منذ بروز أزمة مديونية اليورو في أعقاب الازمة المالية العالمية (2008-2010) ولايزال الجدل مستمراً بين الإقتصاديين الاوربيين حول السياسات الصحيحة والسبل والأدوات المناسبة لاحتواء هذه الازمة. واختلفت مقترحات الحلول باختلاف المدارس والمشارب. الصراع يدور بين مدرستين رئيسيتين : الاولى تركز على إعادة هيكلة الاقتصاد وترشيد الإنفاق العام وتقليص الدين العام، أما الثانية تركز على تنشيط الطلب الكلي من خلال اعادة توزيع الدخل وزيادة الانفاق العام الاستثماري في قطاعات البنية التحتية المادية والتنمية الاجتماعية (التعليم والبحث العملي). وعلى خلفية الركود الاقتصادي السائد في منطقة اليورو جاءت قرارات البنك المركزي الاوروبي في الخامس من شهر حزيران الجاري كمحاولة جديدة لاحتواء تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية. وتثير الاجراءات النقدية الجديدة تساؤلات عديدة، أهمها تخص امكانات وحدود السياسة النقدية في التأثير على النشاط الإقتصادي في منطقة اليورو؟
مخاطر تدني الاسعار (التضخم السلبي)
هبط معدل التضخم في منطقة اليورو الى أدنى مستوياته منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وسجل المعدل العام في المنطقة عموماً 0,5% في العام الحالي وفي اليونان معدلاً سالبا تحت الصفر يتراوح بين -3% و -2,5% خلال الاشهر الستة الاخيرة، في حين انخفض معدل التضخم في ألمانيا من 2% في بداية عام 2011 الى أقل من 1% في منتصف هذا العام، وفق بيانات مكتب الاحصاء في الاتحاد الاوربي. وتعتبر هذه المعدلات المنخفضة متدنية عن المعدل المستهدف للسياسة النقدية والذي يبلغ 2%.
من منظور المستهلك يمكن اعتبار معدل التضخم المتدني يصب في صالحه، وخصوصاً فيما يتعلق بالقوّة الشرائية لدخله، لا بل يعززها في بعض الحالات، بافتراض ثبات الأجور والرواتب كما يحدث في دول شمال منطقة اليورو وفي أسواق السلع الاستهلاكية المستوردة من خارج منطقة اليورو، والتي انخفضت اسعارها على نحو ملموس بسبب قوة سعر صرف اليورو امام الدولار.
إلا أن هذا الوضع يثير قلق صانعي السياسة النقدية في منطقة اليورو وعلى رأسهم محافظ البنك المركزي الاوروبي الايطالي ماريو دراغي، والذي أعلن في الخامس من شهر حزيران من هذا العام عن إجراءات نقدية غير مسبوقة ومثيرة للجدل. ثم صرح أمام الصحفيين أن هذه الاجراءات لن تكون الأخيرة من نوعها، وبهذا يذكرنا بتصريحه المشهور بعد استلامه قيادة المركزي الاوربي في تشرين الثاني من عام 2011 بأنه سوف يعمل كل شيء من أجل الدفاع عن اليورو، ثم أكد على جديته في فعل ذلك بالقول الى مستميعه: “صدقوني”. وبهذا التصريح القوي حصل من الإعلام على لقب “ماريو بطل اليورو”.
الاجراءآت وتبريرها
بموجب الإجراء الأول تم تخفيض معدل الفائدة السنوي، لمدة أسبوع، على القروض القصيرة الأجل والتي يمنحها المركزي الأوروبي لمصارف منطقة اليورو من 0,25% الى أدنى المستويات في تاريخ السياسة النقدية الاوربية وبواقع 0,15%، ليتساوى المعدل الأوروبي الجديد مع معدلات الفائدة للمركزي الامريكي النافذة منذ نهاية عام 2008 والقريبة من الصفر.
يفرض الإجراء الثاني على المصارف غرامة بمقدار 0,1% على ودائعها قصيرة الاجل لمدّة ليلة واحدة لدى المركزي الأوروبي، وهو إجراء غير مسبوق يُراد منه تحفيز المصارف الخاصة الى تحويل هذه الأموال إلى قروض للقطاعات الاقتصادية الحقيقية المنتجة في منطقة اليورو وخصوصاً في بلدان الجنوب المتعثرة بسبب ازمة المديونية، حيث تمارس مصارف تلك الدول سياسة إقراض متحفظة.
أما الإجراء الثالث فيتضمّن برنامج ائتمان خاص بحجم أولي مقداره 400 مليار يورو يمنح المركزي الأوروبي بموجبه قروضا متوسطة الأجل لجميع الراغبين من مصارف منطقة اليورو ولمدّة اقصاها 4 سنوات وتسعة أشهر وبفائدة مقدارها 0,25%، بشرط أن يحولها القطاع المصرفي الى قروض لتمويل المشاريع الاستثمارية الخاصة، يُراد منها تنشيط الدورة الإقتصادية وتجنب حالة الكساد.
يبرر دراغي الاجراءآت الجديدة بالركود الحالي لمستوى الأسعار وضعف احتمالية ارتفاعها، حيث تشير توقعات المركزي الاوربي للعامين الحالي والقادم بأن معدل التضخم سوف يظل في حدوده الدنيا ويتراوح بين 0,7% و 1,1%. فهو يعتقد بوجود مخاطر محتملة على الدورة الاقتصادية جراء ركود مستوى الأسعار وعدم ارتفاع معدل التضخم والذي يعتبر في السياسية النقدية مؤشرا على زيادة النشاط الاستثماري والاقتصادي. كما يعتقد بأن مهمة المركزي الاوروبي الأساسية تكمن في تفادي حصول هبوط مستوى الاسعار (Deflation) مما سيؤدي الى حلقة شيطانية تبدأ بتأجيل المستهلكين قراراتهم لشراء السلع توقعاً منهم بانخفاض الاسعار مستقبلاً وبذلك يتراجع الطلب الكلي، وهذا سوف يجبر المنتجين المتنافسين على تخفيض أسعارهم لتصريف منتوجهم ويقود الى تأجيل قراراتهم الاستثمارية والى تسريح العمال وزيادة البطالة وتراجع الدخول وانتشار حالة الكساد.
المستفيدون والخاسرون
لقد اتضح على الفور وبعد الاعلان عن الاجراءآت الجديدة ان اكثر المستفيدون من الاجراءآت الجديدة هم المتعاملون في سوق الاسهم حيث سجل مؤشر داكس الالماني للاسهم رقم قياسي تاريخي جديد مع تجاوزه 10000 نقطة. وبالرغم من أعتراض اتحاد المصارف الالمانية على تغريم الودائع الليلية لدى المركزي الاوربي فمن الواضح ان المصارف في عموم منطقة اليورو سوف يستفادون من الاجراءآت الاخرى، وبالاخص من سعر الفائدة المتدني.
ومن المتوقع أن يستفيد المستثمرون في قطاع العقارات من أسعار الفائدة المتدنية لتمويل استثماراتهم، ومن المتوقع ايضاً أن يؤدي ارتفاع الطلب على العقارات الى ارتفاع أسعارها وزيادة أرباح ماليكها والذين يمكن اعتبارهم من المستفيدين من هذا الاجراء. ورحب اتحاد الغرف الصناعية والتجارية الالماني بالاجراءات الجديدة التي وصفها المدير التنفيذي مارتن فانسليبن بالضرورية لتجنّب حالة الكساد.
اما الخاسرون فهم بالدرجة الاولى أصحاب المدخرات والودائع المصرفية الصغيرة والمتوسطة والذين يتقاضون فائدة اسمية متدنية وأقل من معدل التضخم في معظم دول المنطقة الغنية مما يعني في الواقع أنهم يفقدون القوة الشرائية لأموالهم. ويدعي رئيس رابطة صناديق الادخار الالمانية جورج فارينشون بأن خسائر المدخرين الألمان تبلغ 15 مليار يورو سنوياً.
مخاطر سياسة النقد الرخيص
منذ استلام المحافظ دراغي دفة القيادة للمركزي الاوربي يزداد تركيز السياسة النقدية الأوروبية على استعمال آليات سياسة الفائدة وضخ السيولة (النقد الرخيص) في القطاع المصرفي بسعر فائدة متدني منذ تصاعد ازمة مديونية اليورو في 2011/2012، وتم بالفعل ضخ أموال هائلة، إلا أن معظم المصارف استعملت هذه الأموال لشراء السندات الحكومية ذات المردود العالي بدلاً من تمويل المشاريع الاستثمارية للقطاع الخاص. لذا يشكك ناقدو السياسية النقدية للمركزي الاوربي بقدرته على ضبط ومراقبة ممارسات المصارف في استخدام السيولة الجديدة لأغراض الإقراض وليس لشراء السندات والأسهم .
كما يشير النقاد الى مخاطر ارتفاع اسعار الأسهم والعقارت واحتمال ظهور فقاعة جديدة يمكن أن تنفجر فجأةً، كما حدث مرّتين خلال السنوات العشر الماضية، عندما انهار مؤشر الأسهم الالماني داكس في عامي 2000 و2007 على نحو دراماتيكي. وبسبب توجه كيمات كبيرة من السيولة نحو قطاع العقارات من المحتمل ايضاً ان تتكون هناك فقاعة اخرى قابلة للانفجار في أية لحظة.
ومن أشد الانتقادات للسياسة النقدية الحالية، يعد الاتهام الموجه الى المحافظ دراغي بأنه يتجاوز على وظيفة المركزي الاوربي المحددة في نظامه الداخلي والتي تقتصر على المحافظة على استقرار العملة المشتركة (اليورو) والحفاظ على قيمتها الشرائية، وينصب نفسه مسؤولاً عن تنشيط الدورة الاقتصادية وتحريك عجلة الاقتصاد، في حين أن هذه المهمة مناطة الى السياسة المالية. وعبر عن هذا الرأي الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي صاحب كتاب “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” المثير للجدل بقوله “لاينبغي التركيز المفرط على السياسة النقدية على حساب السياسة المالية وبالاخص السياسة الضريبية. ومن شبه المستحيل صياغة سياسة نقدية ناجعة لثماني عشرة دولة تملك نظما ضريبية متباينة ومستويات مختلفة من المديونية” (مقابلة مع صحيفة برلينر تسايتونغ الألمانية بتاريخ 7-9 حزيران 2014). كما شَبّه الاقتصادي الألماني وعضو مجلس الحكماء الاقتصايين البروفسور بيتر بوفنغر السياسة النقدية بالعقار المستخلص من الاعشاب بما يتعلق ببطئ مفعوله في تحفيز الاستثمار الخاص. أما مدير معهد ايفو (ifo) للابحاث الاقتصادية في ميونيخ البروفسور هانز فينر زين فيشكك بجدوى الاجراءات الجديدة ويصفها بالمحاولات اليائسة لتحويل تدفقات رأس المال الى دول الجنوب قبل إجراء إصلاحات اقتصادية في سوق عمل هذه الدول وتحسين قدراتها التنافسية. ويذكرني هذا الجدل حول السياسة النقدية الاوربية بالجدل الذي دار حول السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي خلال فترة المحافظ السابق د. سنان الشبيبي ونائبه د. أحمد ابريهي ومستشاره د. مظهر محمد صالح حول ارتفاع اسعار الفائدة الى حوالي 20% لمحاربة معدلات التضخم العالية في السنوات من 2007 وحتى 2011 . ودار الجدل حول مهام وصلاحيات البنك المركزي، حيث كان طاقم البنك المركزي العراقي يركز على مهمة مكافحة التضخم ، بينما كان المنتقدون يشيرون الى أولوية التنمية الإقتصادية وتشجيع الاستثمار الخاص من دون النظر الى ان مكافحة التضخم يصب في صالح اتخاذ قرارات الاستثمار وان مهمة تحفيز الاستثمار تقع بالدرجة الاولى على السياسية المالية والسياسة الصناعية والتجارية.
*) باحث وكاتب إقتصادي عراقي-الماني
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين حزيران 2014. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
لتنزيل المقال كملف بي دي أف اضغط هنا
مستشار اقتصادي دولي ، مؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين والمنسق العام منذ 2009
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية