كثيرا ما نقرأ ونسمع التعبير الشائع بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب فهو اساس نجاح المجتمعات البشرية وتقدم انظمتها الاقتصادية، وهو التعبير الذي بات اشبه بحكمة الامام علي بن أبي طالب القائلة: (اذا وضعت احدا فوق قدره فتوقع منه ان يضعك دون قدرك).
تستند الاسس الصحيحة لاختيار الشخص المناسب على كونه يتحلى بقدرات وامكانيات تصلح للمسؤولية التي أنيطت به ليؤدي دوره بنجاح، وان يتمتع الشخص بثقة بنفسه وله صفة القيادة وحب التعلم والتواضع وفصل الحياة الشخصية عن العمل. هذا التعبير العملي في تحديد الموارد البشرية المناسبة لإشغال المناصب او لاسناد المسؤولية، يقودنا الى وزارة التعليم العالي والجامعات وتوزيع المناصب فيها فقد اظهرت السنين أن العديد من الانتكاسات والمشاكل في العمل الاكاديمي كان سببها سوء إدارة العمل، وضعف أو خطأ القرار المتخذ، وعدم الخبرة في التعامل مع التدريسيين، وهذا الأمر لا يعود الى وجود مشكلة في الجهاز الوظيفي فحسب، بل لأن هناك مشكلة في عدم قدرة من يشغل الوظيفة ويتحمل مسؤوليتها.
الشكوى من سوء ادارة المسؤول الاداري ليست كافية للاشارة الى فشله ولا الى وجود خلل في المنظومة التعليمية، الا ان كثرة الشكاوي والتذمر تشير الى سوء علاقة بين الاداري المسؤول والهيئة التدريسية. كيف يمكن لنا ولغيرنا ان نتعرف على الاداري الناجح و الاداري الفاشل في ظل نظام اداري نمطي لا يمنح المسؤول مجالا واسعا للتصرف حسب ما تمليه ارادته وقناعاته لاتخاذ القرارات الصعبة. وحتى لو افترضنا وفق المفهوم الشائع ان الاداري ناجح، فهل هذا سيؤدي الى تطوير العملية التعليمية وإخراج الجامعة والكلية والقسم من مأزق التردي الاكاديمي؟
كتب لي استاذ جامعي يعزي فيه تدني المستوى التعليمي الى سبب (منح المناصب الادارية المهمة مثل رؤوساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء المجالس العلمية استنادا الى انتماءات حزبية وطائفية ومحسوبية ومنسوبية)، ويشارك هذا الرأي استاذ اخر باعتباره (التغييرات الادارية على مستوى العمداء والمستندة اساسا على تكريس الولاءات الحزبية اولا، وبدون مراعاة لوضع المؤسسة الاكاديمية)، هي اصل البلاء في المؤسسات التعليمية. ومن جهة اخرى يتجه رأي مختلف لأستاذ جامعي آخر نحو القاء اللوم على ضعف الادارة فيقول: (اصبح هَمْ المسؤول هو ارضاء المسؤول الاعلى و السعي الحثيث وراء الانجاز الشكلي والاعلامي، او انهاء العام الدراسي بدون اثارة اي مشاكل، او تهدئتها على الاقل، و محاولة ارضاء جميع الاطراف على حساب مبادىء العمل الصحيحة و العادلة). ويقدم احد الاساتذة رأي آخر: (عجبي على بعض الاساتذة الجامعيين حين توليهم المناصب الادارية ينسوا انهم أساتذة، ويحاولوا ان يضعوا القيود والسلاسل امام كل المقترحات الطموحة للنهوض بكلياتنا بصورة خاصة وجامعاتنا بصورة عامة).
وبالرغم من تباين الآراء والتحليلات، يبقى الاتهام الاساسي بأن عدم وضع الشخص المناسب في ادارة الجامعات والكليات يعود الى المحاصصة الطائفية والحزبية. معظم الاتهامات والآراء تفترض ان الاداري الذي استلم منصبه عن طريق ترشيح حزبي بالضرورة هو اداري فاشل وهو سبب تدهور مستوى التعليم الجامعي والبحث العلمي، وتتناسى دور اعضاء هيئات التدريس ومسؤوليتهم في تعليم الطلبة وتدريبهم والنهوض بمستوى جامعاتهم، كما لا تأخذ هذه الاراء والمواقف بنظر الاعتبار مدى تغاير الامكانات الادارية والأكاديمية للعدد الهائل من رؤساء الجامعات والعمداء، ورؤساء الاقسام الذين تعاقبوا على رئاسة المناصب الجامعية والذين لا بد ان يمثلوا بصورة عامة مستوى المعرفة والخبرة لما تفرزه شريحة الاساتذة ومساعدي الاساتذة من حملة الدكتوراه الذين يحق لهم فقط ان يتبوؤا مثل هذه المناصب. وفي ظل التردي الحاصل في مستوى الجامعات منذ استحداث وزارة التعليم العالي عام 1970 وتعاقب المئات من التدريسيين على كراسي المسؤولية يصبح من الصعوبة القاء تبعية هذا التردي على القيادات الجامعية وحدها.
ان اي معالجة موضوعية لمشاكل التعليم العالي بعيدا عن مجرد تقديم تكهنات او تخمينات لاسباب الفشل لابد ان تشير الى الدور القيادي والرئيسي للوزارة في وضع السياسات والخطط والاجراءات ومتابعة تنفيذها، بالاضافة الى تدخلها في كل شاردة وواردة متى ما ارتأت ضرورة ذلك، والتي امثلتها كثيرة منها منع لبس الجينز من قبل التدريسيين، والدور الامتحاني الثالث، وقبول ضحايا الارهاب في الدراسات العليا بغض النظر عن كفاءاتهم ودرجاتهم، ومنع الاخوة من العمل في نفس القسم العلمي.
لمن تكمن اهمية اكبر في ظل الهيكلية الادارية للتعليم العالي والتي اشرنا اليها اعلاه في عملية بناء الطالب وفي تحسين مستويات الاداء للجامعات العراقية. هل تكمن في عميد الكلية ورئيس القسم ام في الاستاذ الجامعي؟ يجب علينا عندما نتكلم عن مشاكل التعليم الجامعي ان لا ننسى ان مستوى الجامعة العراقية ارتبط تاريخيا بمستوى اداء هيئة التدريس، فالأستاذ كان دائما العامل الاساسي في تحفيز الطلبة على المثابرة والتتبع، ويولد عندهم الفضول للاستمرار في الاستماع والتعلم. ولأن التعليم في العراق تاريخيا وبصورة عامة، يعتمد على قابليات الاستاذ في عرض المادة بصورة واضحة ومثيرة للاهتمام، وعلى دور الطالب الذي ينحصر في الاستماع والتدوين واسترجاع المعلومات عند الامتحان، فالطالب لا يتعلم لحد ما معارف التعلم الذاتي والاعتماد على النفس ومهارات التفكير المبدع والتفكير الناقد، لذا فان الاستاذ كان ولا يزال هو الركن الاساسي الذي تقوم عليه العملية التعليمية في الجامعات، فهو الذي يضع المنهج المعلن ومخارج التعلم ويدرس محتويات المنهج وهو المسؤول عن المنهج الحقيقي الذي تعلمه الطالب، وهو الذي يقّيم تعلم الطالب.
وحتى لو كانت للإداري في الجامعات العراقية صلاحيات كبيرة كتلك التي يتمتع بها الاداري في الجامعات الاجنبية فانه لن يستطيع من إحداث تغيير ايجابي او سلبي من دون تعاون التدريسيين ومشاركتهم في البناء (او الهدم)، هذا طبعا اذا سمحت له الوزارة من القيام بعمله. يجب ان لا ننسى ان 70% من اعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات العراقية هم من حملة الماجستير ومن ليس لديهم خبرة تدريسية في جامعات اخرى ومعارف تربوية وبحثية رصينة، بالإضافة الى ان اي اجراءات تنظيمية او ادارية يرغب بتحقيقها العميد ورئيس القسم ستفشل عمليا لانعدام المرونة التنظيمية والهيكلية للجامعات والكليات والاقسام، والتي تنعكس سلبيا على اداء الاداري لأنها تتضارب مع مفهوم القيادة والإدارة والتخطيط والعمل بمستوياته المختلفة، وتعتبر عنصر مهم في ابقاء قبضة الثقافة السائدة (سلبية او مراوغة او انتهازية) واستمرارية القناعات الجاهزة.
لربما لا تتطلب الادارة في الجامعات العراقية كثيرا من مهارة القيادة وفن الاشراف والتسيير فهي تعتمد بالأساس ولحد كبير، على تنفيذ التعليمات والقوانين الوزارية من خلال روتين يحرص على بقائه الموظفين الكبار، ولا تتأثر طريقة الادارة العتيقة هذه كثيرا بالخبرة لأنها لا تسمح بالتجريب والمبادرات التجريبية، بينما وعلى العكس تتطلب مهمات التربية والتدريس، والبحث العلمي معلومات غزيرة وقابليات ومهارات فائقة تعتمد على التقنيات الحديثة، وتزداد وتتعمق بالخبرة والتجربة. من هذا يبدو لي بان الركيزة الاساسية لنجاح او فشل المؤسسة الجامعية تكمن في قوة هيئتها التدريسية، وتلعب القيادات الجامعية دورا ثانويا في تحديد محصلة ونتائج العملية التعليمية من حيث كونها الاداة الادارية لتنفيذ قرارات وسياسة الوزارة. وهذا هو احد اسباب عدم وجود فروق جوهرية بين الجامعات العراقية وانعدام المنافسة بينها والتي تعتبر امرا اساسيا في تطوير العملية التعليمية.
لعله وفي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها جامعاتنا وفي ظل الاعتبارات المهنية الكبيرة التي تلقي ظلالها على مهمة القيادات الادارية ارى ضرورة تبني اسلوب جديد لاختيار رئيس الجامعة وعميد الكلية. سبق وان قدمتُ اقتراحا حول اختيار رئيس الجامعة وعميد الكلية اهمل من قبل الادارة السابقة للتعليم العالي فنشرته في المواقع العراقية تحت عنوان: (القيادات الجامعية.. الانتخاب أم التعيين أم الانتقاء؟) ولأهميته، اعيد نشر الاقتراح والاسباب المبررة له، ولكي نضعه امام انظار وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور حسين الشهرستاني:
اختيار القيادات الجامعية
(أنا لا اميل الى الانتخاب ولا الى التعيين المباشر كوسيلة لاختيار القيادات الجامعية، وأرى في الانتقاء على اساس المفاضلة احسن اسلوب لتعيين افضل القيادات الجامعية، وهو اسلوب يعتمد على الاعلان عن الوظيفة الشاغرة وإجراء مقابلة شفوية على اساسها يتم الاختيار. ويمكن ان يتم اجراء تحوير بسيط لكي يمنح اساتذة الجامعة دورا في اختيار رئيسهم المباشر، والوزارة دورا في التعيين على اساس انها الجهة الممولة للجامعات، والوزير على اساس انه المسؤول المباشر بتنفيذ سياسة الدولة في الجامعات. تبدأ العملية بالاعلان عن الوظيفة بداخل وخارج الجامعة وعلى الموقع الالكتروني للجامعة، ويتم الاشارة الى الواجبات والشروط حسب لوائح الجامعة. وخلال هذه الفترة يتم انتخاب لجنة المقابلة، وهي عبارة عن ممثل عن كل كلية بالنسبة لرئيس الجامعة وممثل عن كل قسم بالنسبة لعميد الكلية. يعود لهذه اللجنة المنتخبة من الهيئة التدريسية للجامعة او الكلية المعنية مسؤولية اختيار افضل العناصر للمقابلة الشفوية، وتحدد الوزارة طريقة المقابلة والاختيار على اسس مقبولة وبضمنها اعطاء درجات لكل قابلية او خبرة او قدرة للمتقدم. وبعد ان تتم المقابلة تلتقي اللجنة بالوزير (في حالة اختيار رئيس الجامعة) لمناقشة نتائج المقابلة، وبعد الاتفاق مع وزير التعليم العالي يتم اعلان اسم المرشح الفائز. وفي حالة اختيار العمداء فان لجنة المقابلة تجتمع مع رئيس الجامعة قبل اعلان اسم المرشح الفائز.
وكما هو واضح فالعملية لا تعني تعيين رئيس الجامعة او العميد بالانتخاب المباشر وانما بالانتقاء من قبل لجنة منتخبة من قبل اعضاء الهيئة التدريسية للجامعة او الكلية المعنية. وبهذا تضمن العملية صوت للاستاذ في عملية التعيين عن طريق انتخاب لجنة المقابلة والاختيار، وتضمن تعيين افضل العناصر عن طريق الاعلان والمقابلة وتوفر الشروط، وتضمن للوزير حق التعيين والنقض حيث تعطي العملية للمسؤول الاداري الاعلى حقا مشروعا في نظام دولة لا تتوفر فيه الاستقلالية الكاملة للجامعات. وقد لا يكون هذا النظام هو النظام الأمثل، لكنه بالقطع أفضل كثيرا من النظام المعمول به حاليا، الذى هو استمرار لنظام قديم أخضع الجامعات عنوة لإدارة تسيطر عليها تماما الدولة. ولكى تصبح المقارنة موضوعية يجب أن تكون دائما مع ما كان سائدا من قبل فى الجامعات العراقية وليس مع ما هو مطبق فى الجامعات العالمية).
اخيرا، وبرأي ان وضع الشخص المناسب في مكان رئيس جامعة سيتطلب تنفيذه أن يتمتع بشخصية قوية وجذابة ومتزنة، وبمهارات الاتصال والتواصل، والتمكن من الحديث باللغة الانكليزية، وان تكون له علاقات جيدة بالاجهزة والمؤسسات الخارجية (الوطنية والعالمية) وله سجل ممتاز في كل من البحث العلمي والتدريس، ويؤمن بضرورة تحقيق الاستقلال الاكاديمي للجامعة عن الدولة، ويدافع عن الحرية الاكاديمية، ويسعى لان تكون الجامعة مجالاً خصبا لإيجاد الحلول المناسبة للإشكالات التي تعترض المجتمع، بمنهجية علمية، ويهتم بالمعايير الأكاديمية، ويسعى الى الارتقاء بجودة التدريس والبحوث، وبسمعة الجامعة، ويلتزم بقوة بأسس الحكم الجماعي، الذي يجمع مصالح الهيئة التدريسية والعاملين في الجامعة في عملية صنع القرار.
(*) استاذ جامعي متخصص في العلوم والتكنلوجيا والتعليم العالي
الاراء الواردة في هذا المقال وفي كل المواد المنشورة على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير وانما عن رأي كاتبها فقط وهو الذي يتحمل المسؤلية القانونية والعلمية لوحده
مقال ممتاز، كالعادة، استاذ محمد الربيعي، ولكن لدي ملاحظة، لم اجد في ثنايا المقال أية إشارة الى مقدار نجاعة إعتماد إسلوب الترفيع أو انتقال الأستاذ من مرحلة التدريس التي إكتسب عبرها خبرات رصينة لسنوات الى مرحلة الإدارة، او الجمع بينهما بتخفيف أعباءه التدريسية، أو إختصارها على الإشراف على البحوث في إختصاصه أو توجيهها. فالتدريسي المتمرس أقدر على فهم المتطلبات الإدارية لرفع مستوى التعليم والبحوث العلمية الرصينة. الإدارة. بدون معرفة ثاقبة بمنهجية التعليم والبحوث وفن توصيل المعلومات وأساليب تمكين الطالب من التفكير المستقل والقدرة على متابعة أو الغوص بالمصادر بمبادرات ذاتية، لايمكن أن ينجح الإداري البحث.. فمن تجربتي فى مواصلة تعليمي في جامعة ويلز في بريطانية، من مرحلة البكلوريوس في الإقتصاد الى مرحلة الدكتوراه في الإقتصاد القياسي الرياضي، كانت هناك محاضرات عامة، قد يحضرها طلاب من أقسام أخرى الى سمينارات متخصصة لكل قسم الى تتوريالات، أو حلقات درس مع الأستاذ المختص لمناقشة الأسيس، أو ورقات البحث التي يعدها كل طالب بتكليف مباشر من الأستاذ المختص، فيقرأها ضمن المجموعة القلية جدا من أعضاء الحلقة، وبعد الإستماع، يطلب الأستاذ تعليقات الطلاب من أعضاء الحلقة، وبعد ختامها يقوم الأستاذ بتقويم الملاحظات ويقدم توجيهاته للتحسين، ويشخص نقاط الضعف، ومن ثم يقيم ورقة الطالب المعني حسب الفئاتت من A الى D، وذلك بعد الإستماع الى دفاع الطالب صاحب الورقة، فقد يكون قد إطلع على مصدر لم يطلع عليه حتى الأستاذ!؟ فالأستاذ الذي لديه تجارب وخبر من هذا النوع، سوف يصبح إداريا ممتازا بعد ذلك أو يحين يجمع بين العملين الإداري والتدريسي بعد تخفيف أعباءه التدريسية بإفتراض وجود مساعدين إداريين له ينفذون توجيهاته.
رغبت أن اشير الى هذه النقطة، إذ ربما لديك تعليق عليها. وتفضل بقبول فائق الإحترام
دز كامل العضاض