د. علي الورديدراسات اجتماعية وثقافية

د. إبراهيم الحيدري: علي الوردي.. جمع بين رصانة الفكر وبساطة الأسلوب فأحبه الناس

إعادة طبع أعماله بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده

يعد علي الوردي (1913 – 1995) عالم الاجتماع العراقي المعروف علما بارزا من أعلام الفكر الاجتماعي التنويري الذي خلف وراءه مؤلفات قيمة في علم الاجتماع وعلم النفس وتاريخ العراق الاجتماعي. ولعلنا لا نغالي حين نقول إن الاهتمام بأفكار علي الوردي الاجتماعية وتسابق الناشرين لطباعة كتبه من جديد، في بغداد وبيروت ولندن وغيرها، وإعادة قراءته من جديد وفق ما استجد من أحداث، بمثابة إعادة الوعي بأهمية أفكاره وآرائه الاجتماعية النقدية.

إن الفترة التي درسها الوردي وعايشها وخبر أحداثها وكتب عنها ونقدها منذ الحرب العالمية الأولى، لا سيما عقد الخمسينات، تعتبر من أهم وأخصب الفترات الفكرية والاجتماعية في تاريخ العراق الحديث وأكثرها إنتاجا وازدهارا. وقد عاصر الوردي سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى وما أفرزته من محاولات للاستقلال والتحرر الوطني وتأسيس الدولة العراقية، مثلما عاش سنوات الحرب العالمية الثانية وثورة «14 تموز» وما بعدها وما أفرزته من صراعات اجتماعية وسياسية وثقافية، كما عاش سنوات الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج وما خلفته من محن ومآس وحصار وخراب وردة حضارية ليس من السهولة تجاوزها إلا بعد سنوات طويلة. في ذلك المناخ الفكري المتأرجح بين التراث والمعاصرة وبين اتجاهات فكرية وسياسية متصارعة خاصة القومية والاشتراكية وبين الحركات الإسلامية والليبرالية، ظهر علي الوردي مثقفا اجتماعيا مستقلا، ولكن جريئا ومتمردا، تحدى المنظومات الاجتماعية والثقافية القائمة من خلال توجيهه انتقادات اجتماعية حذرة، مبينا عوامل التخلف والركود، كاشفا عن عجز النظام الاجتماعي – السياسي، الذي قام على أعقاب قرون عديدة من الظلم والاستلاب. واستخدم الوردي أسلوبا تنويريا نقديا يعتمد على السرد المبسط والكلام السهل الممتنع، منقبا في عمق الأشياء الصغيرة والظواهر الاجتماعية المبعثرة في ثنايا المجتمع والتاريخ، التي تجاهلها الكتاب والمفكرون وحتى المتخصصون في علم الاجتماع إما لحساسيتها أو لعدم تقديرهم لأهميتها الاجتماعية والثقافية، لجمعها ودراستها وتحليلها والربط بين أجزائها، ليصل إلى معانيها الاجتماعية والأنثروبولوجية ويكشف عن دوافعها وأهدافها القريبة والبعيدة.

ومن الممكن إيجاز فرضياته الاجتماعية الثلاث في ما يلي:

أولا: شخصية الفرد العراقي – وهي محاولة أولية لتفسير طبيعة المجتمع العراقي في ضوء ظاهرة «ازدواج الشخصية». وهي ظاهرة اجتماعية وليست نفسية، نتاج وقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين مختلفين ومتناقضين من القيم الاجتماعية، قيم البداوة وقيم الحضارة. وهي مصدر الصراع والتناقض في شخصية الفرد العراقي.

وتظهر الازدواجية في الميل إلى الجدل وفي ممارسة الحرية والديمقراطية وفي الوساطة والرشوة والشطارة وفي خدمة العلم وكره الحكومة وكذلك في الأغاني الحزينة وغيرها.

ثانيا: الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة: تأثر فيها بمقولة ابن خلدون «الإنسان ابن عوائده». فقد لاحظ الوردي وقوع العراق على حافة الصحراء، التي تمده بموجات بدوية مستمرة تؤثر على سلوكه وقيمه الحضرية، وهو ما سبب صراعا مستمرا بين «بدوي غالب وحضري مغلوب» من نتائجه: التغالب والعصبية القبلية والقتال بين القبائل والمدن والمحلات وامتهان الحرف وغيرها.

ثالثا: التغير والتناشز الاجتماعي، فقد أنتج الاتصال الحضاري مع الغرب ودخول المخترعات الحديثة المتقدمة علميا وتقنيا إلى العراق، تناشزا اجتماعيا وثقافيا انهارت على أثره جميع الحواجز بين المعقول وغير المعقول، وأصبح الطريق مفتوحا لتقبل كل شيء جديد وممكن. غير أن هذا التغير فجر صراعا بين «المجددين»، مؤيدي الحضارة الغربية وبين «المحافظين» الذين وقفوا ضدها وحاربوها، وقد اعتبر البعض المجددين كفارا، في حين اعتبر المجددون المحافظون رجعيين. وهو ما أحدث صراعا اجتماعيا بين الجيل الجديد والجيل القديم.

وعلي الوردي من مواليد الكاظمية – بغداد، ومن أسرة فقيرة محافظة، لكنها مرموقة في مجال العلم والأدب والشعر والتجارة. ولقب بالوردي نسبة إلى حرفة جده الأكبر الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد. وقد نشأ في محيط الكاظمية المحافظ وترعرع في أزقتها وشوارعها وأسواقها ومحلاتها وكتاتيبها ومنتدياتها العلمية والأدبية التي أمدته بخبر وتجارب اجتماعية مهمة. وقد اضطر إلى ترك المدرسة وهو في الصف الخامس الابتدائي للعمل في دكان والده. ويتذكر الوردي جيدا ما قاله له والده يوما «يا ابني المدرسة لا تطعمنا خبزا»!.. وهو ما دفعه للعمل صانعا عند عطار المحلة لمدة سنتين، لكنه طرد من عمله لأنه كان يهتم بقراءة الكتب والمجلات مهملا الزبائن.

عاد الوردي إلى المدرسة وأكمل دراسته المتوسطة وأصبح معلما في إحدى مدارس الكاظمية. وفي عام 1932 حدثت للوردي نقلة اجتماعية في حياته حيث غير ملابسه التقليدية بملابس عصرية وأصبح «أفنديا» واعتبره البعض «خارجا عن دينه وملته».في عام 1936 أكمل دراسته الثانوية وحصل على شهادة البكالوريوس وكان الأول على العراق. وقد أرسلته الحكومة العراقية عام 1943 للدراسة في الجامعة الأميركية ببيروت، وحصل منها على شهادة الماجستير. وفي عام 1948 أرسلته الحكومة العراقية لإكمال دراسته العالية في جامعة تكساس الأميركية وحصل عام 1950 على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع. وكانت أطروحته للدكتوراه حول مقدمة ابن خلدون. وعند عودته إلى العراق عام 1952 عين في قسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة بغداد. وفي عام 1972 أحال نفسه إلى التقاعد ومنحته جامعة بغداد لقب أستاذ متمرس.

كتب الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات. خمس كتب منها صدرت قبل ثورة «14 تموز» 1958، وكانت ذات أسلوب أدبي – نقدي ومضامين تنويرية جديدة وساخرة لم يألفها القارئ العراقي، ولذلك واجهت أفكاره وآراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة وبخاصة كتابه «وعاظ السلاطين»، الذين يعتمدون على منطق الوعظ والإرشاد الأفلاطوني منطلقا من أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ وحده، وأن الوعاظ أنفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين، كما أكد أنه ينتقد وعاظ الدين وليس الدين نفسه.

أما الكتب التي صدرت بعد ثورة «14 تموز» فقد اتسمت بطابع علمي، ومثلت مشروع الوردي لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي وفي مقدمتها «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» و«منطق ابن خلدون» و«لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» في ثمانية أجزاء.

كتب الوردي عن حياة الناس الاجتماعية وعن قيمهم وعاداتهم وعصبياتهم وسلوكهم في الحياة اليومية، وعن مرجعية هذا السلوك وأصوله الاجتماعية والنفسية والمصلحية، من دون تحيز وانفعال وتعصب، كعالم اجتماعي يكتب من دون مواربة أو مبالغة وافتعال عن طبيعة المجتمع البشري وعن شخصية الفرد العراقي، كما طرح ما كتبه للفحص والنقد والمساءلة منتقدا الظواهر الاجتماعية السيئة والأحداث السلبية والمفاهيم القديمة البالية، ولم يلن أو يعجز وهو ينتقد ويعري ويسخر من الأشياء، إلا بعد أن هدته الشيخوخة وأتعبه المرض ومسه هاجس الخوف من النظام الاستبدادي الشمولي المخلوع.

وأثارت أفكار الوردي النقدية وأطروحاته الاجتماعية حول طبيعة المجتمع وشخصية الفرد العراقي تساؤلات عديدة وبصورة خاصة بعد الغزو والاحتلال وتهاوي النظام السابق وتركه مجتمعا مفككا وشعبا ممزقا ومنقسما على ذاته، وهو ما سبب فراغا أمنيا وإداريا وسياسيا دفع إلى تفجير المكبوتات التي تراكمت عبر أكثر من ثلاثة عقود وتأجيج شحنات الحقد والغضب المشروع وغير المشروع وتفريغها بأشكال مختلفة من العنف والإرهاب.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل قدم الوردي أجوبة شافية لتشخيص عوامل الخلل الذي أصاب المجتمع والثقافة وشخصية الفرد العراقي وتمزق هويته وانكسار ذاته وعجزه عن استعادة وعيه والوقوف على رجليه واستعادة حريته؟

لعل العودة إلى الوردي وقراءته من جديد تقدم لنا مؤشرات على مصداقية أفكاره وآرائه الاجتماعية، إذ نبهنا بنظرته النقدية الثاقبة إلى كثير من أمراضنا الاجتماعية، وكان شاهدا أمينا على أحداث قرن بكامله تقريبا.

*)أكاديمي وباحث في علم الاجتماع

جريدة الشرق الاوسط ، السبـت 09 ذو القعـدة 1434 هـ 14 سبتمبر 2013 العدد 12709

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    فاروق يونس:

    عنوان مقال الدكتور ابراهيم الحيدرى (على الوردى — جمع بين رصانة الفكر وبساطة الاسلوب فاحبه الناس )
    ومن كتابه ( اسطورة الادب الرفيع ) انقل للقارىء الكريم :
    يقول الوردى ( يستطيع اى انسان ان يدعى انه هو المصلح الحقيقى وان خصومه هم المهيجون المشعوذون فالمسالة اعتبارية اذن ولكن علم الاجتماع وضع بين ايدينا مقياسا واضحا يمكن ان نميز به بين المشعوذ والمصلح
    الفرق بينهما كما يقول علم الاجتماع هو ان احدهما يحاول اصلاح قومه بينما الاخر يبحث عن قوم غير قومه ويتظاهر بانه يريد اصلاحهم وهدايتهم —- المشعوذ يبتغى الجاه والنصر القريب اما المصلح فهو يطلب النصر البعيد وهو قد يموت دون الوصول اليه فمن شانه ان يشجب عيوب قومه ويحاول تحذيرهم من سوء مغبتها وهو لابد ان ينال من قومه الاذى والشتيمة فالناس سيفضلون المشعوذ عليه سينصرونه ويرفعون من مكانته ولكن ذلك لا يدوم فلا بد ان ياتى عليهم يوم يشعرون بدناءة ما فعلوه ويبوء المشعوذ بسواد الوجه
    المصلح يخلق الانقسام قى قومه ويثير الضجة بينهم وهذا هو السبيل الذى تتفتح فيه الاذهان ويتحرك المجتمع اما المشعوذ فيغنى لهم لكى يناموا ويتلذذوا بالاحلام
    وخير مثال ناتى به فى هذا الصدد هو ما جرى بين الطوائف المختلفة فى الاسلام فقد اعتاد فقهاء كل طائفة ان ينسوا عيوب طائفتهم ويركزوا اهتمامهم على عيوب غيرها فكان الفقيه يهتف بالافكار المطلقة لكى يتخذ منها سلاحا للدفاع عن قومه والهجوم غلى الاخرين وكانت عاقية ذلك ان فرح كل الناس بما عندهم فتراكمت الاختلافات والسخافات فى كل جنب وظن كل فريق ان الجنة له وحده
    ونشا من جراء ذلك نزاع خبيث يختلف عن ذلك النزاع المبدئى الذى يدفع بالمجتمع نحو التطور انه يشبه نزاع القبائل البدوية التى تتغازى فيما بينها وتتقااتل دون ان يكون وراء ذلك فكرة جديدة تفتح عيون الناس ) ص 284 و ص 285-دار الحياة للنشر والتوزيع
    استاذى العزز الدكتور ابراهيم الحيدرى ما اصدق عنوان مقالك ! وهل تحتاج كلمات عالم الاجتماع العراقى الى تفسير او تاويل ؟

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: