حينما نعود الى بدايات تكوين المجتمعات البشرية والصراعات الدموية ألتي خاضتها، نَجد أنَّ أسباب ودوافع تلك الصراعات هي إقتصادية. وبمرور الزمن تحوّلت إلى إستعمار عسكري ثمّ إقتصادي، ألذي لا يزال يفعل فعله ويقرر مصائر الشعوب إنْ كانت متحررة أو رازحة تحت نير التبعية الاقتصادية. والعامل الإقتصادي، يلعب في الظروف الراهنة الدور الرئيس في تغيير الخريطة الجيوسياسية الدولية.
قُبيل إنهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكر الدول الاشتراكية، أعطى الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب تعهداً، شفوياً، لسكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي وأول رئيس للإتحاد السوفيتي – ميخائيل غورباتشيوف – بعدم زحف حلف الناتو نحو الحدود الغربية للاتحاد السوفيتي، لكن بعد تفكك الإتحاد السوفيتي في عام 1991 إلى ما سمُيّ بـ الجمهوريات المستقلة ذات السيادة – وإلغاء حلف وارشو، أصبحت بعض الدول الإشتراكية أعضاء في حلف الناتو، وفي مقدمتها بولونيا، التي كانت مركز قيادة قوات معاهدة وارشو!… ولهذا، فليس غريبا هكذا سلوك من قِبل الإمـﭙريالية الأمريكية.
لقد كان العامل الاقتصادي أحد الأسباب الرئيسية لإنهيار الإتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي، إذ كان سباق التسلح، إبان الحرب الباردة، يستنزف 23% من الموازنة السنوية للإتحاد السوفيتي وعلى حساب التنمية الشاملة.
إنَّ المخطط بعيد المدى الذي تمَّ وضعه من قِبل دوائر الإستخبارات الأمريكية والغربية لتدمير وجود الإتحاد السوفيتي ودول حلف وارشو ولفرض واقع جديد، هو لتحقيق سياسة القطب الواحد، “الولايات المتحدة الأمريكية”، وهذه تتكون من المراحل التالية:
1- إنهاء وجود إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، كدولة موحدة وتفكيكها الى دويلات صغيرة، وإلغاء حلف وارشو.
2- خَنق روسيا الإتحادية عن طريق إدخال البعض من الجمهوريات السوفيتية السابقة المحيطة بروسيا الإتحادية إلى حلف الناتو والاتحاد الأورﭙـي – جمهوريات بحر البلطيق، (أستونيا، لاتـﭭـيا، ليتـﭭـا)، وجورجيا.
3- تفتيت الإتحاد الروسي المتكوّن من جمهوريات إتحادية وأقاليم ذات حكم ذاتي إلى دويلات صغيرة عن طريق إشعال الحروب الأهلية الداخلية، وتجلّى ذلك في الحرب الداخلية التي قادتها المنظمات الإرهابية في منطقة القفقاس والمموَلة من دول الخليج، لكون تلك المنطقة ذات أغلبية مسلمة.
إن أحد الأسباب الذي ساعد على إنجاز ذلك المخطط، هو شلل وتوقف المجمّع الصناعي العسكري الروسي عن مواكبة تصنيع الأسلحة ذات التقنيات العالية، بسبب إيقاف التمويل المالي، لكن بعد عدة سنوات إستعادت روسيا مكانها عالمياً في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وبذلك أعطت إشارة إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو، بأنّ المساس بوحدة وسيادة الأراضي الروسية، هي خطوط حمراء.
بعد سنوات من الركود، عانى منها الإقتصاد الروسي، أخذ بالتعافي تدريجياً وأخذ الإحتياطي النقدي الستراتيجي بالازدياد، وإرتفعت القدرة الشرائية لمواطني روسيا.
بعد أن فشلت محاولات الإتحاد الأورﭙـي والولايات المتحدة الأمريكية في تركيع روسيا سياسياً وعسكرياً، لجأت إلى السلاح الإقتصادي، عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية وإبعاد أوكرانيا عن التكامل الاقتصادي مع منظومة الدول ذات السيادة، (جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة)، ومحاولة إدخالها في عضوية الاتحاد الأورﭙـي. لكن تلك المحاولات والإجراءات باءت بالفشل وللأسباب التالية:
• أنّ الإنتاج الصناعي في أوكرانيا يُصدّر الى روسيا فقط، ولا يجِد له ترويج في أسواق الإتحاد الأورﭙـي والولايات المتحدة الأمريكية.
• يتجاوز عدد العاملين الأوكراينيين في روسيا ثلاثة ملايين عامل، والحد الأدنى للأجور في روسيا هو ضعف مثيله في أوكرانيا، إضافةً إلى تواجد ثلاثة ملايين عامل أوكرايني في بيلوروسيا وأربعة ملايين في كازاخستان، يعني مجموع الأيدي العاملة الأوكراينية هو عشرة ملايين، (من مجمل نفوس أوكرانيا والبالغة 45 مليون شخص)، وهذا الرقم يشكل نسبة كبيرة في تكوين الناتج المحلي الاجمالي لأوكرانيا. فاذا أوقفت الحكومة الأوكراينية علاقاتها الإقتصادية مع تلك الدول ذات السيادة، سيؤدي ذلك الإجراء إلى عودة عشرة ملايين عامل الى أوكرانيا، وسيكونون عبئاً على الاقتصاد الوطني، لكونهم سيحشرون مع جيش العاطلين عن العمل في داخل أوكرانيا.
• عدم إنصياع دول أورﭙـا الغربية إلى تنفيذ العقوبات الإقتصادية ضد روسيا يعود لسببَين رئيسيين: أولهما هو أنّ التبادل التجاري و الاستثمارات الاورﭙـية في روسيا تبلغ 400 مليار دولار، في حين تبلغ الاستثمارات الامريكية في روسيا 27 مليار دولار. السبب الثاني هو عدم إستغناء ست دول أورﭙـية عن مصادر الطاقة، وتحديداً، الغاز الروسي، لكونها لا تمتلك البدائل لذلك.
على صعيد الواقع العراقي، ومن خلال ما ذكرته أعلاه، يتوجب على الدولة العراقية أن تستخدم السلاح الاقتصادي ،النفط وإيقاف إستيراد السلع من الدول التي تحاول التدخل في شؤون العراق الداخلية السياسية والاقتصادية وإلحاق الضرر به وعدم إعطائه إمكانية النهوض بإقتصاده . ولاننسى في هذا المجال أنّ العراق يستطيع إجبار كل من إيران وتركيا على التوقيع على معاهدة، تضمن له حقوقه في المياه القادمة من البلدين. لكن ما دامت بعض القوى المتنفذة في السلطة، تدين بالولاء الى كلتي الدولتين، فلن تجري المطالبة بحقوق العراق المائية وسيكون المستقبل أكثر شؤماً وسواد.
*) باحث وكاتب لإقتصادي
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية