتولدت حالياً قناعة لدى كثيرين بأن مصدر الرزق الوحيد يأتي من الوظيفة الحكومية التي تضمن لهم مستقبلاً من خلال التقاعد بعد خدمة محددة في الدولة. ويتطلع الكثيرون في البناء والإعمار على الحكومة الحالية ويرجون من الله ظهور منقذ مخلّص لكل المشاكل تتمثل في رئاسة الوزراء أو الحاكم الأعلى المسئول دون الاكتراث بالتعويل على المؤسسات المستقلة في ظل بناء دولة المؤسسات.
وإذا كان في خطة الحكومة الحالية تلبية هذا الطموح مستقبلاً عن طريق توفير فرص عمل تقتصر على التوظيف الحكومي المتأتي في الغالب من الإيراد النفطي كما جاء في استراتيجية الطاقة الوطنية التي أشارت إلى إيجاد فرص عمل لعشرة ملايين مواطن عام (2030) بعد أن يصبح نفوس العراق (52.8) مليون نسمة وسوف نستورد عمالة من الخارج بمقدار 1.6 مليون نسمة (كما جاء في اسقاطات د. علي مرزا في مقاله المشار أليه) ويكون جزء ملموس منها ضمن درجات وظيفية تستحدث ضمن الميزانية السنوية فذلك يعني أن جزء غالب من المجتمع سيستمر بالاعتماد على ميزانية الدولة. وإذا كانت الميزانية التشغيلية تمثل حالياً (70%) من الميزانية السنوية تُرى كم ستبلغ النسبة هذه عام (2030) إذا ما استمر نهج السياسة الاقتصادية للبلاد دون تغيير جذري؟
أن التخطيط بهذا الاتجاه سوف يتضارب مع المسار الديمقراطي المنشود حتماً. وسوف يكرس من التهافت والاستحواذ على السلطة بكافة الوسائل المتاحة، بما في ذلك استخدام العنف وهكذا سيتولد الاستبداد من جديد وتتراجع الحريات والتعددية السياسية والتي هي إحدى أهم أركان تطبيق المسار الديمقراطي الصحيح. أن المدخل لحل أزمة الاستحواذ على السلطة يكمن في تكريس مقولة أساسية هي الاختلاف في الرأي وأن يستقر في وجداننا جميعاً أن لا أحد يمتلك الحقيقة. ولا أحد يستطيع من فصل الخطاب لصالح الأغلبية.
وهذا يعني الإقرار بحق الاختلاف في الحياة العامة وجدية النقاش. هذه هي التعددية التي تعني في الحياة العامة: “حق كل مجموعة من الناس أن تتفق في رأي معين، وأن تعبر عن هذا الرأي من خلال الوسائل السلمية التي تراها والتي يستطيع غيرها من المجموعات أن يراه، طالما أن المجتمع يطيق وجود هذه المجموعات ضمن مكونات المجتمع ككل ويقر في وسائلها في التعبير عن رأيها”. وهذا هو الأصل في حق تكوين الأحزاب، والحق في التعددية الحزبية. من هنا جاء القول “ن غياب التعددية السياسية هو المظهر الأساسي لأزمة الديمقراطية”، وأن الخطوة الأولى لمعالجة الأزمة هي الإقرار بحق الاختلاف في الرأي، كما أن التوعية بحقوق الإنسان الأساسية من ناحية والدفاع عنها من ناحية أخرى والتصدي للعدوان عليها من ناحية ثالثة أمر جوهري يستحق أن يكون محور نضال المثقفين لمواجهة أزمة الديمقراطية.
أما الأحزاب السياسية والتي تعرّف: “بأنها منظمة جماهيرية للأفراد في سياق انتماءاتهم الفكرية الطبقية، تقوم على أفكار أيدولوجية موحدة تجسد أولويات مجتمعية محددة، وتوفر العمل المشترك في إطار المنافسة السياسية، وتبغي الوصول إلى السلطة من أجل أحداث تغييرات اجتماعية متميزة وفق تصورات مستقبلية مرسومة”. من هنا يتميز الحزب السياسي عن غيره من التجمعات السياسية السائدة في الساحة العراقية حالياً بأن الأحزاب السياسية ظهرت على خط متوازي مع تطور المسار الديمقراطي في البلدان المتقدمة كونها ممثلة لمصالح وطموحات طبقة معينة في المجتمع في حين ظلت أحزاب عديدة في دول العالم الثالث مؤسسة وفق معايير شخصية أو قبلية أو اثنية.. إلخ. بالإضافة إلى أن أحزاب هذه الدول اتسمت كونها جزئياً سياسة وجزئياً عسكرية. كذلك وبحكم النظم الدكتاتورية المانعة للحريات السياسية فقد انتشرت الأحزاب السرية (الباطنية) التي اتخذت من العمل السياسي السري أسلوباً ومنهجاً وبنية داخلية. ورغم تولي بعض من الأحزاب السياسية التي كانت تعمل تحت الأرض (سرية) زمام السلطة التنفيذية فإن البيئة التي ولدت فيها تلك الأحزاب كانت بيئة طاردة للقيم والمفاهيم الديمقراطية خاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان والتعددية والانتقال السلمي للسلطة والنظرة النسبية لأمور الحياة الدنيوية.. مقابل ذلك تسود هذه البيئة لغة القيم المثالية المطلقة وممارسة العنف المطاردة ومشاعر الخوف والقلق والتحديات والصراعات والحقد والكراهية… وكلها تتجمع وتتراكم على مرّ الزمن للتوجه نحو تحقيق هدف يتيم يعلو على كل أهدافها وهو عدم انكشاف المنظمة الحزبية على الأجهزة المخابراتية الحكومية والحفاظ على وجودها واستمرارها. لقد عاشت تلك الأحزاب لفترة طويلة من الزمن في بيئة مليئة بالرعب يطغى هذا الوجود على كل وجود آخر ويصبح هدفاً قائماً بذاته. أن الظروف الصعبة التي تأسست فيها تلك المنظمات الحزبية السرية ستلقى بظلالها من حيث تدري أو لا تدري على سلوكها وأهدافها المستقبلية حتماً وهذا ما خبرناه في سلوك حزب البعث الذي حكم العراق لأربعين عاماً كانت من أسوء الفترات على الإطلاق. وكيف نتوقع أن تنشأ أحزاب سياسية تمثل طبقات المجتمع وتتحسس طموحات وتطلعات تلك الطبقات المستقبلية في ظل ظروف من القهر والتسلط عاشها العراق لحقبة طويلة من الزمن خاض فيها ثلاثة حروب مدمرة، وأصبح جزء كبير من الشباب متدرباً على القتال والحياة العسكرية (ولا يزال لحد هذه الساعة تسود مظاهر التسلح والاقتتال وتنتشر المليشيات والمنظمات السرية). فكيف يمكن لنا أن نتصور من حكومة تكرس الاقتصاد الريعي وتجعل ما يزيد عن نصف المجتمع معتمداً على الرواتب الحكومية في معيشته ومستقبله ونتوقع تأسيس أحزاب سياسية رصينة تسعى لبناء الديمقراطية وتقدم المجتمع، ولديها فلسفة ومنهاج واستراتيجية بعيدة المدى وتمثل طموحات وأهداف طبقية معينة في حين لا توجد طبقة متوسطة (من المثقفين) بمستوى تجعلها قادرة لقيادة ذلك التوجه لحد الآن. ولم ولن يقر قانون الأحزاب السياسية في البرلمان لأن الموروث التاريخي للفئة السياسية المسيطرة حالياً لا زال مقيداً ومتأثراً بظروف العمل السياسي السري في المرحلة السابقة، ومعظم التجمعات السياسية لا تتطابق شرعيتها مع قانون الأحزاب السياسية المعروض على البرلمان. وكيف لنا أن نتصور حصول (تغيير إيجابي ملحوظ في الخارطة السياسية بعد الانتخابات ومعظم أموال البلد تحت تصرف فئة محددة متمسكة في البقاء بالسلطة؟ تستطيع من خلال هيمنتها في التصرف في الثروة الهيدروكاربونية لصالح كسب الأصوات الانتخابية في ظل مجتمع لم يصل في ثقافته بعد أن يمارس الديمقراطية بكل أبعادها؟
خلاصة القول أن وضع استراتيجية وطنية للطاقة بعيدة المدى لا بد وأن يتزامن ويتوافق مع خطة التنمية الوطنية المستدامة والمتكاملة في جميع جوانبها. ولا بد من التخطيط السليم لكيفية التصرف بالإيرادات الخاصة بمبيعات النفط والغاز بحيث تصب في صالح النهوض والتقدم ومغادرة الوضع المتردي الحالي من خلال السير قدماً في اتجاه التحول الديمقراطي السليم. ولا بد من التخطيط للتكامل الاقتصادي بالشكل الذي يجعل من الإيراد النفطي المتزايد أمراً منسجماً مع احتياجات التنمية المستدامة بكل أبعادها.
*) مهندس كيميائي/ استشاري
**) تعليقات حول مقال د. علي مرزا
Normal
0
false
false
false
EN-GB
X-NONE
AR-SA
/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Normale Tabelle”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:10.0pt;
font-family:”Times New Roman”,”serif”;}
” المنشور في مجلة MEES في 18 أب/اغسطس 2013 والمعاد نشر نسخة موسعة منه على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين باللغة الانكليزية.
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية