نشر الزميل مصباح كمال مقالة بعنوان “شركة عامة لا تؤمن على عقودها” في موقع في شبكة الاقتصاديين العراقية في 7/3/2016.[1]
أود التعقيب على ما جاء في هذه المقاولة في محاولة لرسم صورة أوضح حول واقع سوق التأمين العراقي. سنركز، وباختصار، على ثلاثة قضايا هي:
تأثير الأزمة المالية على موقف الشركات العامة من شراء التأمين؛
سياسة تعويض المطالبات بالتعويض وموقف المؤمن لهم من شركات التأمين؛
سلوك المقاولين تجاه شرط التأمين في العقود الإنشائية.
نتيجة لانخفاض أسعار النفط العالمية دخلت الدول الريعية المصدرة للنفط في أزمة مالية واقتصادية، وكان العراق أحد المتضررين الكبار لجأت الحكومة العراقية على إثرها الى سلسة من الاجراءات التقشفية، وفي زيادة الاعتماد على الموارد والقدرات الذاتية لجسد الدولة ومفاصلها لتغطية وترشيد الانفاق. وقد تضمنت بعض الإجراءات الاعتماد على الشركات العامة المملوكة للدولة في محاولة لتحجيم الاستيراد وحث الشركات العامة لتدوير الاموال فيما بينها.
فقدد لجأت الشركات العامة، التي تحاول الفوز بمناقصات مثيلاتها، وتحقيقا لمتطلبات المنافسة مع القطاع الخاص الى تقليل كلف الإنتاج وخفض هامش الربحية قدر المستطاع ( يقدر بـ 10%). وكان التأمين أحد الفقرات التي إما تم الغاؤها أو محاولة التغاضي عنها قدر الامكان لخفض هيكل التكاليف ومحاولة تحقيق الربحية.
لذا فإن عدم قيام شركة عامة بالتأمين هو ليس بالأمر المستغرب، فمن خلال غض النظر عن إجراء التأمين فإنها تحاول تقبل المغامرة وإدارة الخطر بالاعتماد على قدرتها الذاتية من راس المال والاحتياطيات لتخطي اي حادث مستقبلي.
لقد كثر في الآونة الاخيرة الحديث عن مدقق دولي مثلما كثر السؤال حول هوية المدقق الدولي الغامض الذي يتجول بين أروقة المكاتب الحكومية معلنا عن قضايا فساد وهدر للمال العام. والتكتم حول أسمه هو أمر يدعو أيضا ” للشك والاستغراب “. نعرف أن هدر الاموال ليس بالغريب في بلد صنف في المرتبة الاخيرة وفق مقاييس النزاهة والشفافية.
ويتشارك مع العبء المالي ” من وجهة نظر جمهور الشركات ” عدم رغبة الافراد بالتأمين ما لم يكن بإجبار، إضافة إلى أسباب عدة يمكن أن تكون موضوعية ساعدت في بلورتها وتثبيتها شركات التأمين أيضا:-
- السياسة التعويضية الخاطئة لشركات التأمين واعتبار الزبون منتفعاً يحاول الربح من خلال استغلال وخداع الشركة والقفز على مبدا حسن النية، مما دفع الى ترسيخ الاعتقاد لدى الجمهور العام للمؤمن لهم من الشركات والأفراد بعدم قيام شركات التأمين بدفع التعويضات.
- يتذكر جمهور المؤمنين الفترة بين 1991-1995 والتي شهدت زيادة مضطردة في حوادث سرقة السيارات والتي كان أغلبها مفتعلاً بسبب الوضع الاقتصادي، مما أدى الى امتناع شركات التأمين عن دفع التعويضات، وكنتيجة لهذا الموقف بقيت فكرة إحجام شركات التأمين عن التعويض مترسخة في شخصية الفرد العراقي.
- زيادة أقساط التأمين بطريقة غير مدروسة وإهمال الجانب التسويقي للوثيقة دون الاعتماد على معدل الخسارة في فرع من فروع التأمين (Loss of Ratio ).
- الروتين وتأخير حسم التعويضات.
- تراجع قيمة العملة العراقية بعد حرب الكويت عام ١٩٩١ وانهيار الدينار العراقي، وانعكاسه بالسلب على حاملي وثائق تأمينات الحياة.
يعتبر التأمين الهندسي أحد أهم محافظ شركات التأمين في بلد يعاني من بنية تحتية مدمرة تحتاج الى إعادة بناء، الا أننا نشهد تراجعا غير مسبوق في أقساط التأمين في هذا الفرع:
إن السواد الأعظم من أعمال الهندسة المدنية الكبيرة تتم عن طريق الحكومة العراقية ( رب العمل ) من خلال المناقصات او الدعوات المباشرة.
عند إحالة المشروع، يطلب من المقاول / الجهة المنفذة استكمال كافة الاوراق المطلوبة بضمنها وثيقة التأمين الهندسي في مدة تتراوح من ( 14- 30) يوم. الا أنه وفي كثير من الحالات يقوم رب العمل بالتغاضي عن التأكد من وجود وثيقة التأمين الهندسي ويقوم بطلبها عند الشروع بإطلاق الدفعة الاخيرة من مبلغ المقاولة، عندها يلجأ غالبية المقاولين الى التغاضي عن التأمين في بداية المشروع فيما يبحث عن شركة تأمين لغرض إصدار الوثيقة بعد انتهاء المشروع ويكون القسط ضئيلاً كون المشروع قد أنجز بالكامل مما يحرم شركات التأمين من اقساط جيدة.
إن هذه الملاحظات لا تستنفد جميع قضايا سوق التأمين العراقي، وهي تستحق دراسات موسعة قائمة على الإحصائيات لكن مما يؤسف له أن هذه ليست متوفرة في غياب الشفافية في التعاملات.
(*) خبير في سوق التأمين العراقية
13حقوق النشر محفوظة لشبكة الافتصاديين العراقيينز يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر.17 آذار 2016
http://iraqieconomists.net/ar/
[1] يمكن قراءة نص المقالة باستخدام هذا الرابط:
http://iraqieconomists.net/ar/2016/03/07/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%b4%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%b9%d8%a7%d9%85%d8%a9-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d8%a4%d9%85%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b9%d9%82%d9%88%d8%af%d9%87/
لتنزيل نسخة سهلة الطباعة بصيغة بي دي أف انقر على الرابط التالي
Mustafa Nuri-Iraqi Insurance industry in the financial crises-final
ملاحظات إضافية حول سوق التأمين العراقي
متابعة لتعليق الأستاذ مهدي البناي
نشر الأستاذ تعليقاً على مقالة الزميل مصطفى نوري يضم أفكاراً مهمة صحيحة في مجملها، تدل على حرصه على مصالح المؤمن لهم في بيئة الأعمال السائدة في العراق وضمناً حرصه على شركات التأمين لتكون في مصاف ما هو متوقع منها من قبل رجال الأعمال والشركات والأفراد. وبودي هنا أن اشترك معه في التوسع بالتعليق من خلال الآتي بعد اختصار موضوعاته تحت عناوين جامعة لأفكاره.
(1) عقود التأمين مبهمة وغامضة
صياغة وثائق التأمين حقاً مبهمة ولهذا لجأت شركات التأمين في بريطانيا، مثلاً، إلى تبسيط اللغة لتحقيق الوضوح والفهم المشترك. وهكذا يلاحظ أن صياغة وثائق التأمين الحديثة الخاصة بالتأمينات الشخصية قد استغنت قدر الإمكان عن صيغة المبني للمجهول واستخدمت عبارات مخاطبة مباشرة: مثل “نحن” (شركة التأمين) و”أنت” (المؤمن له) لتقترب من اللغة اليومية.
وحقاً ما قلته في تعليقك بغياب استشارة المختصين من المحامين وغيرهم. قد يكون المحامي ضرورياً في صياغة العقد لكنه ليس مختصاً بتحليل الخطر ومصادره وآثاره على الأعمال. نحن هنا نتحدث عن المؤمن لهم من أصحاب الشركات الصناعية والتجارية، فهم من خلال المحامين وغيرهم من خبراء إدارة الخطر يستطيعون المساهمة في التفاوض على صيغة عقد التأمين، وبالتالي وبفضل مشاركتهم مع شركة التأمين في صياغة العقد فإن الأخير لن يكون عقد إذعان بالكامل – أي عقد التسليم بشروط موضوعة من قبل شركة التأمين.
معظم عقود التأمينات الشخصية تُصنف على أنها من عقود الإذعان. لذلك يتوجب على طالب التأمين أن يقوم بقراءة نص وثيقة التأمين بعناية إذ أن كل ما يرد فيها موضوعة من قبل شركة التأمين باستثناء المعلومات التي تظهر في جدول الوثيقة فهي معلومات يجهزها طالب التأمين.
بسبب طبيعة عقد التأمين القائم على الإذعان فإن أي غموض أو شك فيه يفسر ضد من قام بوضع العقد (شركة التأمين). وهو مبدأ أخذت به المحاكم وهو ما نراه من رفض المحاكم تطبيق الشروط التعسفية التي ترد في وثيقة التأمين. كما أن العقد يقوم على أساس مبدأ منتهى حسن النية من قبل طرفي العقد وفي جميع مراحل العقد. وهذان يخففان من أي تعسف قد تبديه شركة التأمين.
من ميزة هذا العقد هي أنها توفر لشركة التأمين القدرة على التنبؤ فيما يخص تقدير مسؤولياتها المستقبلية تجاه المؤمن لهم. وهو ما يجد ترجمته في وثائق التأمين على الحياة ووثائق التأمين الشخصي.
ومن المفيد أن نذكر أن عقود الإذعان لا تقتصر على التأمين فهي تشمل عقود الاستئجار، والرهون العقارية، وشراء السيارات، وغيرها من أشكال الائتمان الاستهلاكي.
(2) صناعة التأمين في العراق لم تبذل الجهد الكافي لتعزيز الثقة لدى الجمهور
جاء في تعليق الأستاذ مهدي البناي أن استطلاعاً بسيطاً لجمهور المؤمن لهم او غيرهم كافٍ لتكوين فكرة عن واقع وسمعة هذا القطاع. أي أن سمعة قطاع التأمين سلبية.
تعزيز الثقة بجمهور المؤمن لهم يأتي من خلال احترامه، والتعامل الكفوء مع المطالبة بالتعويض، وفي تقديم الخدمات كالسرعة في إصدار وثيقة التأمين والتظهيرات، وفي الكشف الموقعي وتقديم التوصيات لتحسين إدارة الخطر.
من باب التعميم يمكن القول أن هناك هبوط عام في مستوى تقديم الخدمات على أنواعها ومنها الخدمات التأمينية. لم تجرِ حسب علمنا دراسة لمستوى الخدمات لدى شركات التأمين الخاصة والعامة وتحديد الفرق بينهما. هناك الكثير مما تستطيع شركات التأمين القيام به لرفع مستوى الوعي بوجودها وخدماتها وعملها على إشاعة ثقافة التأمين. وهذه لن تأتي بمجرد الإعلانات التجارية أو التصريحات الصحفية الناقصة غير المدروسة.
حقاً إن القطاع مقصّر في حضوره وقد ذكرنا ذلك في مناسبات عدة. فليس للقطاع موقف من الانتخابات، والموازنة، والإصلاح الاقتصادي، ومشاريع القوانين التي لها مساس مباشر أو غير مباشر بالتأمين وغيرها.
(3) الجهة القطاعية المشرفة على اعمال شركات التأمين في العراق
ذكر الأستاذ البناي أن الجهة القطاعية المشرفة على اعمال شركات التأمين في العراق التي بإمكانها توفير بيانات عن حجم الاعمال المؤمنة ونسبتها للسوق وقيم التعويضات … الخ غير معروفة.
هذا كلام مهم لأنه يشير إلى ضعف حضور أجهزة القطاع في الحياة العامة، مما يستوجب على هذه الأجهزة التعريف بنفسها ضمن الوسائل المتاحة لها. وطالما ذكرنا أهمية التنسيق مع اتحاد الصناعات والمقاولين وغيرها من تنظيمات الأعمال.
فيما يخص الجهة القطاعية المشرفة على شركات التأمين فهي ديوان التأمين، أما الجهة التي تتولى إصدار البيانات عن حجم الأعمال المؤمنة والتعويضات فهي جمعية التأمين العراقية.
(4) تجربة الشركات والأشخاص مع شركات التأمين
يقول الأستاذ البناي أن هناك قناعة بأن الشركات والأشخاص سيخوضون تجربة مريرة مع شركات التأمين في حالة حصول حادث، تبدأ من المماطلة والتملص وتفسير الكلمات والعبارات في العقد لصالح شركات التأمين، فالعلاقة قائمة على الشك لا على مفهوم الشراكة والتعاون.
إنه لأمر صعب ومحزن أن تجد الشركات والأشخاص نفسها في موقع تجربة، كهذه التي يصفها، مع شركات التأمين، إذ يكفيها أنها تعرضت إلى أضرار وخسائر ربما تعرّضها إلى خسارة عملائها أو التوقف عن أعمالها إن لم تسعفها شركة التأمين بالتعويض.
سيكولوجية الشك لدى شركة التأمين يرمي بثقله على أسلوب التعامل مع مطالبة المؤمن له بالتعويض. نفهم أن شركة التأمين مؤتمنة على أقساط التأمين التي تجمعها من جمهور المؤمن لهم، ونفهم أنها يجب أن تكون حريصة على كيفية الإنفاق من صندوق الأقساط على طالبي التعويضات. لكن هذا لا يعني أن تتصرف شركة التأمين من موقف التشكيك بكل مطالبة بالتعويض. قد يكون الشك ضرورياً في الحالات التي تقوم على غش مبطن من قبل عدد قليل جداً من المؤمن لهم فيما يخص سبب الضرر والخسارة أو المبالغة المفرطة في تقدير قيمة المطالبة كوسيلة للاسترباح من وثيقة التأمين. ونرى ان يكون افتراض حسن النية هو السائد، وهو مبدأ أساس في تكوين عقد التأمين، مثلما يجب أن يكون تفسير الكلمات والعبارات غير الواضحة لصالح المؤمن له – وهو ما يقتضيه طبيعة عقد التأمين الذي يصنف كعقد إذعان، بمعنى إذعان المؤمن له لنص وثيقة التأمين الموضوع من قبل شركة التأمين، وخلاف ذلك يمكن مقاضاة شركة التأمين أمام المحاكم.
(5) من الصعب إشاعة ثقافة التأمين بأنواعه دون كسب ثقة السوق
هكذا بدأ البناي فكرته. وموقفه صائب في إدارة الأعمال: “كرجال اعمال نعتبر كلفة التأمين من الكلف المبررة ولا احسب ان هناك إدارة اعمال رصينة يمكن ان تتغاضى او تهمل غطاء تخفيض المخاطر، الا اذا أصبحت الكلف غير مبررة بحيث تكون كلفة تحمل الخطر اعلى من كلفة التأمين.”
كسب ثقة السوق، ثقة الشركات والأفراد، بالتأمين قضية مهمة في إشاعة التأمين. إحدى الوسائل الأساسية لتعزيز الثقة هي تسديد المطالبة بالتعويض دون تحميل المؤمن له أعباءاً إضافية ودون التعامل معه ابتداءاً من موقع الشك. ربما كتبتُ مرة بان تسديد التعويض، وخاصة الكبير منه، هو بمثابة “دعاية مسلحة” لشركة التأمين. ويبدو أن هذه الدعاية غائبة وفي أحسن الحالات ضعيفة لدى شركات التأمين.
لكن الأستاذ البناي يكتب: “ومن تجربة شخصية، نحن نؤمن على مصانع مجموعتنا لدى شركات تأمين عراقية، ولكن في يقيننا اننا وحدنا من سيتحمل كلف الاخطار ان وقعت.”
إذا كانت هذه القناعة قائمة حقاً لم اللجوء إلى تأمين المصانع إن لم يكن هناك إلزام قانوني بإجراء التأمين أو أن دائني المصانع يفرضون على المدين شراء وثيقة التأمين. لا بد إذاً أن يكون هناك دافعاً، مصحوباً بالقدرة على دفع أقساط التأمين، يدعو إلى اللجوء إلى الحماية التأمينية. عدا ذلك فإن هذه القناعة تتضارب مع اعتباره كلفة شراء التأمين مبرراً ومحسوباً من أي إدارة رصينة للأعمال – كما ذكر أصلاً.
ربما يكون لدينا مؤاخذات على سلوك بعض شركات التأمين لكنها في نهاية الأمر ملزمة بتسديد طلبات التعويض عن الأضرار والخسائر والمسؤوليات المدنية التي تغطيها وثائق التأمين. شركات التأمين لا تستوفي أقساط التأمين فقط، فهي تسدد التعويضات أيضاً. لنأخذ فرع التأمين على الحريق، فحسب إحصائية نشاط شركات التأمين العاملة بالعراق لعام 2013-2014، كانت أقساط وتعويضات التأمين كالآتي:
ألف دينار
السنة أقساط الحريق تعويضات الحريق
2013 28,451,519 2,520,951
2014 34,258,694 4,324,538
قد تكون هذه الإحصائية غير دقيقة لأن جمعية التأمين العراقية تعتمد على البيانات التي تردها من الشركات الأعضاء، لكنها تؤشر على وجود تعويضات وهي، بالمناسبة، منخفضة. وقل مثل ذلك عن فروع التأمين الأخرى.
(6) واقع قطاع التأمين هو جزء من واقع بيئة الاعمال المتهالكة
يختتم الأستاذ البناي تعليقه بأن واقع قطاع التأمين هو من واقع البيئة العامة للأعمال. وهي أطروحة طالما جئنا على ذكرها في مقالاتنا.
لا خلاف على أن واقع قطاع التأمين هو جزء من واقع بيئة الأعمال. لكن هذا لا يعفي قطاع التأمين، ممثلاً بشركاته الخاصة والعامة وبجمعية التأمين العراقية، من الخروج من آسار هذه البيئة، ورفع نوعية المنتج التأميني والخدمات المتعددة المرتبطة به بدءاً من التعامل مع طلب التأمين وانتهاءاً بتسديد التعويض المستحق للمؤمن له أو المستفيد من وثيقة التأمين. أقول هذا لأن قطاع التأمين الوطني في تاريخه الذي يمتد لما يزيد عن نصف قرن اتصف بدرجة نسبية عالية من الشفافية وانعدام الفساد واستمر في تواجده ضمن المتغيرات السياسية والاقتصادية الكبيرة والحروب. استلهام الجيد من ماضي القطاع قد يصبُّ في اتجاه تحسين الواقع الحالي.
أشكر الأستاذ البناي على تعليقاته وعلى توفير فرصة كتابة هذه الملاحظات.
الطلب على التأمين الهندسي، والفساد وتدني المستويات والإحصائيات
إنه لمبعث سرور شخصي أن يقوم ممارس شاب للتأمين بالتعقيب على ما كتبته. وطموحي أن أرى الآخرين يشاركون في البحث والكتابة في الشأن التأميني لنرفع من مستوى الثقافة التأمينية.
حاول الكاتب في تعقيبه أن يعالج باختصار الآتي:
– تأثير الأزمة المالية على موقف الشركات العامة من شراء التأمين؛
– سياسة تعويض المطالبات بالتعويض وموقف المؤمن لهم من شركات التأمين؛
– سلوك المقاولين تجاه شرط التأمين في العقود الإنشائية.
وكلها تستحق المزيد من البحث، ولكن له فضل إثارتها، وآمل أن يقوم وكذلك زملائه وزميلاته بالكتابة عنها والكشف عن المستور في ممارسة التأمين. وأنا هنا، وفي عجالة، اخترت أن أعلق باختصار على بعض ما جاء في مقالة الزميل مصطفى نوري.
الطلب على التأمين الهندسي
يقول الكاتب إن “التأمين الهندسي أحد أهم محافظ شركات التأمين في بلد يعاني من بنية تحتية مدمرة تحتاج الى إعادة بناء، الا أننا نشهد تراجعاً غير مسبوق في أقساط التأمين في هذا الفرع.”
من المعروف ان مصدر الطلب الأساسي لوثيقة التأمين الهندسي (وثيقة جميع أخطار المقاولين، وهي لأعمال الهندسة المدنية، ووثيقة جميع أخطار النصب، وهي لأعمال الهندسة الميكانيكية والكهربائية، بشكل عام) هو عقود الدولة إذ أن القطاع الخاص في العراق لم يدخل مجال العقود الإنشائية الكبيرة الممولة من قبله. وهو، القطاع الخاص، قد لا يشتري الحماية التأمينية لتقليص التكاليف. وهو موقف يقوم على الاستخفاف بالخطر ويعكس غياب العقلية الإدارية الحديثة التي تحاول أن تستقصي مصادر الخطر التي يمكن أن يتعرض له المشروع وتعمل على التصدي لها باعتماد أدوات إدارة الخطر ومنها تحويل عبء الخطر (تكاليف تمويله عندما يؤدي إلى وقوع ضرر أو خسارة) إلى شركة التأمين.
وهكذا وبسبب محدودية مصدر الطلب على التأمين الهندسي فإن تقليص الموازنة الاستثمارية يترجم نفسه إلى تقليص للإنفاق على المشاريع.
إن محفظة التأمين الهندسي تعاني أساساً من تسريب أقساط التأمين بفضل الحرية التي يوفرها قانون الاستثمار الاتحادي، وما يماثله في إقليم كردستان، للمقاول الأجنبي (والمشاريع الكبيرة هي دائماً من حصة المقاول الأجنبي) في شراء التأمين من شركة تأمين عراقية أو أجنبية (قانون الإقليم يقدم ألأجنبية على العراقية). والميل لدى الشركة الأجنبية هو تجنب التأمين محلياً.
يضاف إلى ذلك أن المقاول الأجنبي، عندما يكون مرغماً على شراء التأمين من شركة تأمين عراقية، كما هو الحال بالنسبة لعقود جولة تراخيص النفط، فإنه يفرض أفكاره، شروطه، على شركة التأمين العراقية مستفيداً من الانفلات التنافسي في تقليص ما تحتفظ به شركة التأمين من أقساط إلى حدودها الدنيا، وتعمل على إدارة إعادة التأمين لصالح شركات التأمين الأجنبية التي يتعامل معها في وطنه أو مع شركة التأمين المقبوضة له captive insurance company. وهكذا تتحول شركات التأمين العراقية إلى واجهات لشركات تأمين/إعادة تأمين أجنبية حسب رغبة المقاول الأجنبي، بدلاً من أن تتولى هي بنفسها إدارة العملية الاكتتابية في جميع مراحلها بما في ذلك قيامها بإعادة التأمين.
مظاهر للفساد، وتدني المستوى الإداري والفني
جاء في التعقيب “تغاضي رب العمل عن التأكد من وجود وثيقة التأمين الهندسي.” وهذا يؤشر على وجود خلل إداري في الرقابة على صرف الدفعات المستحقة للمقاول أثناء فترة الإنشاء، أو يؤشر على وجود فساد مالي (تواطؤ بين الموظف المسؤول عن المراقبة المالية لتنفيذ المقاول والمقاول)، وهو الأرجح بعد ظهور وصل القبض كبديل عن التأمين.
اللجوء إلى شراء وثيقة تأمين هندسي بعد إنجاز المشروع هو الآخر يؤشر على خلل قانوني وفني لدى شركة التأمين التي تقبل بإصدار الوثيقة لخطر تأميني غير موجود وبأثر رجعي يمتد من بدء فترة الدخول إلى موقع العمل لحين إنجاز آخر الأعمال وتسليم المشروع لرب العمل. المعلومات المتوفرة لدي تشير إلى أن شركتي التأمين العامتين لا تمارسان هذا النوع من التأمين. وللتعرّف على تفاصيل هذا الموضوع يمكن للقارئ أن يرجع إلى مقالة لي عنه.
يخطأ المقاول وتترتب عليه التبعات وكذلك شركة التأمين بالاتفاق بينهما على إصدار وثيقة تأمين بأثر رجعي كونها شكلية بدعوى انتفاء وجود الخطر بعد إكمال أعمال المشروع، خاصة إذا كان عقد الإنشاء، موضوع وثيقة التأمين، لا يضم بنوداً خاصة بالصيانة. ولكن نعرف أن معظم عقود الإنشاء تضم فقرة خاصة بصيانة أعمال المشروع بعد إنجازها، وبفضلها تستمر مسؤولية المقاول خلال فترة الصيانة (وتعرف أيضاً بفترة المسؤولية عن العيوب defects liability period) التي تمتد في معظم الحالات إلى سنة واحدة وفي حالات خاصة إلى سنتين. لو كان هناك عيب في المواد أو المصنعية أثناء فترة الإنشاء، لم يكتشف في هذه الفترة، أدى إلى وقوع ضرر مادي أثناء فترة الصيانة فإن المقاول يكون مُلزماً، بموجب عقد الإنشاء، إلى تصليح الضرر. وإذا كانت شركة التأمين قد أصدرت وثيقة التأمين بأثر رجعي لتغطية فترة الإنشاء وكذلك فترة الصيانة فإنها بحكم ما كانت تعتبره وثيقة شكلية ستكون مطالبة بتعويض المقاول عن الضرر إن تقدم لها بطلب التعويض. وهنا تنشأ تعقيدات قانونية قد لا تنتهي إلا باللجوء إلى القضاء.
وهكذا نرى أن الركض وراء الاسترباح دون مراعاة شروط عقد الإنشاء وقواعد ممارسة العمل التأميني على أسس فنية مقبولة ومتعارف عليها ترمي بثقلها السلبي على جميع الأطراف وعلى المجتمع أيضاً من خلال تشويه مؤسسة التأمين وعدم احترام القيم الأخلاقية.
إحصائيات سوق التأمين العراقي
في ختام تعقيبه ذكر الكاتب “إن هذه الملاحظات لا تستنفد جميع قضايا سوق التأمين العراقي، وهي تستحق دراسات موسعة قائمة على الإحصائيات لكن مما يؤسف له أن هذه ليست متوفرة في غياب الشفافية في التعاملات.”
إذا كان موضوع الإحصائيات هو حجم أقساط التأمين المكتتبة أو حجم وعدد المطالبات بالتعويض، فلا أرى أن هناك علاقة بين عدم توفر هذه الإحصائيات وغياب الشفافية في التعاملات. الإحصائيات موجودة وقد أخذت جمعية التأمين العراقية على عاتقها نشرها، وأظن بأنها نشرت مجموعتين منها تغطي السنوات الممتدة من 2005 إلى 2014. ربما يعود بعض النقص في هذه الإحصائيات إلى عدم تعاون بعض شركات التأمين الخاصة مع الجمعية. وربما يعود سبب “غياب الشفافية في التعاملات” إلى موقف هذه الشركات من الضرائب والرسوم المفروضة على أعمالها، وهي قد تلجأ إلى عدم الإفصاح عن الحجم الحقيقي لأقساط التأمين التي تكتتب بها كي تقلص من عبء هذه الضرائب والرسوم. ولكن، ربما انصرف ذهن الكاتب إلى أمر آخر بشأن الشفافية.
لعلنا نستطيع أن نكتب المزيد في وقت آخر ونتناول التعليق المهم الذي كتبه الأستاذ مهدي البناي. وله ولكاتبنا الشاب خالص التقدير.
الثناء والشكر على ما تفضلت به أستاذ مصطفى، وأسمح لي ان أضيف ما يلي:
١- عقود التأمين من العقود المبهمة والغامضة والشائكة (صياغةً) ومن المتعذر الإحاطة بها من قبل المؤمن له. وهذا شأنها في جميع دول العالم . كما ان ثقافة إدارة الاعمال القائمة على استشارة محامي مختص بعقود التأمين ايضا غائبة على ما يظهر. وبالتالي سيعتمد المؤمن له على أمانة شركة التأمين .. وسيرضخ لما قدم له، فهي أشبه بعقود الاذعان. فإذا ارادت شركة التأمين التهرب من التعويض تستطيع ذلك بسهولة من خلال استغلال عشرات الثغرات التي لا يحيط بها المؤمن له.
٢- صناعة التأمين في العراق لم تبذل الجهد الكافي لتعزيز الثقة لدى الجمهور. ومن استطلاع بسيط لجمهور المؤمن لهم او غيرهم تستطيع تكوين فكرة عن واقع وسمعة هذا القطاع. ولا اعرف الجهة القطاعية المشرفة على اعمال شركات التأمين في العراق والتي من الممكن ان تزودنا ببيانات عن حجم الاعمال المؤمنة ونسبتها للسوق وقيم التعويضات … الخ
٣- قناعة الشركات والأشخاص انهم سيخوضون تجربة مريرة مع شركات التأمين في حالة حصل الحادث ، اذ ستبدأ رحلة المماطلة والتملص وتفسير الكلمات والعبارات في العقد لصالح شركات التأمين، فالعلاقة قائمة على الشك لا على مفهوم الشراكة والتعاون .
٤- من الصعب إشاعة ثقافة التأمين بانواعه دون كسب ثقة السوق.. الخطوة الاولى لقيام هذه الصناعة هي من واجب شركات التأمين. كرجال اعمال نعتبر كلفة التأمين من الكلف المبررة ولا احسب ان هناك إدارة اعمال رصينة يمكن ان تتغاضى او تهمل غطاء تخفيض المخاطر، الا اذا أصبحت الكلف غير مبررة بحيث تكون كلفة تحمل الخطر اعلى من كلفة التأمين… وهذا نادر جدا ويحدث في مناطق الحروب والمخاطر المؤكدة فقط.
حاليا ومن تجربة شخصية، نحن نؤمن على مصانع مجموعتنا لدى شركات تأمين عراقية، ولكن في يقيننا اننا وحدنا من سيتحمل كلف الاخطار ان وقعت لا سمح الله.
اخيرا، ان واقع هذا القطاع هو جزء من واقع بيئة الاعمال المتهالكة عموما من نظام مصرفي وكمركي واستثماري …الخ.
شكرًا على ما تفضلتم به والشكر موصول للاستاذ الكبير مصباح كمال