الرئيسيةالنفط والغاز والطاقة

عدنان الجنابي*: كورونا – نفط – عراق : عودة إلى استراتيجية الحفاظ على السوق

عدنان الجنابي
  • كورونا:

 

كورونا اجتاح العالم، كل العالم. بعد خمسة أشهر لم يخرج الكساد الاقتصادي الذي اجتاح العالم من أي دولة. الصين لا تزال تحاول بكل السبل إنعاش اقتصادها من جهة، وسد الثغرات أمام عودة الجائحة من جهة أخرى. كوريا الجنوبية، اليابان، تايوان، سنغافورة، وهي دول قوية ذات ثقافة ونظم تعتمد المركزية في الإدارة، وقيادة الدولة للاقتصاد كلها لا تزال تصارع الانهيار الصحي، ولم تبدأ بعد مصارعة الانهيار الاقتصادي.

أوروبا، وعدد من دول العالم التي تدّعي تجاوزها قمة الجائحة، كلها تتخبط بين تجارب للخروج التدريجي من الإقفال الصحي- والحلم بالتنفس التدريجي للاقتصاد.

كورونا لا يزال بعنفوانه، وسيأخذ العالم أشهر عدة أخرى للصراع بين دمار الموت ودمار الجوع، ولم يدخل بعد في الموت جوعاً في كل من الهند وباكستان وأفريقيا.

كورونا قد يبدأ في الانحسار في نهاية العام الحالي وبداية عام 2021 بعد وصول العلم إلى بعض الأدوية المعالجة لفيروس كوفيد 19 ولقاح أو أكثر لتحصين الذين يتلقون اللقاح. متى تستطيع البشرية تصنيع أكثر من سبع مليارات عبوة لقاح؟ ومتى تستطيع الدول العودة من قاع الأزمة الاقتصادية التي ستفوق الأزمة الكارثية لعام 1919- 1931، وقبلها حصاد عشرات الملايين بسبب الأنفلونزا الإسبانية؟

يصعب التنبؤ بتوقيت الخروج من الكارثة الصحية وما تسببت به من كارثة اقتصادية. ولكن الاحتمال الأقوى أن الأمر يأخذ سنين. وسيكون العالم ما قبل كورونا هو غير العالم ما بعد كورونا.

 

  • نفط:

 

دفع مضاربو بورصة نايمكس (Nimex) يوم الإثنين 20/4/2020 مبلغ (37.63) دولار للبرميل لمن يقبل استلام ما يمتلكون من عقود على نفط غرب تكساس المتوسط (W.T.I.). أي أن من كان اشترى عقود هذا النفط بثلاثين دولار للبرميل مثلاً قبل أسابيع، خسر قرابة (70) دولار للبرميل للتخلص منه.

لأول مرة في تاريخ البشرية يتم بيع بضاعة بسعر سالب. حدث أن اضطر مالك أو منتج إلى التنازل عن ما ينتجه من مادة أولية كاسدة دون مقابل أو إلقائها في المزابل أو في البحر للتخلص منها عند أقصى درجات الكساد. ماذا حصل لنفط غرب تكساس يوم 20/4/2020؟

 

حصل هذا بتوافق ثلاثة عوامل:

أولاً: انخفض الطلب على المنتجات النفطية بنسب مختلفة، تقدر بحوالي الثلث في الولايات المتحدة بسبب انغلاق الاقتصاد الأمريكي خاصة والعالم كله بدرجات متفاوتة.

ثانياً: منذ حوالي الشهرين بدأت خزانات النفط في المصافي التي يصلها النفط بالأنابيب من حقول النفط الصخري من ولاية تكساس بالامتلاء. منتجو النفط الصخري كانوا غارقين بالديون ولديهم التزامات تجاه البنوك وبورصات التمويل تقدر بمئات المليارات من الدولارات قبل كورونا. وعندما تبخر الطلب منذ اجتياح كورونا لأمريكا والعالم، حاول لوبي النفط الأمريكي استغلال رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، لتكرار النجاح في مجابهة الأزمة التي تسببت بها السعودية عام 2014- 2015، حين عادت أسعار النفط بعد تخفيض الإنتاج من قبل أوبك بلاس (Opec+) وعودة الأسعار إلى أكثر من 60 دولار للبرميل.

ما حدث يوم 20/4/2020 أن حاملي عقود نفط تكساس الصخري عليهم الإيفاء بعقودهم الآجلة خلال أيام. “تفاجأ” مضاربو نايمكس أن جميع الخزانات في المصافي وفي نهايات الأنابيب الناقلة (Cushing, Oklahoma) لا تتوفر فيها السعات اللازمة لاستيعاب هذه الكميات من النفط.

ثالثاً: ما تم التوصل إليه في تخفيض الإنتاج بمقدار (7.3) مليون برميل يومياً لم يكن مناسباً للتعادل مع الطلب على منتجات النفط بشكل متفاوت يقدر بقرابة (30) مليون برميل يومياً. إن المنتجين الذين يصدرون نفطهم من موانئ بحرية مثل السعودية يحملون نفطهم على ناقلات وعوائم بلغت يوم 20/4/2020 حوالي (120) مليون برميل في “خزائن” عائمة. أما النفوط التي تنتقل من الحقل إلى المصفى بالأنابيب، فلا ملاذ سوى إيقاف الإنتاج أو بيع النفوط بخسارة!

البيع بسعر سالب لن يستمر، ولكن استمرار هبوط الأسعار لنفط غرب تكساس أو نفط برنت القياسي، هو أمر متوقع لاستمرار الفائض على الصعيد العالمي. ترامب سيفتح خزانات الاحتياطي الاستراتيجي. جميع وسائل الخزن الأرضي والعائم ستمتلئ. لن تنجح أوبك أو المتعاونين معها في أوبك بلاس (روسيا وغيرها)، أو أي انخفاضات اضطرارية في النفط الصخري الأمريكي أو نفط السجيل الكندي (يصدر قسم منه بالأنابيب إلى الولايات المتحدة)، أو حتى بعض دول الأوبك؛ لن تنجح كل هذه المساعي لسنوات في استيعاب فائض الإنتاج وخفض الخزين!

سيستمر ضعف الأسعار بل يزداد عمقاً وتمدداً كلما زادت وسائل وكميات الخزين أثناء فترة الفائض، لأن مصادر إضافة عرض للسوق ستطيل فترة التوازن بين العرض والطلب، وعودة العافية للأسعار.

خلاصة الموضوع أن فترة استمرار تأثير الكورونا على الطلب العالمي على منتجات النفط، قد تطول أو تقصر، ولكن فترة استمرار فائض من المعروض (Glut) سوف تطول. وبالتالي فإن عودة الأسعار إلى مستويات تتجاوز 40- 50- 60 دولار للبرميل ستطول أو لربما قد لا تحصل أبداً. ذلك لأن الطلب العالمي على النفط، حتى بعد زوال تأثير كورونا، وتأثيراتها وتداعيات تصريف الخزين الفائض، قد لا يتعافى إلى ما فوق (100) مليون برميل يومياً، بينما تتزايد مصادر الإنتاج من كل حدب وصوب.

كان خبراء النفط في النصف الثاني من القرن العشرين مشغولون بحتمية نهاية إنتاج النفط (End of oil supply). مؤخراً بدأ القلق من احتمال انحسار الطلب (End of demand). والمتغيرات الكبرى مثل الحروب والجائحات، كثيراً ما تؤدي إلى تسارع ظواهر متجددة، أو ظهور عوامل غير متوقعة. يميل التوقع لما بعد كورونا، أن لا يكون ما بعد كورونا مثل ما قبلها. وهناك عوامل قد تسارع في تراجع الطلب على النفط بشكل متزايد لأسباب كثيرة:

أولاً: معظم الطلب على النفط هو لسد حاجة وسائط النقل. ويتوقع الكثيرون تغير نمط وسائط النقل أو نوعية الوقود المستعمل فيها. يتسارع استعمال السيارات الكهربائية، وتغير نمط النقل الجوي وتغير أنماط حركة المواد الأولية وشبه المصنعة من العولمة المتباعدة، إلى المحلية المتقاربة، مما يغير حجم النقل البحري والنقل البري المتباعد.

ثانياً: يتغير العالم قبل كورونا، ويتسارع أثنائها نمط التواصل عن بعد، والعمل عن بعد، وتقنيات الإنتاج بالروبوتات والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence-AI)).

ثالثاً: يتوقع لسياسات الحفاظ على البيئة أن تتسارع، بعد أن عرف العالم أن تقليل استعمال الوقود الأحفوري أثبت تأثيره الإيجابي على البيئة، وانحسار التلوث في مناطق تعاني من كوارث بيئية من شنغهاي ونيودلهي إلى مدينة مكسيكو ولوس أنجلس وطوكيو. يتم هذا في وقت تنخفض فيه كلف الطاقة المتجددة والنظيفة، بالإضافة إلى بوادر تقنيات لم تكن في الحسبان قبل كورونا.

رابعاً: الطلب الآخر على منتجات النفط هو لإنتاج المواد البتروكيمياوية وخاصة البلاستيكية. يتزايد الضغط العالمي على الحد من استعمال البلاستيك وتأثيراته في البيئة، وخاصة بما ينتج عن عدم تحلل البلاستيك في الطبيعة.

خامساً: ما بعد كورونا غير ما قبله. وما خفي كان أعظم!

المتغيرات أعلاه تؤيد ما يبرر توقع حدوثها. ولكن ما لا نعرفه اليوم قد يفاجئنا بما هو ما يولد من رحم الحروب والجائحات والتقلبات الكبرى (Paradigm shifts) خاصةً وأن جيل الألفية الثالثة (Millennials) قد يأتي بما لا علم لنا به!

 

  • عراق:

 

منذ عام 1961 والعراق يقع مرة بعد مرة في دوامة إيذاء الذات تحت عناوين ومسميات وظروف كانت محصلتها حرمان النفط العراقي من احتلال مكانته في الأسواق العالمية المتوسعة باستمرار، رغم أن كلفة الإنتاج فيه واحتياطياته تؤهله لأن يكون في مقدمة المنتجين بدون منازع.

بعد صدور قانون رقم (80) لسنة 1961، والذي حدد نطاق عمل شركة نفط البصرة بما لا يتجاوز 2% من مساحة الامتياز الممنوح لها، اعتبرت شركات الاحتكار العالمي للنفط أنه سابقة خطيرة على عملها في مناطق أخرى. وبناء على ذلك جمدت امتيازات النفط في العراق (I.P.C./ B.P.C.) إنتاجها عند حدود (1.5) مليون برميل يومياً فيما توسع إنتاج السعودية إلى (9) مليون برميل يومياً خلال عقد من الزمن، و(6) مليون برميل يومياً في إيران، كما توسع إنتاج النفط في مناطق مختلفة من العالم.

بعد تأميم النفط العراقي عام 1972 استطاع العراق زيادة إنتاجه بين عام 1975 و1979 إلى (4) مليون برميل يومياً. ولم ينعم العراق بهذا الإنجاز إذ سرعان ما دخل العراق في حرب مع إيران، إذ دمرت موانئه وحقوله، وانخفض إنتاجه إلى مليون برميل يومياً فقط. وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية دخل العراق تحت طائلة الحصار العالمي بعد اعتدائه على الكويت.

بعد عام 2003 تعرضت البنى التحتية لإنتاج النفط إلى التخريب والنهب. ولم يتم ترميم البنى التحتية بجدية حتى أزمة انهيار أسعار النفط عام 2008.

أوصت اللجنة التي درست الحلول الممكنة آنذاك بأن يتعاون العراق مع شركات النفط العالمية (I.O.C.) وإعادة إعمار البنى التحتية بشكل جدي وإيجاد تعددية في منافذ التصدير. تم توقيع جولات التراخيص عام 2009- 2010، وكان الوعد هو وصول الإنتاج إلى أكثر من (12) مليون برميل يومياً عام 2017.

ينتج العراق اليوم معدلات لا تزيد بكثير عما كان ينتجه عام 1979 قبل خمسين عام.

قبل العراق قرارات تخفيض الإنتاج عام 2015، مما حدد، مع عوامل أخرى، سياسته في التوسع في الإنتاج.

كان بإمكان العراق زيادة الإنتاج بمعدل نصف مليون برميل يومياً لكل سنة، ولتجاوز إنتاج العراق اليوم (6.5) مليون برميل يومياً على الأقل. وبينما تجمد إنتاج العراق عند (4) ملايين برميل يومياً، زاد الإنتاج العالمي بقرابة عشرة ملايين برميل يومياً من حوالي (90) مليون برميل يومياً إلى قرابة (100) مليون برميل يومياً ذهب نصفها لصالح الولايات المتحدة، وزادت كندا والبرازيل والمكسيك من إنتاجها بشكل ملحوظ، كما زادت إيران، التي لم تلتزم بقرار تقليص الإنتاج للأوبك، من إنتاجها قبل أن تؤثر العقوبات الأمريكية على حجم إنتاج إيران.

عبرت عن رأيي في حينها بأن الخاسر الأكبر من قرارات الأوبك هو العراق. فالعراق هو صاحب الاحتياطي الأكبر، بما يقدر بحوالي (300) مليار برميل قابلة للإنتاج، ولم يقم بتطوير إنتاجه طوال الستين سنة الماضية، إذ ظلم نفسه من ناحية وظلمته الظروف من ناحية أخرى. وقلت في وقتها أن عمر النفط قد لا يتجاوز خمسين سنة، ولن يستطيع العراق الاستفادة من ثرواته النفطية إلا إذا أنتج بمعدل يقارب (20) مليون برميل يومياً. وقلت في حينها أن العراق يكسب من زيادة الإنتاج أكثر مما يكسب من زيادة الأسعار. وأن من مصلحة العراق وأجياله القادمة التوسع في الأسواق، وإزاحة المنتجين عاليّ الكلفة مثل النفط الصخري في الولايات المتحدة والنفط الرملي في كندا والكثير من النفوط التي تتجاوز كلفة إنتاجها (30) دولار للبرميل.

يعود العراق اليوم بارتكاب نفس الخطأ السابق بتجميد طاقته الإنتاجية لمدة خمس سنوات استفادت منها الولايات المتحدة وغيرها ممن زادوا إنتاجهم وتوسعوا في الأسواق. مشكلة اليوم هي أكبر من مشكلة الأسعار عام 2015، وهي مشكلة انكماش الأسواق. ويتوقع لانكماش الأسواق أن يستمر إلى ما لا نهاية، ولا بديل للعراق سوى إتباع سياسة التوسع في الإنتاج بأسعار متهاودة وإزاحة النفط عالي الكلفة من الأسواق.

هذه السياسة، التوسع في الأسواق وإزاحة النفط عالي الكلفة، تضمن استمرار العراق لفترة أطول رغم انكماش الطلب على النفط، وتستفيد الأجيال القادمة من استغلال نسبة أكبر من خزينه النفطي بدل ضياع هذا الخزين في باطن الأرض إلى الأبد.

 

نفط العراق لخدمة الأجيال القادمة

 

العراق دولة ريعية، نظامها الاقتصادي قد يكون من أسواء الدول الريعية. اعتماد الاقتصاد، الموازنة السنوية والدخل الوطني (G.D.P.) هو الأسوأ، واستعمال النفط في التصنيع الداخلي (مصافي، بتروكيمياويات، صناعات تحويلية) هو الأقل بين الدول الريعية.

على العراق أن يستغل فرصة انهيار الأسعار لقلب معادلته النفطية والاقتصادية لصالح نموذج تنموي يخدم الأجيال القادمة. ينبغي اولاً السماح للقطاعات الإنتاجية، وخاصةً المشغلة للعمالة، مثل الزراعة والإسكان والصناعات التحويلية، أن تزدهر على أساس اقتصاد السوق كما ينبغي تقليص بيروقراطية الدولة والتحول من البطالة المقنعة في الدولة إلى التشغيل المنتج في القطاع الخاص.

من ناحية أخرى، لإدامة عمر النفط العراقي، ينبغي على العراق فسح المجال للصناعات البترولية، من مصافي وبتروكيمياويات وصناعة تحويلية أخرى.

إذا استمر العراق بإتباع سياسة تقليص الإنتاج بحجة السعي لتوازن السوق وتحسين الأسعار، فإن خسارة العراق ستكون مضاعفة، يخسر فيها العراق حاضره ومستقبله. حاضره لأن الأسواق لن تتوازن، والأسعار لن تتحسن، بل ينجح الآخرون، مثل المنتجين عاليّ الكلفة من التربع على أسواق والاستفادة من احتياطياتهم القليلة.

ستكون سنوات انخفاض الأسعار وتراجع الطلب صعبة. ولكن استغلال الفرصة وتحويل الكارثة إلى مكسب هو الطريق الوحيد الناجح للدول ذات الاحتياطي الأكبر والكلفة الأوطأ، والعراق هو الأعظم احتياطيًا والأوطأ كلفة بين الدول النفطية.

 

(*) باحث وكاتب اقتصادي ، رئيس لجنة الطاقة في مجلس النواب العراقي سابقاً.

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 24 نيسان/ابريل 2020

Download PDF

عدنان الجنابي-كورونا نفط عراق-محررة

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: