محمد حديد

نجدة فتحي صفوة: أضواء على مذكرات محمد حديد – الاقتصادي والصناعي والشخصية السياسة الوطنية

محمد حديد شخصية سياسية وطنية عراقية حازت احترام العراقيين على اختلاف  اتجاهاتهم وانتماءاتهم. عرف بثقافته العصرية الواسعة، ونزاهته المطلقة،  وتفكيره الهادي العميق. كان موضع التقدير في جميع العهود السياسية التي  توالت على العراق
في ظل النظامين الملكي والجمهوري، سواء اكان في الحكم ام في المعارضة. وكان تقدير نوري السعيد له – مثلا – لا يقل عن تقدير عبد الكريم قاسم الذي اسند اليه وزارة المال في اول حكومة عراقية في العهد الجمهوري من دون ان تكون له معرفة شخصية سابقة به، بل استنادا الى سمعته وكفاءته.
وسجل كامل الجادرجي في مذكراته رأيه في محمد حديد الذي زامله في العمل الحزبي نحو ثلاثين عاماً، قائلاً.
بالرغم من اني غير متفق معه كل الاتفاق في طريقة العمل، ولكنني اعتبره من الاشخاص النادرين في العراق بالنظر لمتانة اخلاقه ومقدرته العلمية في القضايا الاقتصادية والمالية، ولسعة اطلاعه في الامور الاخرى. إذ قلما تجتمع الثقافة والاخلاق في شخص مثلما اجتمعت في محمد حديد.
تولى محمد حديد وزارات المال والصناعة والاعمار في العهد الجمهوري فكان الوزير الذي يستمد قوته من كفايته ونزاهته وثقافته، والسياسي الذي لم يمالئ من اجل منصب، ولم يتراجع عن موقف من اجل مغنم، ولم يحل انتماؤه الى اسرة ثرية من وجهاء الموصل، دون اعتناقه الافكار الاشتراكية التقدمية المعتدلة التي وجدها ضرورية لرفع مستوى شعبه، ولم يتأثر بخلفيته العائلية ولا بمصالحه الشخصية. وكان سياسياً مثالي الافكار وواقعي الرؤية في الوقت نفسه، وقد حاول التوفيق بين الاماني الوطنية، والامكانات المتوافرة لتحقيقها، ونجح في مسلكه هذا نجاحاً كبيراً.
ولد محمد ابن الحاج حسين من محمد علي بن محمود بن رفاعي حديد في الموصل سنة 1907، وهو يتحذر من عائلة موصلية كانت تتاجر مع سورية قبل الحرب العالمية الاولى، ثم اتجهت الى الصناعة واستثمار العقارات. كان والده الحاج حسين حديد (1863 – 1958) من وجهاء الموصل وتجارها الاثرياء، وكان ناشطاً في مجتمع الموصل وفي قضية الدفاع عن عائديتها الى العراق خلال الخلاف الذي نشب بشأنها مع تركية عقب الحرب العالمية الاولى، وقد تولى رئاسة بلدية الموصل سنة 1927، لمدى سنتين. يروي ناجي شوكت الذي كان متصرفا للواء الموصل – وهو الذي اختاره لتلك المهمة – انه لما توفي رئيس بلدية الموصل سنة 1927، اخذ يبحث عن رجل منفتح الذهن، عصري التفكير ليتولى رئاسة البلدية ويواكب متطلبات العصر، حتى علم ان لأحد اعضاء المجلس البلدي ولدا يدرس في اوروبا. قال شوكت: “ففكرت في الاستفادة من مثل هذا الرجل الذي اقدم على ارسال ولده الى الخارج ليتابع دروسه. وقد وليته رئاسة البلدية الشاغرة بالوكالة، فكنت موفقا في هذه التولية..”.
اما والدة محمد حديد فتنتمي الى اسرة موصلية معروفة اخرى، وهي اسرة “الدباغ” التي كان لها نشاط تجاري واسع مع الاقطار الاوروبية، ودور في مجال الخدمة العامة في العهد العثماني ثم في العهد الوطني. وقد تولى الحاج سليم جلبي الدباغ، وهو عم والدة محمد حديد، رئاسة بلدية الموصل سنتي 1912 و 1913.
تلقى محمد حديد دراسته الابتدائية والثانوية في مدارس الموصل، ثم اكمل دراسته التحضيرية في الجامعة الاميركية في بيروت، وقد ارسله والده للدراسة في الخارج في ذلك الوقت المبكر يوم كان ارسال الاولاد للدراسة خارج العراق امراً غير مألوف. وبعد اكماله الدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت Junior College، قبل في “مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE) وهي احدى كليات جامعة لندن. و
وتخرج محمد حديد فيها سنة 1931 بدرجة شرف، ولعله كان أول عراقي يتخرج في هذه الكلية ذات المستوى العالي والمكانة العلمية المرموقة عالمياً. وكان في عداد اساتذته عدد كبير من مشاهير العلماء الاقتصاديين الذين برزوا بعد ذلك في صفوف (حزب العمال) البريطاني وشغلوا مناصب مهمة، مثل كلمينت آتلي (رئيس الوزراء في ما بعد) وهيودولتن (وزير المالية في حكمة آتلي العمالية) وريتشارد تاوني، وجون مينارد كينز (اللورد كينز)، وهارولد لاسكي وغيرهم ممن سيرد ذكرهم في هذه المذكرات.
ولاشك في ان دراسة محمد حديد في لندن على أيدي هؤلاء العلماء الاقتصاديين، كانت من اهم العوامل في صوغ افكره الديمقراطية والاشتراكية، واعتناقه مبادئ العدالة الاجتماعية التي آمن بها، ودافع عنها، وعمل لأجلها طوال حياته.
وعلى اثر عودته الى العراق عين محمد حديد في وزارة المال، وتدرج في وظائفها منذ ايلول (سبتمبر) 1931، فكان مفتشا مالياً، فوكيلا لمدير التجارة والاقتصاد، فوكيلا لمدير الواردات العام.
وفي الوقت نفسه، اتصل محمد حديد، بعد عودته، بمجموعة من المثقفين الذين سبق ان زامل بعضهم في الجامعة الاميركية في بيروت، وتعرف الى البقية بعد عودته، كان احد المؤسسين الاوائل لجماعة الاهالي التي تبنت افكارا مشابهة لمبادئ “الجمعية الفابية” وحزب العمال البريطاني في ذلك الوقت، وكان لها اثر كبير في نشر الوعي السياسي التقدمي في العراق وقد اجتذبت هذه الجماعة الى صفوفها بعض السياسيين الذين كانوا اكبر منهم سناً، مثل كامل الجادرجي وجعفر ابو التمن وحكمت سليمان، وعدداً من المثقفين منهم خليل كنه، وجميل عبد الوهاب، ممن حافظوا على اتجاههم الاشتراكي او انفضوا عنه وانقلبوا عليه في ظروف مختلفة.
وقد طورت هذه الجماعة في اوائل الثلاثينيات الافكار والمبادئ التي عرفت باسم “الشعبية”. وكانت “الشعبية تعزف بانها “رأي في الاصلاح الاجتماعي يهدف الى ضمان امن الشعر باسره، ورخائه، وتقدمه، على اساس الفرص المتساوية للمواطنين جميعا”.
والواقع ان الافكار التي عرفت باسم “الشعبية” كانت افكارا غربية حديثة، وان تسميتها “الشعبية” كان لتلافي استخدام كلمة “الاشتراكية” التي كانت مقترنة وقتذاك، في اذهان العامة، بالشيوعية والبلشفية.
وكانت اهداف “جماعة الأهالي” – التي كان محمد حديد من مؤسسيها الأوائل ومن أبرز اعضائها – تقترب من الاشتراكية باعتدال، وتشدد على قيام الدولة بوضع خطة اقتصادية تنسجم مع اوضاع البلاد وحاجات الشعب، وتؤمن سيطرتها على الصناعات المهمة، وتشجع الجمعيات التعاونية، وتقرّب الفروق الاقتصادية. وكانت تعترف في الوقت نفسه، بحرية مزاولة الشعائر الدينية، والاحتفاظ بالنظام العائلي، وتقترب من التفكير الليبرالي بتبنيها حرية الفرد واحترام حقوقه وملكيته، وكذلك بتبنيها النظام البرلماني اسلوبا للحكم. وكانت “جماعة الاهالي” اول جماعة يسارية في العراق في مرحلة الثلاثينيات، وان لم تكن حزبا سياسياً بالمعنى القانوني.
شجعت “جماعة الأهالي” أول انقلاب عسكري في العراق (بل في البلاد العربية)، وهو انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان، الذي اسهمت فيه واشترك بعض اعضائها في حكومته. ولم يستهدف ذلك الانقلاب نظام الحكم، بل كان هدفه الوحيد اسقاط حكومة ياسين الهاشمي، مع الحفاظ على النظام الملكي والبرلمان.
ومع ذلك، فقد كان اشتراك “جماعة الأهالي” في انقلاب عسكري غلطة ندموا عليها بعد ذلك، وخصوصاً بعد ظهور نيات بكر صدقي في الاستحواذ على سلطات دكتاتورية، ولكن لا شك ان تأييدهم للانقلاب، واشتراكهم في حكومته، كان بنية حسنة، ورغبة في الاصلاح، وذلك بعد ان عجزت الوسائل السلمية والبرلمانية عن تغيير الحكومة وإصلاح الوضع بالطرق الدستورية، حسب ادعائهم.
وبادرت حكومة الانقلاب الى حل المجلس النيابي واجراء انتخابات جديدة، وبنتيجة الانتخابات التي اجريت بشيء من الحرية النسبية، فاز محمد حديد بالنيابة عن لواء الموصل. وكانت تلك بداية حياته السياسية الرسمية، اذ كان قبل ذلك، ومنذ عودته من الدراسة في انكلترا، موظفا في وزارة المال، ولم يكن مسموحا ان يمارس السياسة علنا او يكتب فيها.
وفي الجلسة التي عقدها مجلس النواب في يوم 6 آذار (مارس) 1937، قدم ثلاثة عشر نائباً، بينهم محمد حديد، تقريراً طالبوا فيه بتشريع قانون لمحاسبة رجال الحكم والموظفين الذين استغلوا مناصبهم ونفوذهم في العهود السابقة لتحقيق منافع مادية على حساب المصلحة العامة، وجمعوا ثروات كبيرة بهذه الطريقة لكي يكونوا عبرة في الحاضر والمستقبل. واقترح النواب في تقريرهم تأليف لجنة تحقيق تحصي الثروات التي يملكها الوزراء السابقون وموظفو الدولة، وتتحرّى عن طريقة حصولهم عليها، وتوصي بمصادرة ما اكتسب منه بطرق غير مشروعة.
وقد تذاكر المجلس في هذا التقرير في جلسته المنعقدة يوم 29 أذار (مارس) 1937، فتكلم النائب اليهودي يوسف الكبير الذي كان من المع رجال القانون، معارضا فكرة محاسبة الاشخاص بهذه الطريقة، لأن الأصل براءة الذمة، واذا كان لدى الحكومة تهمة معين ضد احدهم فيجب ان توجه الى الشخص لمحاسبته عليها.
وتكلم محمد حديد في هذه المسألة وقال:
“اعتقد ان العمل المثمر لايمكن ان يتحقق اذا لم تسبقه هذه العملية. فقد مضت ادوار تذهب فيها حكومة وتأتي حكومة، والذين يسيئون الاستعمال يأخذون الاراضي والاموال، وكل هذا يستثمرونه بنفوذهم. نريد ان نقضي على هذه السمعة.
نريد ان يعرف الرجال، سواء الموظفون او غيرهم، ان هناك محاسبة، والذي يظهر بعد المحاسبة ان لديه سوء استعمال يجب ان ينزل عليه اشد العقاب”.
وبعد ان تكلم في الموضوع نفسه عدد من النواب الآخرين، وافق المجلس على احالة التقرير على الحكومة، فأحيل عليها، ولم تظهر له اي نتيجة.
وعلى أثر اغتيال بكر صدقي في الموصل، استقالت حكومة حكمت سليمان وخلفتها حكومة ألفها جميل المدفعي، وما كادت هذه الوزارة تتسلم امور البلاد في 17 آب (اغسطس) 1937 حتى بادرت الى حل مجلس النواب الذي جاءت به حكومة الانقلاب، واجرت انتخابات جديدة، لم يشترك فيها محمد حديد، فانصرف الى الاعمال الاقتصادية، واسس “شركة الزيوت النباتية” التي اصبح مديراً مفوضا لها.
وبدأت الشركة انتاجها سنة 1943، وبقي في هذا الميدان سنوات طويلة حصدت الشركة خلالها نجاحا كبيراً، وفي الوقت نفسه، لم ينقطع محمد حديد عن مواكبة الحياة السياسية، وسنة 1946 اشترك مع كامل الجادرجي في تأسيس “الحزب الوطني الديمقراطي” وانتخب نائبا لرئيسه، واسهم في تحرير جريدة الحزب “صوت الاهالي” بمقالات اقتصادية وسياسية اتسمت بموضوعيتها واسلوبها العلمي وجديتها ومعالجتها القضايا الحيوية التي تهم البلاد والشعب في رؤية تقدمية عصرية.
وفي 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1946 عهد الى نوري السعيد تأليف الحكومة التاسعة، خليفة لوزارة ارشد العمري المستقيلة. اراد السعيد ان يضفي على حكومته صبغة قومية او مؤتلفة بان يشرك فيها بعض ممثلي الاحزاب، ولكنه نأى عن “حزب الاستقلال” والحزبين اليساريين المتطرفين وهما “حزب الشعب” و”حزب الاتحاد الوطني”. كذلك سعى الى التقرب من “الحزب الوطني الديمقراطي” و”حزب الاحرار” ووفق في آخر الأمر في اقناعهما بالاشتراك معه في الحكومة، وادخل ممثلا واحدا عن كل من الحزبين، فكان علي ممتاز الدفتري يمثل “حزب الاحرار”  – وزيرا للمواصلات والاشغال – ووافق “الحزب الوطني الديمقراطي” عل ان يمثله نائب رئيس الحزب محمد حديد، وزيراً للتموين. وكانت هذه وزارته الاولى.
وارسل رئيس “الحزب الوطني الديمقراطي” كامل الجادرجي الى رئيس الوزراء نوري السعيد في هذه المناسبة، كتابا ابدى فيه ان اللجنة الادارية المركزية للحزب قد تداولت الأسس التي يمكن التعاون معه في ظلها والاشتراك في الحكم، فوجدت اللجن ان الحزب يقبل الدخول في الحكومة على ان تكون حكومة انتقالية مهمتها اجراء انتخابات حرة، واطلاق الحريات المنصوص عليها في الدستور، بما في ذلك حرية الصحافة والاجتماع، وحرية العمل للاحزاب. واضاف رئيس الحزب انه في ما يختص بامور الدولة وشؤونها ومزاولة اعمالها، ينحصر تعوان الحزب معه في ادارة الاعمال الروتينية فحسب.
ولم تدم عضوية محمد حديد في الحكومة طويلاً، اذ فوجئت الحكومة بعد تأليفها بمدة قصيرة بعاصفة من الاحتجاجات على عدم التزامها ما تعهدته للاحزاب عند موافقتها على الاشتراك في الحكومة، وذلك بعدم السماح للاحزاب السياسية يفتح فروع لها في الالوية، وبالتدخلات السافرة في الانتخابات التي شرعت الحكومة في اجرائها. ولذلك قرر ممثلا الحزبين السياسيين المشتركين في الحكومة السعيدية التاسعة، ان ينسحبا من الوزارة.
تبادل وزير التموين محمد حديد ورئيس الوزراء نوري السعيد مراسلات مهمة لم تتضمنها مذكرات محمد حديد، ولعلها لم تكن في متناوله عندما كان يملي مذكراته في لندن، او كان ينوي اضافتها في ما بعد..
عاد محمد حديد، بعد استقالته من وزارة التموين الى عمله في ادارة “شركة الزيوت النباتية”، والى نشاطه السياسي في “الحزب الوطني الديمقراطي” بعد ان قضي في الوزارة اربعين يوما. وانتخب نائبا عن لواء الموصل في الانتخابات التي اجريت في عهد وزارة السيد محمد الصدر في 15 حزيران (يونيو) 1948 (الدورة النيابية الثانية عشرة)، والتي استقال السيد محمد الصدر بعدها مباشرة وعهد الى مزاحم الباجه جي في تأليف الحكومة الجديدة.
وفي عهد حكومة توفيق السويدي الثالثة، حدثت في جلسة المجلس النياب المنعقدة في 6 اذار (مارس) 1950 مشادة كلامية بين بعض النواب المعارضين وبعض مؤيدي الحكومة، وتبودلت عبارات شديدة واهانات، فنادى نواب المعارضة بوجوب ترك الجلسة والاستقالة من النيابة. وبلغ عدد المستقلين 37 نائباً، وكان نائب الموصل محمد حديد احدهم، وعلى اثر ذلك عاد فتفرغ لاشغاله الخاصة.
وسنة 1952، في عهد حكومة مصطفى العمري، حدثت الاضطرابات التي عرفت باسم “انتفاضة تشرين الثاني”. وقد بدأت عقب نزاع بين طلاب كلية الصيدلة وادت الى انتشار الاحزاب بين طلاب الكليات والمدارس الاخرى، وخرجت تظاهرات صاخبة تسببت باشتباكات بين المتظاهرين ورجال الشرطة جرح على اثرها بعض الطلاب وافرد الشرطة وسقط قتيل واحد. ثم انتشرت التظاهرات خارج بغداد، فلما تفاقمت الامور وعجزت الحكومة عن تهدئة الوضع اضطر رئيس الوزراء مصطفى العمري الى الاستقالة، وعهد الوصي على العرش في تأليف الحكومة الى رجل عسكري هو (العميد الركن) نور الدين محمود الذي كان رئيساً لأركان الجيش. فاعلنت الحكومة الاحكام العرفية، وحلت الاحزاب، وعطلت الصحف، واعتقلت عدداً من الحزبيين والمعارضين.
كان محمد حديد في تلك الفترة، في زيارة الى لندن، فقام بنشاط كبير ودعاية واسعة للحزب الوطني الديمقراطي، فاتصل ببعض الصحف والمجلات المهمة مثل “الايكونوميست”، و”التريبيون” و”نيو ستيتسمان اند تيشن”، وبجرائد منها “التايمس” و “مانشستر غارديان”، وبعدد من اعضاء مجلس العموم والشخصيات البارزة في انكلترا مثل انورين بيفان وكينغزلي مارتن واليزابث مونرو، وكتب رسائل عدة الى محرري الصحف الكبرى، منها رسالة الى محرر “التايمس” اللندنية قال فيها: “ان الاحوال المؤسفة السائدة في العراق يجب القضاء عليها بالديمقراطية الصحيحة، ولا يمكن معالجة الشعور المعادي للبريطانيين إلا عندما يشعر الشعب العراقي بان بريطانيا تؤيد اقامة الديمقراطية الصحيحة في العراق.
وكتب الى محرر “مانجستر غارديان” رسالة اخرى انتقد فيها تسامح المحرر مع الدكتاتوريات العسكرية، وذكر ان شعوب الاقطار المختلفة في القرن العشرين ادركت حقوقها في الحرية والعدالة في ظل حكم دستوري، واذا ما ساندت بريطانية الدكتاتوريات فانها ستخسر ود تلك الشعوب وصداقتها”.
وقد علق المحرر على ذلك قائلا: “اذا كان الحكم العسكري هو البديل الوحيد لحكم الغوغاء، واذا نقد الاصلاحات الجذرية، فلا بأس به”.
فرد عليه محمد حديد قائلاً: “ان تحقيق مطالب الاحزاب المعارضة لا يعتبر حكم غوغاء”.
وكتب محمد حديد مقالة في مجلة “تريبيون” العمالية الشهيرة، ووجه رسالة الى الزعيم العمالي انورين بيفان، واشترك في ندوة عقدها القسم العربي لهيئة الاذاعة البريطانية في 3 كانون الاول (ديسمبر) 1952. موضوعها الاصلاح الاجتماعي والسياسي في الشرق الاوسط.
كان لنشاط محمد حديد في لندن خلال تلك الاحداث التي اجتاحت العراق، اثر كبير في افهام الرأي العام البريطاني حقيقة الاوضاع في العراق، ولو كان موجودا في بغداد في ذلك الوقت، لاعتقل حتما، فقد اعتقلت السلطات معظم اقطاب الحزب الوطني الديمقراطي مثل كامل الجادرجي وحسين جميل وقاسم حسن وغيرهم.
في الانتخابات التي اجريت في عهد حكومة ارشد العمري في تموز (يوليو) 1954، اشتركت الاحزاب المعارضة تحت لائحة “الجبهة الوطنية” وانتخب محمد حديد نائبا عن لواء الموصل للمرة الثالثة، ولكن نوري السعيد الذي ألف الحكومة بعد استقالة العمري، اصرّ على حلّ هذا المجلس بعد الجلسة الوحيدة التي عقدها، برعم انه لم يكن للمعارضة فيه سوى احد عشر نائباً.
ولما حلّت سنة 1958 كان عدد من ضباط الجيش الذين عرفوا في ما بعد باسم “الضباط الاحرار” يتهيأون للقيام بانقلاب عسكري بقيادة الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم، فاتصلوا بمحمد حديد وبآخرين من زعماء الاحزاب المعارضة، وحصل اتفاق بين زعماء الاحزاب على تأييد الحركة من حيث المبدأ. ولما نجح اولئك الضباط في تنفيذ ما يطمحون اليه في 14 تموز (يوليو) 1958، واعلنت الجمهورية في العراق، اختير محمد حديد وزيراً للمال، ممثلاً الحزب الوطني الديمقراطي، بسبب سمعته الطيبة وكفائته العالية، واضطلع محمد حديد بعد ذلك، وفي فترات لاحقة، بوزارة الاعمار ووزارة الصناعة، اضاف الى منصبه وزيراً اصيلاً للمال.
وفي وزارة المال شمّر محمد حديد عن ساعديه وشرع ينفذ اصلاحاته في ضوء متطلبات العهد الجديد من تغييرات ادارية، وتشريع بعض القوانين المهمة، ومساعدة النقابات والمنظمات المهنية، والغاء التجميد الذي فرض على ارصدة العراق الاسترلينية بعد الثورة، ودعم الثورة الجزائرية مالياً، والعناية بقضايا الاعاشة والاسكان. ولذلك كله اضافة الى دوره المهم في المفاوضات مع شركات النفط الاجنبية واصدار القانون الرقم 80 الذي يعد محمد حديد مهندسه. وقد حافظ هذا القانون على حقوق العراق في الاراضي غير المستثمرة. ويرى الكثيرون ان هذا القانون، وعملية مصدق في تاميم النفط في ايران، اهم التطورات في مجال صناعة النفط في الشرق الاوسط واخطرها.
وسنة 1960 حدث انشقاف في صفوف “الحزب الوطني الديمقراطي” واختلف محمد حديد، للمرة الاولى منذ نحو ثلاثين عاماً، مع زميل النضال كامل الجادرجي الذي كان يصر على سحب اعضاء “الحزب الوطني الديمقراطي” من الحكومة. ورأى الجادرجي ان يوقف الحزب تعاونه مع عبد الكريم قاسم، في حين رأى محمد حديد ان الجمهورية في ذلك الوقت، كانت تسير بخطى حثيثة وواسعة نحو تحقيق المزيد من الاهداف والاماني الوطنية، وان الديمقراطية لايمكن ان تتحقق بين ليلة وضحاها، ولا بد ان تستقر تدريجيا، وليس هنالك في ذلك الحسن بديل مقبول لعبد الكريم قاسم الذي سيضع اسقاطه او اضعافه العراق في ايدي المتطرفين. لذلك رفض محمد حديد مطالبة كامل الجادرجي باستقالته من الحكومة، وكان يرى ان من الواجب الاستمرار في التعاون مع الحكومة، وان كان الحزب واعضاؤه عرضة لاخطار شخصية، لأن الموقف يتطلب التضحية في سبيل استمرار المسيرة.
ونتيجة لالحاح رئيس “الحزب الوطني الديمقراطي” كامل الجادرجي على محمد حديد بوجوب الانسحاب من الحكومة، ابدى محمد حديد انه اذا اصر الجادرجي على لزوم انسحابه من الحكومة، فانه يرى نفسه مضطراً الى الانسحاب من الحزب ايضا. فابدى الجادرجي، بعد تردد، ان لا مانع لديه من خروج محمد حديد من الحكومة ومن الحزب في وقت واحد سنة 1961.
ولما اعلن عبد الكريم قاسم قبول الاستقالة جاء في البيان الذي اصدره: “ان محمد حديد سيبقى سندا للثورة من خارج الحكومة، كما كان في داخلها”.
وعلى أثر استقالته من عضويته في “الحزب الوطني الديمقراطي”، ونظراً الى الاوضاع الجديدة في ذلك الحزب، قرر بعض مؤيدي محمد حديد الذين كانوا يتفقون معه في موقفه، تكوين تنظيم حديد في شكل حزب يدعو الى اهداف “الحزب الوطني الديمقراطي” ومبادئه، مع التشديد على دعم الثورة والدعوة الى تطويرها الى نظام ديمقراطي برلماني تعددي. وهكذا، تأسس حزب جديد باسم “الحزب الوطني التقدمي” وانتخب محمد حديد رئيساً له. واصدر الحزب جريدة ناطقة بلسانه اسمها “البيان”.
واتخذت فئات سياسية اخرى موقفا معاديا من الحزب الجديد ومن اتجاه جريدته، وراحت تقاومها بشدة معتبرة الحزب الجديد مؤيدا لعبد الكريم قاسم ونظامه، في حين ان جريدة “البيان” كانت تدعم عبد الكريم قاسم في الاعمال والتشريعات التي تحقق اهداف الثورة الاصلية. وكانت، في الوقت نفسه، لا تحجم عن الدعوة الى تطوير النظام السياسي بوضع دستور دائم وقيام نظام نيابي وانتخابات حرة، مع ضمان الحريات وفقا لنظام تعددي.
وهكذا انفصل محمد حديد عن “الحزب الوطني الديمقراطي” الذي كان من بناته، والشخص الثاني فيه والساعد الأيمن لرئيسه، واتهمه بالسلبية. وقد حمل ذلك خصومهما على الشماتة بهما، وكتب خليل كنه في مذكراته مهاجما كامل الجادرجي، قائلاً: “.. وقام كامل الجادرجي يندد بزميل الامس، فاعاد الى الذاكرة اقتراح نوي السعيد على الاحزاب التعاون معه، ثم اصرار نوري السعيد على اختيار محمد حديد ليكون ممثل الحزب في الوزارة، وذلك عام 1946”.
ومع ذلك فقد احتفظ الرجلان بصداقتهما، واستمرت علاقتهما على الصعيد الشخصي حضارية تتسم بالود والاحترام المتبادل. وزار كامل الجادرجي محمد حديد في السجن خلال اعتقاله بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 الذي اطاح حكومة عبد الكريم قاسم.
كان محمد حديد، في المرحلة التي انفصل فيها عن كامل الجادرجي و”الحزب الوطني الديمقراطي”، مؤيداً بقاء عبد الكريم قاسم في السلطة، معارضاً كل محاولة لاسقاطه، لانه رأى ان سقوطه سيعود على العراق بكوارث جديدة. ولكنه كان، في الوقت نفسه، يلح على عبد الكريم قاسم بوجوب اجراء الانتخابات وانهاء الفترة الانتقالية في اسرع وقت. وقد طالب المؤتمر الثاني لـ”الحزب الوطني التقدمي”، حزب محمد حديد الجديد، “بإنهاء الاوضاع الاستثنائية، والغاء الاحكام العرفية، وتحقيق اهداف ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وذلك باقامة نظام دستوري ديمقراطي يضمن للشعب حرياته، ويوفر له جميع مستلزمات الحياة السعيدة”. إلا ان عبد الكريم قاسم كان يتلكأ في اجراء الانتخابات لأسباب واعذار متنوعة، منها توتر الشارع السياسي، وانشغاله في مواجهة المؤامرات العديدة على نظام حكمه وعلى العراق. عدا ان تقارير الاجهزة الامنية كانت تحذر من “انتخاب مجلس يتسرّب اليه رجال المعارضة الذين سيتحولون حجر عثرة من دون تقدم الجمهورية السريع في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.
كان محمد حديد يشدد على تلك المطالب في مقابلاته المتكررة مع عبد الكريم قاسم، ولكن العناصر المعادية له كانت تشن معارضة مخططة قوية تشمل دعوة اتباعها الى مقاطعة جريدة الحزب “البيان” وتحريض الصحف على الامتناع عن توزيعها.
ولما تفاقم اليأس من تحقيق الوعود التي قطعتها الثورة بشأن تطوير النظام، وتراجع الاقبال على جريدة الحزب، واضمحلت الحياة الحزبية عموما، اضطر “الحزب الوطني التقدمي” الى تجميد نشاطه ووقف اصدار جريدته.
وعلى اثر اطاحة عبد الكريم قاسم في شباط (فبراير) 1963 اعتقل محمد حديد بضعة اشهر باعتباره من انصار عبد الكريم قاسم، ولكن افرج عنه بعد ذلك لعدم توافر دليل على ما يدينه، فابتعد عن العمل السياسي وانصرف مرة اخرى الى اعماله الخاصة ومتابعة الشؤون الاقتصادية والدولية والسياسية في شتى المناسبات، وخصوصاً في جريدة “صوت الاهالي” ثم في جريدة “البيان”.
وقد بدأ بنشر مقالاته في الموضوعات الاقتصادية في وقت مبكر، منها مقالة مهمة تطرقت الى “اتفاقية السكك” ونشرت في نيسان (ابريل” 1936، وقد تناول فيها واقع السكك الحديد في العراق وموقف البريطانيين من ملكيتها وهذا ما جعله مشكلة قائمة بذاتها في تلك المرحلة. وقد نشرت هذه المقالة في جريدة كانت تحمل اسم “البيان” ايضاً.
وكتب محمد حديد في اوقات تالية نشرات تثقيفية لاعضاء الحزب الوطني الديمقراطي ومؤيديه منذ تأسيسه سنة 1946، منها نشرة عنوانها “مستوى المعيشة في العراق”، وله مؤلفات اقتصادية اخرى ابرزها “مشكلة الارصدة الاسترلينية” (1947)، و”كيف يجب ان نعدل امتيازات النفط؟” (1949)، و”التطور في حقوق نقابات العمال” (1951)، و”صناعة الزيوت النباتية في العراق” (1955).
وتحتوي مجموعات جريدتي “الاهالي” و”صوت الاهالي” على مقالات عدة عالج فيها مشكلات العراق السياسية والاقتصادية، وهي لو جمعت لأصبحت كتابا ضخماً في شؤون العراق وشجونه خلال الفترات التي تعود اليها.
وقد انتقد محمد حديد في مقالاته وكراساته سوء التخطيط الاقتصادي لدى الفئة الحاكمة، وحالة تردي الاسواق وارتفاع اسعار المواد الغذائية وغير ذلك من المقالات والبحوث التي تتعلق بمشكلات العراق وقضاياه الحيوية.
وسنة 1946، كتب مقالة مهمة في مجلة “نيو ستيتسمان اند نيشن” بعنوان “الوضع في العراق” كان لها صدى كبير في الاوساط البريطانية المعنية بالشؤون العراقية، فضلا عن صداها في العراق. وقد رصدت المقالة تاريخ العراق الحديث حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهاجمت حكومة ارشد العمري التي كانت في الحكم آنذاك، وقد جاء فيها:
“إن الراي العام العراقي يعتقد ان بريطانيا مسؤولة عن الاوضاع في العراق. فالبريطانيون يساندون الطبقة الحاكمة الرجعية ضد الاصلاح التقدمي، ويشاع في العراق ان اعمال الاضطهاد والتنكيل بدأت يطلب من البريطانيين. ويعتقد ان بريطانيا تهدف الى اضعاف المعارضة الجماهيرية لسياستها في فلسطين، والى منع انتشار النفوذ السوفياتي. ولكن مهما كان هذا الاعتقاد مبالغا فيه، فانه اذا استمرت هذه الاوضاع السياسية والاقتصادية غير المرضية، واذا تأخر اجراء الاصلاحات المطلوبة السريعة، فان كراهية عرب العراق لبريطانيا ستشتد وسيصبح موقفها سيئاً في هذا الجزء من العالم”.
وقد منعت المجلة المذكورة من دخول العراق مدة معينة على اثر نشر هذه المقالة.
بقي محمد حديد بعيداً عن الحياة السياسية العملية في السنوات الاخيرة باستثناء بعض المقابلات التي اجراها مع الرئيس السابق احمد حسن البكر بناء على طلب الاخير لاستشارته في بعض الشؤون العامة، حسبما روي في مذكراته. وسنة 1990 غادر العراق لقضاء اجازة في انكلترا مع اولاده.
وقد اتصل بي – رحمه الله – في لندن، وكان قد بدأ يفكر في كتابة مذكراته، فصحبته الى مركز الوثائق العامة اذ كان يرغب في الاطلاع على ما جاء في الوثائق البريطانية عن العراق خلال السنوات التي اسهم فيها في حياة العراق السياسية معارضا او مسؤولاً. واتيحت لي في تلك الاثناء، مصاحبته ومجالسته، وكان برغم تقدمه في السن محتفظاً بنشاطه الذهني وذاكرته الواعية، ولم تمض على ذلك سنتان، الا اصيب بكسر في الحوض على اثر زلة قدمه، ما حد من حركته واستوجب اجراء جراحة. ولكنه عاد فاستأنف نشاطه واخذ يستقبل اصدقاءه وزواره، وتمكن بعد ذلك من العودة الى العراق في اواخر سنة 1993، فقضى في بغداد سنتين يتابع اعمال شركته بقدر المستطاع في ظروف الحصار الجائر المفروض على العراق. وفي نهاية سنة 1995 عاد الى انكلترا لمواصلة العلاج، ولكن بعد وصوله بمدة قصيرة زلت به القدم مرة اخرى، وسقط على موقع الجراحة السابقة نفسه، فانتقل الى احد المصحات في ضاحية من ضواحي لندن، حيث استعاد نشاطه وحركته ولم ينقطع عن استقبال وتتبع احوال العالم واخبار العراق والوطن العربي. وقد اتيحت لي زيارته هناك وتزويده بعض الصحف والمجلات غير مرة.
وفي شهر آذار (مارس) 1999 اصيب محمد حديد بجلطة في رأسه، ولكنها مرت سريعة ولم تترك اثرا يذكر. واستمر على نشاطه النسبي وحياته اليومية من مطالعة ومن إملاء مذكراته. وفي تموز (يوليو) من تلك السنة اجتاحت انكلترا موجة شديدة من الحر فتأثر بها، واصيب بمرض “ذات الرئة” الذي اودى بحياته ليلة 2/3 آب (اغسطس) 1999 وله من العمر اثنتان وتسعون سنة، وهكذا انتهت حياة حافلة لسياسي عراقي مرموق ووطني كبير، وشخصية قدمت لبلادها خدمات جليلة، وكانت من الامثلة النادرة في الوطنية والنزاهة والاخلاص.
كان محمد حديد، على امتداد حياته السياسية، معتدلا في ارائه، واقعيا في تقديره للامور. اتهمه بعض خصومه وخصوم “الحزب الوطني الديمقراطي” بالشيوعية وبقدر من المسؤولية عن انتشارها في العراق، ولكن اعماله ومواقفه تدل دلالة قاطعة على انه لم يكن شيوعيا، بل ان اليسار الشيوعي وصف “الحزب الوطني الديمقراطي” باليمينية والبرجوازية الوطنية. وكان من اهداف محمد حديد من البقاء في الحكم الحد من المد الشيوعي والحفاظ على التوازن بين القوى السياسية.
والواقع ان محمد حديد كان يؤمن بالاشتراكية المعتدلة والديمقراطية التي تناسب ظروف العراق السياسية وحالته الاجتماعية في رؤية واقعية وفهم عميق لاوضاع العراق وحاجاته، بعيدا عن المواقف المتطرفة التي تبناها الحزب الشيوعي الذي كان لاينحرف عن مواقف الاممية الشيوعية وسياسة الحزب الشيوعي السوفياتي، سواء اكانت تلك المواقف تناسب ظروف العراق وتخدم مصالحه ام تتجاهل ذلك. فقد كان ولاء محمد حديد التام للعراق، واهتمامه متجها الى مصالحه وحدها، بمنأى عن الاقليمية والطائفية والمصلحة الشخصية والنفوذ الاجنبي، نزيها، محافظا على كرامته الشخصية في جميع الظروف.
وجاءت مذكرات محمد حديد انعكاسا لشخصيته، وتعبيرا صادقا عن تفكيره وثقافته وتطور ارائه السياسية واتجاهاته الاجتماعية وعلاقاته الشخصية التي كانت تتسم على الدوام، بالاعتدال والاتزان، واحترام الرأي الاخر، ومناقشته بالمنطق الهادئ وبعفة اللسان. لذلك، كان محمد حديد يحمل كل من يتعامل معه على الصعيد السياسي او الشخصي على احترامه حتى وان اختلف معه في الرأي او الاتجاه. اما علاقاته العائلية والاجتماعية فكانت تتصف بالصدق والجدية والتزام الوعود والدقة في المواعيد وقواعد الاداب والخلق الرفيع.
ولا بد لي، وانا اكتب هذا، من الاشارة الى انني لم اكن يوما من اعضاء “الحزب الوطني الديمقراطي” (او اي حزب سياسي آخر)، ولم ارتبط بمحمد حديد باي صلة شخصية خاصة او مصلحة معينة، وانما اتيحت لي فرص كثيرة لمتابعة سيرته السياسية عن بعد في شتى المناسبات منذ اواخر الثلاثينيات. واعتقد ان كل من اتيح له ان يتعرف الى هذا الرجل او يراقب حياته السياسية وعلاقاته الشخصية يرى مثل هذا الرأي.
وتتناول هذه المذكرات سيرة محمد حديد منذ ولادته في الموصل وايام طفولته فيها، ثم دراسته في مدارسها وذهابه للدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت حيث بدأت علاقاته بزملاء عراقيين، تلك العلاقات التي امتدت الى اواخر حياته، ثم دراسته في لندن على يد اساتذته الذين استفاد منهم وتأثر بارائهم، ثم عودته الى العراق وعمله في وزارة المال، وعضوا مؤسسا وفاعلا في “جماعة الاهالي” وعضوا رئيسيا مهما في “الحزب الوطني الديمقراطي” ونائبا لرئيسه على مدى سنوات طويلة، وتوليه وزارة المال بعد 14 تموز (يوليو) 1958 وعمله مع عبد الكريم قاسم والخلاف الذي نشب بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وما يعرفه عن القضية الكردية وملابساتها وتطوراتها وعلاقة مصطفى البارزاني بالحكومة العراقية بعد 14 تموز (يوليو) 1958، ثم حركة الشوّاف في الموصل ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم  وانسحاب العراق من “ميثاق بغداد”، والاتفاق الاقتصادي مع الاتحاد السوفياتي.
وتتناول المذكرات بكثير من الاسهاب دور محمد حديد في مفاوضات النفط مع الشركات الاجنبية وما بذله من جهود لاصدار القانون رقم (80) الذي كان محمد حديد مهندسه وقد ضمن به مصالح العراق في المناطق غير المستثمرة،’ وتروي تفاصيل المفاوضات وتطوراتها.
وفي المذكرات ايضا، معلومات وتفاصيل عن مطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت، وعن نشاط “الحزب الوطني الديمقراطي”، والخلاف الذي نشب داخل الحزب في اواخر عهد عبد الكريم قاسم، واختلاف محمد حديد مع رئيس الحزب وصديقه القديم كامل الجادرجي، واستقالته من الوزارة ومن الحزب في آن واحد، وتأسيس حزب جديد هو “الحزب الوطني التقدمي”.
وتحتوي المذكرات ايضا، على فصل اضافي في تقديم عهد عبد الكريم قاسم الذي كان محمد حديد من اركانه ومن ابرز شخصياته المدنية واكثرها تمتعا بثقة عبد الكريم قاسم واحترامه، مع عرض موضوعي لأهم الجوانب السلبية والايجابية في ذلك النظام.
وفي المذكرات جوانب من محمد حديد الشخصية وظروف اعتقاله بعد انقلاب شباط (فبرير) 1963 ومجيء عبد السلام عارف الى الحكم، والفترة التي قضاها في سجن انفرادي. واخيرا، وقوع انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 وتولي البعثيين الحكم في العراق.
ويأتي ذلك كله في سرد واقعي صريح، واسلوب خالٍ من الحقد، ومن دون تبجح ولا تضخيم لدوره الشخصي في الاحداث، تلك الظاهرة التي نلاحظ في كثير من مذكرات الساسة الآخرين.
ولا بد من الاشارة هنا، الى ان هذه المذكرات انتهت نهاية مفاجئة من دون ان تتاح للاستاذ محمد حديد الفرصة لمراجعتها وتنقيحها بنفسه، وذلك ما حاولت القيام به. ولو امتد به الاجل وقام بذلك بنفسه لكانت النتيجة افضل بطبيعة الحال.
وقد رحبت بتحقيق هذه المذكرات القيمة واعدادها للنشر بسبب ما اكنه من احترام لصاحبها، شاكراً لاولاده الذين عهدوا اليّ هذه المهمة، ثقتهم. وانني لاشعر باعتزاز كبير وانا اقدم هذه المذكرات الى القارئ العراقي والعربي وكلي ثقة باهميتها، وبانها ستكون مصدراً ثرّا جديداً لتاريخ العراق السياسي الحديث، واضافة مفيدة الى ما صدر حتى الآن من مذكرات الساسة العراقيينن تلقي اضواء جديدة ومفيدة على جوانب كثيرة من ذلك التاريخ، فضلا عن انها تعرض سيرة غنية ومشرفة لشخصية خدمت بلادها بكل كفاية واخلاص، وفيها كثير من الدروس والعبر، وهي جديرة بان تكون قدوة للاجيال القادمة في صلابة الرأي والثبات على المبدأ والاخلاص في الوطنية.
المصدر: ملحق جريدة المدى 1/6/2011
http://almadasupplements.com/news.php?action=view&id=2271
لتنزيل نسخة سهلة الطباعة كملف بي دي أف انقر على الرابط التالي
Najda Fathi Safwa-Mohammed Hadid

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: