الموارد المائية و حماية البيئة
16/03/2013
اولا:
من المفارقة ان يكثر حديث الناس والصحف والفضائيات خلال الشهور الماضية عن الفيضان بعد سنوات عديدة من الشكوى من الجفاف في بلاد النهرين، وهذا مظهر من مظاهر اقتراب حالة النهرين (ولنقل البيئة بشكل أعم) من ان تكون قضية رئيسية في اهتمامات المجتمع بالرغم من تحديات الوضع السياسي ومايرتبط به من اشكاليات.
فمن المعروف ان الجفاف والفيضان هما وجهان لظاهرة مناخية واحدة، وكما ان للجفاف ضحايا فان للفيضان ضحاياه ايضا مع اختلاف في المقياس والمديات. فمديات تأثير الجفاف اشمل واوسع، وهو يزحف ببطء ليوقع بكل شيء كالمدن والقرى والمزارع والحقول، ويجرد الارض من مقومات الحياة دون ضجيج يذكر الى ان يفتك بحيوتها وشروطها الساندة للحياة.
اما الفيضان الطبيعي (وليس الفيضان الذي ينتج عن انهيار منشآت هندسية) فضحاياه قليلون نسبيا ولكنه قد يعصف بهم بسرعة فاجعة، اذ تعتمد قدرته التدميرية وخطورته على عنصر المفاجئة، ولهذا يمكن في غالب الاحيان تجنب تلك المخاطر اذا ماكان هنالك نظام للانذار المبكر والتنبؤ، وكذلك خطة فاعلة لتجنب آثاره كإخلاء السكان والممتلكات وتعزيز سداد الانهر وغير ذلك من الاجراءات.
كما يجلب الجفاف معه آفات كبرى كالجوع والفقر والتصحر والاوبئة والامراض والعواصف الترابية والنزوح من الارياف والقرى وغيرذلك الكثير. اما الفيضان فانه يجلب مع قوته التدميرية مقومات اخرى لتجديد خصوبة الارض وتعزيز سلسلة الحياة وحيويتها.
ثانيا:
لم تجر المياه البنية اللون في نهري دجلة والفرات منذ زمن طويل، ولولا الخسائر والاضرار المؤسفة التي لحقت ببعض القرى والمزارع في بعض مناطق شمال بغداد اثناء ارتفاع مناسيب وتدفق مياه دجلة في شباط الماضي، لكان الامر سببا للابتهاج والاحتفال.
فقد سبب هطول الامطار الغزيرة على حوضي الزاب الاعلى والزاب الاسفل وعلى المساحات المجاورة لنهر دجلة جنوب مدينة الموصل، سيولا هائجة غيرّت لون الماء الى اللون البنّي بعد ان اعتاد المواطنون على رؤية المياه “الصافية” اللون نتيجة الخزن الطويل، او تلك المائلة الى الخضرة نتيجة التلوث، اوالراكدة والمغطاة بطحالب وقصب وحشائش وفضلات صلبة واكياس بلاستيكية يقذفها في النهر الجهلة والملوّثون من عديمي الشعور بالمسؤولية وغير ذلك.
ثالثا:
من الطريف ايضا انه ولأول مرة – حسب علمي – يفيض نهر دجلة لوحده بهذا العنفوان في حين يبقى الفرات مدجّنا بالسدود ومنشآت السيطرة من المنبع حتى المصب، وهما نهران توأمان تتزامن فترات فيضانهما وشحتهما عبر الزمن.
فقد سجلت ايرادات نهر دجلة عند سدة سامراء، التي انشأت في منتصف الخمسينيات، تدفقا كبيرا للمياه قارب الـ (12) الف متر مكعب في الثانية، وهذه ايرادات لم تسجل، حسب المعلومات الفنية المتاحة امامي، على الاقل منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد قامت وزارة الموارد المائية بتحويل اكثر من عشرة آلاف متر مكعب في الثانية منها نحو منخفض الثرثار، تاركة ما تبقى، وكان بحدود (1600) متر مكعب في الثانية للعبور نحو بغداد، وهو تصريف أمين، اذ تسبب في رفع منسوب نهر دجلة في بغداد بمترين اضافيين ليصبح بحدود (30.4) مترا، وهو اقل مما سجل في فيضان نهاية آذارمن عام 1954 حيث تجاوز انذاك منسوب المياه حاجز الـ (35) مترا، وهو منسوب في منتهى الخطورة ولكنه لم يتسبب انذاك بحدوث كارثة كبرى رغم تسببه بخسائر مادية معتبرة، حيث لجأ المسؤولون الى احداث كسرات في سداد الحماية لتسريب المياه في مساحات اضافية وتخفيف الضغط عن المدينة.
رابعا:
لقد اجتازت سدة سامراء في شباط الماضي اختبار الزمن بعد مايقرب من ستين عاما من انشائها فضلا عن الاضرار، او اهمال اجراءات الصيانة، التي ربما لحقت بها اثناء الحروب السابقة. فسدة سامراء قادرة تصميميا على اطلاق (7000) متر مكعب في الثانية باتجاه بغداد، وسبق ان اطلق منها اثناء فيضان عام 1988 تصريفاً بلغ (2675) متر مكعب بالثانية، ولكن رأي الخبراء هو ان السدة الآن لايفترض ان تطلق اكثر من (2000) متر مكعب في الثانية في عمود نهر دجلة باتجاه بغداد لأن ذلك قد يحدث فيضانا، بسبب تغير مقطع النهر ووجود تجاوزات كثيرة عليه، كما اقتطعت منه اجزاء ودفنت اجزاء اخرى وزادت الترسبات نتيجة انعدام انشطة كري النهر لسنين طويلة.
ان الامطار والسيول الاخيرة ارسلت اشارة لاتقبل الخطأ بأن بغداد والمدن والقرى العراقية الاخرى عرضة للغرق، وان طول فترة الجفاف يجب ان لا تنسي المسؤولين او تلهيهم عن مهماتهم الاساسية بحماية ارواح وممتلكات المواطنين، علما ان سلسلة المنشآت الهيدروليكية، من سدود وخزانات وسدّات ونواظم، تشكل نظاما ممتازا للسيطرة وتتيح للعراق التحكم بمرونة عالية بالموجات الفيضانية، ولكنه بالطبع لايمنع حصول فيضانات من وقت الى آخر في هذه المنطقة او تلك، ولكن العبرة هي في تقليل احتمالات الفيضان والخسائر المادية المرتبطة به.
خامسا:
لقد خلّفت امطار 25 كانون الاول 2012 اضرارا كبيرة في بغداد نتيجة لنقص البنى التحتية في المدينة مما يحتّم مراجعة جذرية لمشاريع البنى التحتية في العاصمة، وكذلك فقد سببت امطار وسيول الاسبوع الاول من شباط 2013 غرق بعض القرى الى الشمال من بغداد واثارت فزع سكان العاصمة من احتمالات الغرق، ولولا الفراغ الخزني في سد الموصل لزاد تصريف النهرعن (14) الف متر مكعب في الثانية وهو تصريف على درجة كبيرة من الخطورة على بغداد، فقد زادت ايرادت نهر دجلة من تركيا بنفس الاسبوع على (2400) متر مكعب ولكن هذه الزيادة خُزنت في سد الموصل لتخفيف الضغط عن سدة سامراء وبالنتيجة بغداد.
سادسا:
لابد من التذكير هنا بانه لو زاد منسوب النهر في بغداد متراً او مترين اضافيين لكان ذلك مدمِّرا، لأنه سيغرق احياءا عديدة من بغداد، لكونها منطقة مستوية يبلغ ارتفاعها عن مستوى سطح البحر بحدود (35) مترا، ونتيجة للتوسع الافقي للمدينة وانتشار الاحياء العشوائية الهشة والزيادة الهائلة في السكان من حوالي مليون نسمة في الخمسينات الى حوالي سبعة ملايين نسمة حاليا.
لذلك فان الاحتفاظ بالوظيفة الاصلية لقناة الشرطة في جانب الرصافة، وهو الجانب الاكثر عرضة للفيضان، امر ضروري. فقد انشأت القناة بغرض استخدامها لحماية بغداد عن طريق تسليك الموجة الفيضانية من شمال المدينة الى جنوبها، واظن انها الآن غير مهيأة لهذه الوظيفة نتيجة التجاوزات، ودفن بعض مقاطعها، ولربما استخدمت لانشاء أحواض الترسيب لمخلفات محطة اسالة مياه الشرب في مدينة الصدر.
سابعا:
لقد تعزز خزين المياه في بحيرة الثرثار نتيجة لامطار وسيول الاسبوع الاول من شباط الماضي بما يقرب من ثلاثة مليارات متر مكعب من المياه لاستخدامها في المواسم القادمة، وهو ليس خزينا فقط بل ان هذه الكمية تسهم بتحسين نوعية مياه البحيرة عن طريق تخفيض ملوحتها الناتجة عن التبخر من سطح البحيرة المترامية الاطراف. اما عمود النهر نفسه فقد تعرض الى عملية غسيل طال انتظارها لأكثر من عقدين من الزمن كما انتعشت بعض مساحات الاهوار العراقية، ومن الممكن تحسن الوضع اكثر حتى حزيران القادم نتيجة لذوبان الثلوج.
لقد كانت حالة الجفاف وما تبعها من فيضانات مؤخرا اختبارا حقيقيا لقدرة العراق على الاستجابة الكفوءة لمتطلبات تلك التغيرات، وفرصة لمراجعة خطط المؤسسات سواء منها الاتحادية او السلطات المحلية لتجنب الخسائر المادية الفاجعة والاستعداد لتقديم العون لضحايا الجفاف او الفيضان.
كما اود تأكيد ما قلته مرارا في السابق بضرورة التركيز على حماية محافظة البصرة التي تقع ضحية في الحالتين، اي في حالة الجفاف حين تتلوث المياه وتزداد التراكيز الملحية وتندفع موجات البحر المالحة شمالا، او في حالة الفيضان حيث تتدفق جبهة المياه الملوثة مع طلائع الموجة الفيضانية جنوبا وتستقر في شط العرب والقنوات المرتبطة به.
*سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة في روما
شبكة الإقتصاديين العراقيين – 16 آذار 2013
أحسنت العرض والتحليل يادكتور، بارك الله في جهودك
كامل العضاض