الرئيسيةالمالية العامة والسياسة المالية

د. علاء الدين جعفر*: معالجات الأزمة المالية … من يدفع الثمن

تتوالى الأزمات المالية التي يتعرّض لها الاقتصاد العراقي منذ سنوات طويلة ونحن مُصـرّين بـكل كبرياء على اعتماد نفس الحـلول أو بالأحـرى اللاحـلول والمتمثلة بتقليص الإنفاق، والمقصود هنا طبعاً تقليص الرواتب والأجور والنفقات الاجتماعية الأخرى، وعدم المساس بسعر الصرف على اعتباره أمرا مقدسا، والإصرار على الاعتماد على النفط باعتباره الفارس الوحيد للاقتصاد العراقي. أما تداعيات الأزمة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية ومنها ارتفاع معدلات البطالة وخاصة بين الشباب الخريجين، تزايد معدلات الفقر، اتساع التفاوت في توزيع الدخول، تراجع الخدمات بكافة أشكالها وتراجع معدلات النمو الاقتصادي وغيرها الكثير، فهذا أمر برأي البعض غير مهم طالما أنها لا تلامس أصحاب العروش الكبيرة لاسيما وأن غيرهم من سيدفع الثمن سواء الفقراء من أبناء الجيل الحالي أو الذين سيعانون من أبناء الأجيال القادمة رفضاً لكل شعارات التنمية المستدامة التي نتغنى بها في أدبياتنا الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها حق الجيل الحالي وضمان حقوق الأجيال القادمة في العيش الكريم.

 

فالإصرار على سعر صرف مغالى جداً في قيمته للدينار العراقي أمام الدولار بالرغم من تراجع العائدات النفطية والنقص الكبير في الإيرادات من العملة الصعبة، يعتبر في نظر أصحاب العولمة والانفتاح نصراً مؤزراً طالما يخدم استمرار الاستيرادات من دول عديدة في نظام التبعية العالمي، في حين يحافظ العراق ببراعة على دوره الهامشي في هذا النظام ويلبي طلبات الدول الخارجية من النفط ويستورد منهم كل ما يحتاجه من سلع وخدمات باعتباره محافظاً ومدافعاً شرساً عن الحرية التجارية والليبرالية الاقتصادية، بينما نجد أن أصحاب هذه النظريات أعدوا العدة لمغادرتها والعودة مرة أخرى الى الحمائية التجارية باعتبارها الضمان لقيادة العالم اقتصادياً وتجارياً. ولا ريب سنشهد في المستقبل القريب ظهور منظرين ونظريات جديدة في الغرب تتبنى منهج اقتصادي جديد لتحقيق التنمية الاقتصادية عنصره الأساس هو (الحماية التجارية). طبعاً، نحن سنردد وراءهم هذه الأفكار وندعو الى تطبيقها ولكن بعد فوات الآوان.

 

واستكمالاً للسياسة الرصينة إزاء سعر الصرف ولإحكام طوق التبعية والانفتاح نستمر بكل قوة للإنفاق على قطاعي النفط والكهرباء دون الاكتراث للجدوى الاقتصادية من هذا الإنفاق، حيث يستحوذ هذين القطاعين على أكثر من 50% من حجم الإنفاق الاستثماري في الموازنة العامة للدولة علماً أن معظم المنفعة الاقتصادية المتحققة من هذا الإنفاق تذهب الى خارج العراق لضعف روابط هذه القطاعات مع الاقتصاد للمحلي. وهذا الأمر يتكرر مع قطاعات أخرى ومشاريع عديدة تندرج في الموازنة الاستثمارية من دون اجتياز المعايير الفنية المطلوبة.

 

يعتقد البعض جازماً بأن معالجة الأزمة المالية والخروج منها لا يتم إلا من خلال تقليص أعباء الحكومة وفي مقدمتها الرواتب والأجور ومبالغ الدعم بكافة أشكاله وفي مقدمته دعم المواد الغذائية والوقود والرعاية الاجتماعية وغيرها من أشكال الدعم، والتبرير النظري لكل ذلك هو تحرير الأسعار وتحقيق التوازن بين العرض والطلب. وهم في هذه الحالة لا يتكلمون عن دعم سعر الصرف أو دعم سعر الفائدة الذي أصبح مبالغاً فيه وتحوله الى معيق للتنمية وثقباً لاستنزاف محدودي الدخل من موظفي الدولة والطبقات الفقيرة، أو عدم النظر الى الإعفاءات الضريبية والكمركية والخدمات المجانية والعقارات والسيارات والحمايات ونفقات الدبلوماسيين وغيرها الكثير الذي تحظى به بعض الفئات المحدودة من المجتمع إلا أن كلفتها المالية في الموازنة عالية جداً، علماً أن العديد من هذه الحالات وغيرها يتم تمريرها من قبل بعض وعاظ السلاطين في دوائر الدولة من خلال تعليمات تنفيذ العقود الحكومية أو تعليمات تنفيذ الموازنة العامة للدولة وربما أحياناً من دون علم الحكومة نفسها التي تصادق على بعض التعليمات من دون مراجعة حقيقية لها.

 

إن تفاقم عجز الموازنة وضعف التمويل يجب أن لا تتحمله الطبقات الأضعف في المجتمع بل يجب أن يكون هناك موقف جاد لتحفيز الإنتاج المحلي بأي مستوى كان للحد وتقليص الاستيرادات من الخارج التي باتت تستنزف موارد الدولة المالية بشكل هائل بل وصل الحد الى الاقتراض الخارجي لأجل سد عجز الميزان التجاري في ميزان المدفوعات ولسد النقص السلعي الكبير الذي تعاني منه الدولة. كما أن الأمر يتطلب العمل على وضع حد للتدهور المستمر في سوء توزيع الدخل والتفاوت المتزايد في توزيع الدخول نتيجة لإفراط السياسات الحكومية في منح الامتيازات لأفراد وفئات معينة وربما حتى لفئات مناهضة للحكومة نفسها، وهو ما فتح المجال لظهور أنماط استهلاكية لا تمت الى المجتمع بصلة في ظل العولمة والانفتاح التي ترهق الاقتصاد المحلي بأعباء لا يقوى على تحملها.

 

إن مواجهة الأزمة الحالية المركبة يتطلب ابتداءً حل إشكالية العلاقة بين سياسة الإنفاق وبين توزيع الدخول والعدالة الاجتماعية والتي أهملت بشكل كبير في السنوات السابقة وخاصة فيما يتعلق بإصلاح قطاعي الصحة والتعليم ومعالجة مشكلة التشغيل والبطالة والنمو المُولّد لفرص العمل واجتثاث الفقر وغيرها العديد من القضايا ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي. إن تحقيق تنمية رأس المال البشري لا يعتبر هدفاً رئيساً للتنمية الاقتصادية فحسب بل هو شرطا مسبق للحصول على تنمية مستدامة شاملة. لذا فإن النمو القائم على التشغيل يجب أن يعامل معاملة خاصة ويحظى بالأولوية في أية خطة تنموية شاملة.

 

لقد درجت أغلب سياسات معالجة العجز في الموازنة العامة على تقليص النفقات الاجتماعية والأجور باعتبارها الحل الأسهل الذي يمكن اللجوء اليه دون الالتفات الى عواقب ذلك وأثره على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فكان الاهتمام منصباً على الحد من التضخم دون مراعاة أثر ذلك على معدلات البطالة والنشاط الاقتصادي والإنتاج، وكان تكلفة هذا الامر عالية جداً ربما تقدر الكلفة بمئات مليارات الدولارات من دون أن يلتفت الى ذلك أحد. كما أن ترك البنوك لتفرض أسعار فائدة عالية وعدم تدخل السلطات النقدية في تحديده قد أجهض العديد من المشاريع التنموية المشغلة للأيدي العاملة على اعتبار أن سعر الفائدة المرتفع قد يساعد على حشد المدخرات المحلية وتوفير التمويل المناسب للاستثمارات الا أن في واقع الحال لم يحصل ذلك بل أفرز طبقة طفيلية انتفعت بشكل واسع على حساب المواطن البسيط وعلى حساب المشاريع الصغيرة غير القادرة على التعايش مع كلفة التمويل المرتفعة مما ساعد على أتساع التفاوت بين فئات المجتمع وأجهض حركة الاستثمار وإقامة المشاريع التي تساهم برفع مستوى التشغيل والاستخدام وخاصة بين الشباب والخريجين الجدد.

 

إن الحفاظ على مستويات المعيشة والحد من التفاوت في توزيع الدخول يعد أمراً حاسماً لأية سياسة تنموية اقتصادية تبغي تحقيق معدلات نمو حقيقية، وهذا ما يفرض على الدول النفطية خاصة، كما في حالة العراق، مزيداً من الإجراءات لضمان العدالة في توزيع الإيرادات النفطية عبر الاجيال من خلال تقليص الفارق بين الرصيد الأولي غير النفطي الفعلي والرصيد الذي يتسق مع مستوى الدخل المتوقع من الإيرادات النفطية مما يساعد على استمرارية تحمل الدين والعدالة بين الأجيال.

 

إن انتشال الناس من الفقر وزيادة قدرتهم على الإنفاق يساعد على ارتفاع معدلات النمو، وقد أثبتت الوقائع أن الدول التي أعطت أولوية للإنفاق على التعليم والصحة وشبكات الأمان الاجتماعي حققت نمواً أعلى ودرجة أكبر من العدالة في توزيع الدخول وهذا هو هدف التنمية.

 

إن الأزمة المالية والعجز الذي تعاني منه الموازنة العامة في العراق حالياً لم يكن نتيجة مباشرة لحجم الإنفاق الاجتماعي بل هو نتيجة لأسلوب في الإنفاق والإيرادات كلاهما يعاني من سلبيات عديدة وبحاجة الى إصلاحات شاملة، فكثير من أوجه الإنفاق تتوجه نحو نشاطات غير إنتاجية، كما أن الإيرادات تعاني من ضياعات كثيرة بحاجة الى ضبط وسيطرة أكبر، فجزء كبير من المشاكل الاقتصادية الحالية مرتبط بعجز الإنتاج المحلي عن سد الطلب المحلي واللجوء الى الاستيرادات لتلبية ذلك الطلب لا سيما فيما يتعلق باستيراد المواد الغذائية والدواء والمستلزمات الأخرى، وبالتالي فإن جزءاً مهماً من سياسة الرواتب والأجور والدعم جاء انعكاساً لسوء توزيع الدخل الذي تفاقم بشكل ملفت للنظر خلال السنوات الأخيرة، وعدم قدرة السياسة المالية على استقطاع القدر المناسب من دخول الطفيلين والفاسدين الذين تراكمت ثرواتهم خلال فترة قصيرة جداَ على حساب الفئات المتوسطة والصغيرة في المجتمع، وبالتالي فإن القاء العبء او الحل فقط على محدودي الدخل وفقراء المجتمع لن يكون هو الحل الأمثل للمشاكل القائمة بل هو خطوة محفوفة بالمخاطر يجب تجنبها.

 

بسبب السياسات العامة غير المنسجمة مع تحسين متطلبات التنمية البشرية في العراق والضياع الكبير في الموارد التي حصل عليها البلد من تصدير النفط والموارد الأخرى فإن العراق، وحسب تقرير التميه البشرية لعام 2019 الصادر عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة، حقق تسلسلا متقدما بين مجموعة البلدان التي تحقق فارقا ملموسا بين امكاناتها الاقتصادية والمالية المتمثلة بالدخل القومي الاجمالي وبين تسلسلها حسب مؤشرات التنمية البشرية. وبكلام آخر، إن الامكانات المالية المتحققة للعراق لا تصب في مصلحة تطوير مستويات التنمية البشرية وبمقدار (- 44). والجدول ادناه يبين ذلك بالمقارنة مع دول أخرى حققت مستويات اعلى من التنمية البشرية وبإمكانات مالية ربما أقل من العراق.

 

البلد دليل التنمية البشرية 2018 التسلسل بين دول العالم الترتيب حسب نصيب الفرد من الدخل القومي ناقصا الترتيب حسب دليل التنمية البشرية
العراق 0.689 120 -44
كوريا 0.906 22 +8
سلوفاكيا 0.857 36 +3
كوبا 0.778 72 +43
إيران 0.797 65 -2
الامارات العربية 0.866 35 -28
السعودية 0.857 36 -22
الاردن 0.723 102 +10
لبنان 0.730 93 +5
تونس 0.739 91 +10
جورجيا 0.786 70 +34

تقرير التنمية البشرية لعام 2019، UNDP

 

في الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى الدكتور بارق شبر رئيس التحرير على حرصه وتفانيه بدعم الاقتصاديين العراقيين والى كل الساده اعضاء هيئة التحرير والى موقع الشبكه على جهودهم المخلصه بدعم الكفاءات العراقيه بما يصب في مصلحة الاقتصاد العراقي ونسأل الله أن يحفظ الحميع لما فيه خير بلدنا العزيز.

 

(*) مدير عام دائرة السياسات الاقتصادية والمالية/وزارة التخطيط

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 19 حزيران 2020

لتحميل ملف بي دي أف انقر على ارابط التالي

علاء الدين جعفر- معالجات الأزمة المالية-محررة

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. farouk younis
    farouk younis:

    في مقدمة مقاله القيم يذكر الدكتور علاء الدين جعفر ( تتوالى الازمات المالية التي يتعرض لها الاقتصاد العراقي منذ سنوات طويلة ونحن مصرين بكل كبرياء على اعتماد نفس الحلول او اللاحلول والمتمثلة بتقليص الانفاق والمقصود هنا طبعا تقليص الرواتب والاجور والنفقات الاجتماعية الاخرى وعدم المساس بسعر الصرف على اعتباره مقدسا)
    كان من المستحسن ان يفصح الكاتب الفاضل عن المقصود ب ( نحن)
    من جانبي : نحن ضمير رفع مبني على الضم يعبر به الاثنان او الجمع المخبرون عن انفسهم للمذكر والموءنث
    هل تتضمن ( نحن) هذه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ام تقتصر على اجهزة التخطيط والمالية والمستشارين العراقيين ؟
    ثم من فتح باب الاستيراد على مصراعيها هل ( نحن) فتحناها ام سلطة الاحتلال الامريكي هم الفاتحون؟
    مع خالص شكري وتقديري للدكتور علاء الدين جعفر

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: