تسعى بعض البلدان بنوايا شتى، ومن ورائها التحالفات والتكتلات الاقتصادية والمنظمات التجارية الدولية كمنظمة التجارة العالمية (WTO) والمؤسسات المالية والنقدية الدولية، باتجاه تحرير التجارة الدولية من بعض القيود المفروضة عليها لأسباب ومصالح مختلفة، ولتتناغم نتائج هذه المساعي والجهود مع ما يسمى بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد .
ولكي تكون الفكرة قريبة على مدركات القارئ، وجب علينا التفريق بين (حرية التجارة) و(تحرير التجارة)، إذ ينصرف المصطلح الأول إلى إزالة جميع القيود التجارية والرسوم الكمركية سواء كانت مالية أم إدارية، أي إتباع سياسة (الأبواب المفتوحة). وقطعاً هذا الاسلوب لم يكن خيارا واقعيا ليتم إتباعه منذ نشوء الدولة القومية في عصر الماركنتيليين (التجاريين) في الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر والثامن عشر في أوربا ولغاية اليوم. لذا فنرى جازمين أن تخفيف القيود التجارية، وليس إزالتها، على انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال المادية والبشرية عبر الحدود الإقليمية للبلدان المختلفة هو ما ينصرف إليه مصطلح (تحرير التجارة). وقد نذهب بالتحليل إلى ابعد من ذلك مستنبطين من واقع التعاملات التجارية اليوم بين بلدان العالم في ظل الاتفاقات التجارية الثنائية والتكتلات الاقتصادية (الاتحاد الأوربي، النافتا، الآسيان، البركس) خارج إطار (WTO) بان التجارة الدولية تتجه إلى الداخل – أي التقييد بدلا من اتجاهها إلى الخارج بتحريرها. وهذا ما تجسده مثلا التجارة البينية لبلدان الاتحاد الأوربي الثماني والعشرين والتي لها ثقلا كبيرا في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، إذ تبلغ التجارة البينية لتلك البلدان (76%) من مجمل تجارتها الخارجية. ولهذا دلالة تشير إلى الانتقائية بتطبيق منهج تحرير التجارة الخارجية، بالرغم من أن هذه البلدان تشكل مركز ثقل البلدان الأعضاء المنضوية في منظمة التجارة العالمية (الراعي الرسمي لتحرير التجارة العالمية). والمعروف نظريا بان الأخيرة توصي أعضائها بفتح الأسواق لدخول منتجات الأعضاء الآخرين، وهذا ينطبق على اغلب التكتلات الاقتصادية الأخرى.
مما تقدم، نرى أن هناك نوايا خفية للبلدان المتقدمة باتجاه تقييد تجارتها الخارجية لضمان مصالحها لا تتسق مع النوايا المعلنة للبلدان عينها بما يخص تحرير تجارتها الخارجية وبالتحديد الجانب الزراعي. ولكي لا يفهم من هذا معنى التحامل او عدم الحيادية في الطرح والانحياز لجانب دون آخر، نستشهد بما قاله مدير منظمة التجارة العالمية (WTO) (باسكال لامي) في المؤتمر الوزاري لعام (2011) في جنيف إذ اقر بفشل الوزراء في تعديل قوانين المنظمة الحاكمة لتكون القوانين أكثر عدلا وتفتحا ومراعاة لمصالح البلدان النامية في النظام التجاري متعدد الأطراف الذي تتبناه المنظمة منذ (10) أعوام لم تشهد فيها أي تقدم بالنسبة لجولة الدوحة التي تدافع عن مصالح البلدان النامية، وانتقد (لامي) عودة الحمائية إلى سياسات البلدان المتقدمة في تعاملها مع صادرات البلدان النامية وعرقلة النفاذ إلى الأسواق. وأضاف إن البلدان العظمى لجأت إلى الاتفاقيات الثنائية هربا من تطبيق التزاماتها نحو البلدان النامية ووقف الدعم الذي تقدمة إلى صادراتها من منتجات زراعية وطرد سلع البلدان النامية من الأسواق بسبب عدم قدرتها على المنافسة مع صادرات البلدان المتقدمة المدعومة.
لذلك يحق لنا القول إن الإصرار المعلن من قبل مراكز الاستقطاب الاقتصادية العالمية ومن يجري بفلكها على إجبار البلدان النامية والأقل نموا بفتح أسواقها أمام منتجات البلدان الصناعية (وان الأخيرة تعلم جيدا أن لا خيار أمام البلدان النامية والأقل نموا سوى الإذعان لمطالب البلدان الصناعية المتقدمة أملا منها بالاستفادة من بعض الاستثناءات والإعفاءات التي تمنحها منظمة التجارة العالمية للبلدان النامية والأقل نموا من بعض الشروط التي تفرض على البلدان الصناعية المتقدمة. لكن الواقع على الأرض يشير إلى أن منظمة التجارة العالمية لم تسجل عبر تأريخها أية نتائج ايجابية ملموسة لصالح البلدان النامية، بل بالعكس كانت خيبة الأمل مصاحبة لاقتصادات هذه البلدان منذ تأسيس هذه المنظمة ولغاية اليوم) ما هو إلا تكريس وإدامة مبدأ تقسيم العمل الدولي الذي جعل وسيجعل من البلدان الصناعية المتقدمة مصدرة للسلع الصناعية ومستوردة للمواد الأولية بينما ستظل البلدان النامية مصدرة للمواد الأولية ومستهلكة لما يصنعه الآخرون. فضلا عن أن هذا الوضع سيعيد توزيع الدخل لصالح البلدان الصناعية بما يتحمله نصف الكرة الأرضية الجنوبي من تغييرات مناخية وكوارث طبيعية ناتجة عن الانبعاثات السامة من جراء عمليات التصنيع في الشمال.
إذا والحال هذه، على البلدان النامية أن تكون أكثر حذرا بالتعامل مع ما يطرح على الساحة الاقتصادية العالمية من أفكار وطروحات ومسميات اقتصادية جديدة نوعا ما، غاية في الدهاء، تسعى إلى الالتفاف على قوانين ومقررات المنظمات التجارية العالمية ومها على سبيل المثال سياسة التحديد الاختياري للصادرات، والتحديد الطوعي للاستيرادات لتكون بديلا للسياسات الضريبية والكمركية والسعرية والكمية والإدارية المعروفة والمقرة ضمن نشاطات منظمة التجارة العالمية، فضلا عما يتم طرحه من أفكار اقتصادية مغمسة بأفكار سياسية تهدف جعل السواد الأعظم من العالم (البلدان النامية) تنشغل بصراعات داخلية لها بداية وليس لها نهاية. وليس أدل على ذلك ما تضمنه كتاب (التنمية صنو الحرية) للاقتصادي الهندي (امارتاي سن) الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي قدم وصفة لتنمية البلدان النامية والتي أفضت إلى ما نحن عليه الآن من (ربيع عربي!)
وخلاصة القول إن منهج تحرير التجارة الخارجية الذي يعد جزء لا يتجزأ من السياسة الليبرالية الاقتصادية السائدة اليوم تحت عباءة النظام الاقتصادي العالمي الجديد قد أصبح خيارا لابد من الخوض فيه تحت وصاية (WTO)، بالرغم من رمزية هذا المنهج من حيث التطبيق على ارض الواقع. وعليه إذا كان هذا الخيار يعد فرصة لبعض البلدان، وبالتحديد النامية والأقل نموا للحاق بركب الحقيقة والخروج من العزلة على الصعيد الاقتصادي، فعلى تلك البلدان أن تخوض غمار حمى العولمة وهي محصنة ضدها.
(*) اقتصادي عراقي وموظف في وزارة الصناعة والمعادن
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيينز يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
الاراء الواردة في كل المواد المنشورة على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير وانما عن رأي كاتبها وهو الذي يتحمل المسؤلي
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية