يتسائل الدكتور مظهر محمد صالح عن “العولمة التشاركية: إلى أين؟”. ويثير الكثير من الاقتصاديين سؤالاً أهم وأخطر وهو: علم الاقتصاد إلى أين؟
يشير أستاذنا مظهر إلى أن الصين “تقارب حصتها في التجارة العالمية من حصة الولايات المتحدة لتبلغ حافة الاقتصاد الأول في العالم”. واقع الحال أن الاقتصاد الصيني تجاوز الاقتصاد الأمريكي عام 2013 بمقياس حسابات القدرة الشرائية (PPP). ولو أعدنا النظر في حسابات الدخل الوطني التقليدية بالإعتماد على تقدير المنفعة من التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي الجديد لقلبت كل موازين الاقتصاد المقارن رأساً على عقب.
أشارت مجلة الإيكونوميست (The Economist, 11.7.2020) إلى أن مكتب الحسابات الوطنية البريطاني (ONS) كان قد احتسب زيادة المنفعة من إنتاج الاقتصاد الرقمي والتغيير التكنولوجي في الاتصالات بين عام 1997 وعام 2016 ليس 50% بالتقديرات السابقة بسبب انخفاض الكلفة بل 95% بسبب زيادة المنفعة الفعلية.
دراسات عدة أقرّت بأن أكثر المستفيدين من برامج التعليم الرقمي والتعلم عن بعد أثناء جائحة كورونا هم من الصين والهند وجنوب شرق آسيا، وخاصة في مواضيع الرياضيات والفيزياء والبرمجة الحاسوبية واللغات.
حرّيّ بعلماء الاقتصاد مراجعة أدوات قياس الثروة، وتقييم المنفعة في زمن الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي بطرق تأخذ بنظر الإعتبار أن الاقتصاد المادي (Hardware) يختلف عن الاقتصاد الرقمي (Software). وبالتالي يتطلب الأمر ثورة جديدة في حسابات الدخل الوطني. مضى على استعمال البنك الدولي، ومؤسسات كثيرة أخرى بقياس الثروات الوطنية على أساس القدرة الشرائية (PPP)، غير أننا لا نزال نعتمد القيمة النقدية في حسابات الناتج المحلي (N.P.). واليوم نحتاج إلى ثورة جديدة لإعادة إحتساب المنفعة من الأصول الرقمية والسلع التكنولوجية وتقييمها سواء لمنفعة الفرد أو الاقتصاد الوطني أو التجارة العالمية.
ما بعد كورونا ليس كما قبلها. وإن زمن الصين على الأبواب (**). والزمن الآتي هو ليس زمن العولمة الليبرالية، بل زمن “اقتصاد السوق الإجتماعي”. وهو النمط الآسيوي للتنمية بقيادة الصين والهند وجنوب شرق آسيا.
من فون نويمان إلى ستيف جوبز
منذ أن أصبحت (الخدمات) تشكل الفقرة الأهم والمتزايدة الأهمية في الحسابات الوطنية للدول المتقدمة، وتزايد أهميتها النسبية في بقية أنحاء العالم بالمقارنة مع (السلع) أصبح علم الاقتصاد أمام مفارقة متزايدة الإتساع لم يتم ردمها بالكامل. تشكيل مصفوفات وتحليل المدخلات / المخرجات (Imput/ Output) بالنسبة لإحتساب قيمة السلع (Commodities) في الناتج الوطني، ثم تطويعها بالمعادلات الرياضية بمساعدة الحاسبات
الإلكترونية في النصف الثاني من القرن العشرين كان مقبولاً إلا أن إخضاع الخدمات (Srevices) إلى نفس الدقة في الحسابات الوطنية بقي يعاني من إشكالات تقييم وتسعير المنفعة (Utility) من الخدمات. فحساب كلف وأسعار الخبز أسهل بكثير من حساب الكلف والأسعار والقيمة والمنفعة من الترفيه والمتع غير السلعية، وبشكل متزايد يصعب احتساب المنافع الّتي جاءت بها الحواسيب والهواتف النقالة والمنافع (المجانية) العرضية للعالم الرقمي. وقبل دخول العالم الرقمي كان علم الاقتصاد والحسابات الوطنية شبه عاجزة أمام معضلة السلع والمنافع غير السعرية مثل العمل المنزلي وعناصر الترفيه (المجاني) ودورها في جداول الإنتفاع والإستمتاع والرفاهية الفردية والمجتمعية.
من فون نويمان (Von Neuman) إلى ستيف جوبز (Steve Job)، ومن “إنتاج السلع بواسطة السلع”(***)، إلى تقديم ستيف جوبز عام 2007 لأول آيفون ذكي، تفاقمت الفجوة النظرية في الجمع بين الكفة والمنفعة والسعر (Cost, utility, price) وتطويع هذه المفاهيم إلى حسابات ذات مصداقية للدخل الوطني والقيمة المنفعية للفرد والمجتمع من النشاط الحياتي للفرد والمجتمعات.
يمارس الإنسان اليوم الكثير من مخرجات الاقتصاد الرقمي (Software) والمتاحة له دون مقابل نقدي مباشر أحياناً، بالإضافة إلى مخرجات الاقتصاد السلعي (Hardware). هذا بالإضافة إلى تخلف حسابات الدخل الوطني اللحاق بالتحدي الّذي تقدمه حسابات المكافئ للقيمة الشرائية للدخل (Purcasing Power Party).
ما بعد كورونا تزايد دور العالم الإفتراضي، والّذي يكون دون كلفة نقدية أحياناً، والعالم المادي الّذي يسهل احتسابه بالنقود. تعقد الإجتماعات عبر زوم (Zoom) ووسائل تواصل أخرى دون الحاجة إلى سفر وفنادق ومكاتب. يعيش الكثير من الشباب في العالم الإفتراضي عبر يوتيوب وتك توك دون الحاجة إلى المقاهي ودور السينما والمسارح.
عالم ما بعد كورونا سوف لن يكون كعالم ما قبل كورونا. وعالم ما بعد كورونا يطرح تساؤلات في علم الإقتصاد النظري والتطبيقي تحتاج إلى إجابات لا تتوفر لدى عالم فون نويمان، ولا حتى إلى عالم ستيف جوبز.
ولد علم الاقتصاد على يد آدم سميث، ولم تمر على ولادته عقود قليلة حتى سماه توماس كارلايل بالعلم البائس (The dismal science) تزامناً مع تشاوم مالتوس من مستقبل البشرية.
أعتقد بعض الاقتصاديين بأنهم اعتلوا ناصية العلم بالإنتقال من “الاقتصاد السياسي” إلى “الاقتصاد القياسي” (Econometrics) على يد يان تنبركن الّذي حصل على أول جائزة نوبل للاقتصاد عام 1969.
التغيرات الكبرى في المفاهيم والعلوم لا تحدث بين يوم وليلة. ولكن الأحداث الكونية مثل جائحة كورونا تعجل بما كان يتفاعل فيما قبل. فعلم (فن) الاقتصاد كان يعاني من مخاضات في تعريف المنفعة، والقيمة، والسعر، في زمن إنفجار التكنولوجيا والعالم الإفتراضي. كان تعريف الاقتصاد منذ آدم سميث إلى اليوم هو كيفية التوفيق بكفاءة بين الإحتياجات الغير محدودة للأفراد والمجتمعات وبين الموارد المحدودة لتحقيق تلك الحاجيات. ولا يزال الأكاديميون يعرفون عناصر الإنتاج: “رأس المال والعمل والأرض”.
تقوم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والحياة الإفتراضية بقلب المعادلة، فأصبح الفرد والمجتمعات لا يكادون يلحقون بالمنافع اللامحدودة المتاحة لهم. وأغلب هذه “المنافع” أما مجانية أو يصعب تقييمها بالنقود. الشباب يعيشون في عوالم إفتراضية على الفيسبوك واليوتيوب والتك توك. والشركات تقوم بتقديم “منتجاتها” بدون مكاتب، وتعقد إجتماعاتها على “زوم” والمتاحف تعرض محتوياتها على الجولات الإفتراضية. والإنسان ما بعد كورونا يعاني من “شحة” الوقت وليس من شحة المنافع (السلع) التي تتاح له دون إستنزاف عناصر الإنتاج التقليدية من رأس مال وعمل وأرض!
(*) باحث وكاتب اقتصادي وعضو سابق لمجلس النواب العراقي
(**) عدنان الجنابي، ما بعد كورونا، مركز البحوث والدراسات العراقية mobdii.org، حزيران 2020.
*** Von Neuman, production of commodities by means of commodities,1937.
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين ، يسمح بأعدة النشر بشرط الاشارة الى المصدر . 15 تموز 2020
http://iraqieconomists.net/ar/
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية