لا تُشكّل أرض العراق الّتي تظهر حالياً على الخرائط النتيجة الدقيقة لاتفاقية “سايكس-بيكو”- التي قسّمت العراق كما هو عليه اليوم بين منطقتي نفوذ فرنسية وبريطانية – بل هي بالأحرى ناشئة عن عملية جمع ثلاث ولايات عثمانية (بغداد، البصرة والموصل) في دولة واحدة. وفي السنوات ما بين 1921 و 1932، تم تحديد حدود العراق مع المملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا وإيران. وحتى منذ ذلك الحين، انتُقد العراق على أنه “دولة مصطنعة”، خاصةً لأنه يفتقر إلى التجانس العرقي والطائفي. وقد انضم تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى صفوف النقاد في حزيران/يونيو عام 2014، عندما أصدر شريط فيديو بعنوان “نهاية «سايكس-بيكو»” هدد فيه بـ “غرس المسمار الأخير في نعش مؤامرة «سايكس-بيكو»”
ويمكن القول أن وضع الخطوط بدقة على الخريطة – أي الحدود الخارجية للعراق – كان الموضوع الأقل إثارةً للجدل خلال البداية الاستعمارية للبلاد. وكانت المنافذ في المناطق الحدودية مع السعودية والأردن وسوريا، ومع تركيا، إلى حد ما، قليلة السكان ويسهل اختراقها من الناحية التاريخية لكي تسمح بقيام تجارة تقليدية واتصالات بين المجتمعات العابرة للحدود. وحيث لامست الحدود المناطق الاستراتيجية والغنية بالنفط بالقرب من الخليج العربي، الذي هو منفذ العراق الوحيد إلى البحر، أدّى موضعها دوراً في اندلاع حربان كبيرتان مع إيران والكويت. وتنطبق دينامية مماثلة على العديد من الدول في مناطق كثيرة من العالم.
تنوّع دون تمثيل
تسببت الجوانب الأكثر إثارة للجدل في ولادة العراق الحديث، من التقاء مجموعة فريدة ومتنوعة من الأعراق والطوائف والطبقات الخاضعة لأشكال حكومات غير تمثيلية. فالأول والأكثر إثارة للجدل، أدت الحدود التي أُنشئت مع تركيا في عام 1926 إلى عزل جزءٍ من الأمة الكردية داخل الحدود الإدارية الحديثة للعراق. كما فُوضت مجموعات مهمة أخرى من الأقليات – التركمان واليهود والمسيحيين الآشوريين، على سبيل المثال لا الحصر – لتحكم من بغداد. كذلك، تم إخضاع الشيعة العرب، الذين هم أكبر مجموعة عرقية طائفية منفردة، إلى حكومة تسيطر عليها جهات غير شيعية.
وفي حين أصبحت الحدود الحديثة للعراق وقوميته حقيقةً واقعة، تم الحفاظ على وحدة هذه المجموعات بوسائل متنوعة. فغالباً ما كانت القوة العسكرية الخاصة بالحكومة مهمة جداً في تدارك الثورات والانتفاضات التي قام بها الأكراد والشيعة. وأدّت الثروة النفطية والسياسة الحزبية إلى تحقيق التقدم الاجتماعي وبداية دولة ريعية شعر فيها المواطنون بالطمأنة من خلال رعاية الدولة. إلا أن ديكتاتورية صدام حسين العنيفة إلى حد كبير فقدت السيطرة على الشمال الكردي، وبدأت السلطة المركزية للدولة تضعف بشكل كبير في ظل العقوبات الغربية.
وعوضاً عن الديكتاتورية، سعى الائتلاف إلى فرض ديمقراطية تمثيلية تحفّز العضوية الوطنية لكافة المكوّنات العراقية – أي شكل من أشكال الحكم لم يطوّره يوماً أبناء البلاد في العراق. وقد لا تكون هذه الفكرة قد فشلت نهائياً، لكن من الواضح أن العرقية والطائفية القائمة على أساس الحصص، والديمقراطية التي تهيمن عليها الأحزاب في الوقت الحالي لم تحقق التماسك بين العراقيين، بل في الواقع على العكس تماماً من ذلك.
ولم تكن بعض الظروف مثل بروز تنظيم «الدولة الإسلامية» وانخفاض أسعار النفط مساعدة أيضاً. كما أن القوى المركزية في العراق – أي القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي للحكومة – لم تكن يوماً ضعيفة إلى هذا الحد. ولم تبدُ فكرة تداول السلطات على أساس الهوية العرقية الطائفية جذابة بتاتاً إلى هذه الدرجة بالنسبة إلى الكثير من العراقيين منذ ولادة الدولة.
ويثير كل ما سبق علامات استفهام حول الكيفية التي يجب أن تنظر بموجبها الولايات المتحدة إلى العراق، وكيف يمكن للمصالح الأمريكية أن تتفاعل مع طبيعة الدولة العراقية وشكلها. فهل يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى نتيجة حاسمة، أي إلى “سياسة عراق واحدة” أم، على العكس من ذلك، إلى «دولة كردستان» المستقلة؟ أم يجب على الولايات المتحدة أن تنتظر إلى أن يقوم العراقيون بتحديد جدول أعمال؟
تسهيل إعادة ضبط العلاقات بين بغداد والأكراد
تشكّل مسألة كردستان نقطة بداية مهمة لأنها قد تكون الشائبة الأكثر وضوحاً في البداية الحديثة للعراق. وعلى الرغم من أنه بإمكان المرء أن يجادل بشأن الأراضي المنخفضة المتنازع عليها، لا شك في أنه ليست هناك مصلحة أو مطالبة حقيقيتين للدولة العراقية التي يهيمن عليها العرب، ولسكان العراق في السيطرة على معظم المرتفعات والمناطق الجبلية التي تديرها «حكومة إقليم كردستان». وتعود جذور معارضة العرب وآخرين من غير الأكراد للاستقلال الكردي إلى معاملة المناطق المتنازع عليها المختلطة عرقياً والمهمة اقتصادياً، وخاصةً كركوك الغنية بالنفط.
بين عاميْ 1991 و 2003، كان الأكراد العراقيون مستقلين إدارياً عن الدولة العراقية، على الرغم من أن ميزانيتهم كانت ما زالت تُستمد من حصة تديرها الأمم المتحدة من صادرات النفط العراقية. وقد وافقوا على إعادة الاندماج مع العراق في عام 2003 كنوعٍ من تجربة في إدارة منطقة فدرالية غير متناسقة داخل العراق. وقد تُجري «حكومة إقليم كردستان» استفتاء [خلال العام المقبل] لجمع الأدلة على أن معظم الأكراد العراقيون يريدون إنهاء هذه التجربة والعودة إلى علاقة أكثر مساواة مع بغداد، إما كتوأم يتألف من كيانين سياديين داخل عراق إتحادي، أو، على الأرجح، كدولة كردية مستقلة معترف بها من قبل الأمم المتحدة.
ومن بين القوى الخارجية، يبدو أن تركيا قد تراجعت حقاً عن معارضتها لقيام دولة كردية سيادية، ويرجع ذلك جزئياً لأن أكراد العراق صريحين بأنهم سيحكمون فقط داخل حدود العراق التي رُسمت إبان الإستعمار في زمن الانتداب. وتبدو إيران معادية جداً للفكرة، ويعود ذلك جزئياً إلى تقوية العلاقات بين تركيا و«حكومة إقليم كردستان» وجزئياً لأنها قد تشكل مثلاً يحتذي به الأكراد الإيرانيون، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم فيما إذا كانت إيران ستستمر في معاداتها [لهذه الفكرة] إذا ما دعَم المجتمع الدولي إلى حد كبير حكومة سيادية للأكراد العراقيين. وإذا ما تم التعامل مع المناطق المتنازع عليها بشكل صحيح، فهناك الكثير من العلامات التي تشير إلى أن بغداد قد تكون أكثراستعداداً لتقبُّل “الطلاق الودّي”.
يتعيّن على الولايات المتحدة الإضطلاع بدور الوسيط الناشط في المساعدة على هذا الانفصال الودّي والتأكد من أن الكيانين العراقي والكردي يعيشان [بسلام] كجيران طيّبين. وتتمتع الولايات المتحدة بمستوى مرتفع جداً من الفطنة والخبرة إزاء المشكلة الشائكة الخاصة بالمناطق المتنازَع عليها في العراق، ويُنظر إليها على أنها وسيطاً نزيهاً. ويمكن أن تساعد القيادة الأمريكية في بروز جهود متعددة الجنسيات من أجل العثور على حلول تدريجية طويلة المدى لمناطق مثل كركوك. كما يجب أن تساعد الولايات المتحدة في ضمان عدم إهمال الأقليات – أي التركمان والمسيحيين واليزيديين والشبك والكاكائيون، وغيرهم – نظراً إلى أنها جماعات هامة من أصحاب المصالح في المناطق المتنازع عليها مع مظالم وطموحات فريدة من نوعها.
إتّحادية فاعلة في العراق العربي
إلى جانب وضوح مسألة النزعة الانفصالية الكردية، يبرز تحدي المصالحة الصعب والهوية الوطنية داخل العراق الفدرالي، ويعني ذلك الأجزاء ذات الغالبية العربية في البلاد. وتتعلق بعض الانقسامات بالدور السياسي المتقلص للمجتمع الشيعي في العراق، لا سيما في عهد نظام صدام حسين. وثمة انقسامات أخرى أكثر حداثة وهي: معاناة جميع الطوائف من العنف المستشري والتمييز منذ عام 2003. فعلى سبيل المثال، في القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، خلقت الجرائم التي لحقت بالسنّة العراقيين من قبل إخوانهم في الدين تحدياً كبيراً للمصالحة داخل المجتمع السني، وليس فقط بين السنة والشيعة.
ويحتاج العراقيون في المناطق غير الكردية أيضاً إلى إثارة بعض المسائل الراسخة بشأن مستقبل الدولة العراقية وتمثيلها. بمعنى آخر، من الذي سيحكم العراق وكيف سيحكمون العراق؟ وقد تزايدت الدعوات الانفصالية السنية من خلال رفض شرعية الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد ومن ردة الفعل على معاملة السنة كمواطنين من الدرجة الثانية في المناطق المختلطة. وتشير الدلائل إلى أن الفترة الكارثية لحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» في المناطق السنية من العراق أدت إلى التبرير المنطقي لطرفيْ الانقسام الطائفي. فقد خفّ حديث القادة السنة على المستوى المحلي عن إعادة الزمن إلى الوراء إلى ما قبل عام 2003، بينما زاد حديثهم حول ضمان عودة المواطنين إلى مدنهم وتأمين تلك المناطق بالاشتراك مع الحكومة. فقد عاش مئات الآلاف من المشردين السنّة لمدة تصل إلى عامين في مجتمعات شيعية وكردية، والتحق أولادهم بمدارس محلية، وبالكاد نتج حادث عنف واحد بين هؤلاء السكان المشردين. وقد تكون هناك فرصة للقيادة الشيعية المرهقة لتقديم تنازلات للمجتمعات السنية التي عانت من الذل بشكل كامل.
ويُحتمَل أن تتمتع الفدرالية بإمكانات جيدة للنجاح في المناطق غير الكردية من خلال حكام الأقاليم ومجالسها ذوي النفوذ الأكبر. وتتمتع الولايات المتحدة بمركز جيد يوفّر لها وجودها المطمئن مجالاً للتعاطي بين الكتل الشيعية والممثلين الناشئين للمجتمع السني – أي المحافظين، ورؤساء مجالس المحافظات، ومدراء المناطق، وقادة الميليشيات التي تدعمها الحكومة. ومجدداً، تتمتع الولايات المتحدة ببعض الخبرة في دعم كل من النموذجيْن التدريجييْن التنازلي [من الأعلى إلى الأسفل] والتصاعدي [من الأسفل إلى الأعلى] للمصالحة في العراق، وكلاهما ضروريان في الوقت الراهن. وتشكّل إعادة البناء، وتطوير قوات الأمن المحلية، وتحسين الحوكمة والاستثمار المحلي مجالات تستطيع القيادة الأمريكية أن تحفّز بشأنها برامج مساعدات طويلة المدى من بلدان متعددة.
دور الولايات المتحدة في عراق اليوم
يجب أن تُلقي الولايات المتحدة نظرة فاحصة على أفكارها المسبقة حول العراق، لكن عليها ألا تحاول وضع جدول أعمال لمستقبل البلاد. وقد يكون من المفيد الحفاظ على حدود العراق الخارجية وتأمينها، وبالفعل لا يوجد أحد على الأرجح مهتم بتغييرها. إلا أن الوضع الداخلي للعراق هو شئ يبدو أن العراقيين أنفسهم يدركون أنه بحاجة إلى تغيير. وإذا كان العراقيون منفتحين على الانفصال العادل عن الأكراد، فلا يمكن للولايات المتحدة أن ترغب في “وحدة العراق” أكثر من العراقيين أنفسهم. ولواشنطن مصلحة كبيرة في [قيام] علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية ودبلوماسية وثيقة بين عراق أكثر تماسكاً وكيان كردي جديد. وفي النهاية، يشكّل كلٌّ من هذين الجاريْن حليفاً قوياً للولايات المتحدة. فأين لا تريد الولايات المتحدة أن يكون حليفاها المقرّبان على وفاق مع بعضهما البعض؟
وقد يؤدي الانفصال البطيء إلى نوعٍ آخر من عراق ذي أغلبية عربية – أي إلى مكان تكون اللامركزية على مستوى الأقاليم، والمصالحة الوطنية والمجتمعية هما الأهم؛ وأيضاً إلى مكان يتعيّن أن يعمل فيه الاقتصاد غير النفطي والاقتصاد الهيدروكربوني جنباً إلى جنب، حيث يؤمّن أحدهما فرص العمل بينما يؤمّن الآخر حصة كبيرة من الميزانية الآخذة في التراجع ببطء. وسيساعد ذلك على ضمان الارتباط المستدام بين المناطق الحاوية للنفط والمناطق غير النفطية.
ومهما كان من الصعب تصوّر ذلك أحياناً، سيتسنّى خدمة الحوكمة التمثيلية والمتعددة الثقافات والمذاهب واللغات على نحو أفضل بالنسبة إلى جميع الأراضي داخل العراق اليوم. ومهما ينتهي المطاف بكردستان والمناطق المتنازَع عليها والعراق الفدرالي، إلا أنه لا يمكن أن يكون هناك انفصال كامل للنسيج العراقي المتنوع تماماً – ويجب أن يؤخذ في الاعتبار في الحكومة المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا تتخلى الولايات المتحدة عن إيمانها بالفكرة الأساسية المتمثلة في تعزيز الحكومة التمثيلية في العراق. وفي الواقع، يتعيّت على الولايات المتحدة مساعدة العراقيين على تنفيذ هذه الرؤية بشكلٍ كامل في الوقت الذي يناسبهم، مما يؤدي في النهاية وربما في وقت سريع، إلى قيام حكومة أغلبية تتألف من كتل من جميع المجموعات العرقية الطائفية. وكما قال زعيم شيعي رفيع المستوى إلى الكاتب: “مهما كان عدد الشيعة، لن يُسمَح لنا أبداً بإدارة عراق ناجح طالما يجب على كل حكومة أن تكون حكومة وحدة وطنية. وربما علينا أن نُنهي «الائتلاف الوطني» [الذي يشمل عموم الشيعة]”. ويشير هذا النوع من الأفكار، الذي يتفوه به زعيم عراقي طائفي إلى حد كبير، إلى الطريق الصحيح بالنسبة للسياسة الأمريكية في العراق وهو: عدم وضع جدول أعمال، بل بالأحرى مساعدة العراقيين بنشاط على تنفيذ أفكارهم الجيدة الخاصة بهم.
(*) مايكل نايتس هو زميل “ليفر” في معهد واشنطن، وكان قد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً مع قوات الأمن في البلاد.
المصدر: معهد واشنطون لسياسة الشرق الادنى، 19 كانون الأول/ديسمبر 2016
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية