الموارد المائية و حماية البيئة
05/09/2013
اولا: لم تتغير اساليب ادارة واستخدامات الموارد المائية في العراق، وخاصة لاغراض الري، الا قليلا منذ العهد السومري. فالري السيحي باغمار الاراضي المزروعة مازال هو الاسلوب السائد في العراق، بالرغم من ان الضائعات في هذه الطريقة من الارواء تتجاوز الـ (60 بالمئة) وتسبب اضرارا اخرى، مثل رفع مستوى المياه الجوفية والتغدق والتملح، أوالتلوث الناتج عن الافراط في استخدام مبيدات واسمدة كيمياوية تنتشر في مقطع التربة المزروعة على كامل مساحة الحقل المروّي مما يقلل من فاعليتها ويزيد من كلفة الانتاج.
ثانيا: لقد تغير الوضع الطبيعي الذي كان سائدا في وادي الرافدين منذ اواسط السبعينيات بصورة دراماتيكية، اثر السيطرة الكاملة على تصاريف الانهار، والقدرة الكبيرة على تخزين ايراداتها، والتحكم باطلاقها من قبل دول الجوار الجغرافي، فضلا عن تعقيدات التغيرات المناخية غير المعروفة جيدا وتأثيرها السلبي على وادي الرافدين، ولم يعد معها امام العراق اي خيار آخر سوى الحفاظ على موارد التربة والمياه في ظل شروط مختلفة عما كان سائدا منذ آلاف السنين.
ثالثا: تغير كذلك الواقع السياسي في العراق جذريا، وسادت اجواء جديدة بعد عام 2003، اصبح معها للاقاليم والمحافظات سلطات ملتبسة تضمنها الدستور الجديد، وانتعش المجتمع المدني، وبضمنه فئة الفلاحين والمزارعين، ولم يعد معه بالامكان قمع او تغييب ارائهم واتخاذ اجراءات فوقية، مما يتطلب اصلاح منظومة القطاع المائي ليناسب الظروف المستجدة سياسيا ومناخيا ودستوريا، وخلق بيئة تشريعية وسياسية وتنظيمية صالحة لتقديم برامج الاصلاحات القطاعية المطلوبة، وتطوير آلية قادرة بقوة القانون على تنفيذ تلك الاصلاحات، والتكفل باتخاذ القرارات والاجراءات التي تؤمن انتقالا سلسا من وضع قطاعي مشتت، وصلاحيات غير واضحة للعديد من مؤسسات الدولة، الى قطاع متماسك ومتكامل وشفّاف يؤمن الاسهام الفعلي للشركاء واصحاب المصلحة كافة بصياغة القرارات والاستفادة من نتائج تنفيذها لتحقيق تنمية مستدامة في القطاع المائي.
رابعا: نعم لقد لعبت الموارد المائية في الانهار والقنوات والبحيرات والاهوار العراقية، دورا رئيسيا في الاسهامة الكبرى للعراق القديم في التقدم البشري، ومثّلت نقطة جذب مهمة، وعاملا في استقرار الاقوام المهاجرة التي تشكّل منها المجتمع العراقي المتعدد الاعراق والاديان والطوائف، وهي تمثل جزءاً لايتجزء من التكوين الاجتماعي والاقتصادي والموروث الثقافي والديني في العراق، ولكن لا يكفي استرجاع الماضي المجيد لحل مشاكل الحاضر والمستقبل، ولأن المشكلات المائية التي يواجهها العراق هي تحديات واقعية ضاغطة لايمكن تجنبها بالتمني او في انتظار القضاء والقدر، او بتكرار الشكاوى من الاجحاف الذي تلحقه بنا دول الجوار، بل بابتكار وسائل وطرق جديدة وفعالة تقود العراق من حالة التلقي السلبي وانتظار الفرج، الى حالة الاستجابة الفاعلة للشروط الجديدة وتقديم خدمات المياه للمجتمع بصورة افضل.
خامسا: لقد تعثرت جهود ادخال التقنيات الحديثة واستخدام الانظمة المغلقة في الري والزراعة، التي بدأت في السبعينيات، ولم تستخدم منذ ذلك الحين الا على نطاق ضيق، وليس من قبيل التكرار ان ذكرت الاسباب الرئيسية الثلاثة التي اعاقت ذلك وهي: اولا الحروب وما احدثته من خراب اقتصادي وكوارث اجتماعية وتدمير لموارد البلاد وبناها التحتية، وثانيا انتشار الفقر في الاوساط الريفية والفلاحية، وثالثا تفتيت الملكية الى حيازات صغيرة يكون معها الاستثمار بالتقنيات الحديثة غير مجدٍ اقتصادياَ، وهناك عوامل اخرى لامجال لسردها، ومنها تعثر جهود استصلاح الاراضي مما فاقم مشكلات تملح الاراضي، وهي اعقد مشكلة تواجه الزراعة في العراق وبحاجة الى حلول جذرية وعاجلة.
سادسا: ان اية محاولة جادة لمكافحة الفقر وتحقيق الامن الغذائي في العراق يجب ان تبدأ باصلاح القطاع المائي، فهو عامل رئيسي في قضية انتشار الفقر، وقد ذكرت ذلك في اكثر من مقال كان آخرها في جريدة الصباح (2 أيار 2013) ، لان الفقر يتركز في المناطق التي تشح بها المياه سواء كانت لاغراض الشرب والاستخدامات المنزلية الاخرى، او لاغراض السقي والارواء في الارياف والمناطق التي تكون بها الزراعة هي النشاط الاقتصادي الوحيد للسكان، ومن الواضح ان شحة المياه، او تلوثها، بالاضافة الى كونها خطر كبيرعلى الصحة العامة، فهي سبب اساسي في انتشار الامراض وسوء التغذية والفقر.
سابعا: ان اية معاينة منصفة وعلمية لتقييم اداء القطاع المائي في العراق ستكشف الحاجة القصوى لاعادة النظر بالطريقة التي يدار بها هذا الملف الشائك بكل تشعباته المعقدة، سواءا ما تعلق منها بانعدام التوافق الدولي مع دول الجوار المشتركة بدجلة والفرات وروافدهما، او بما ينذر به مستقبل الرافدين في ظل تغيّرات مناخية سلبية وبيئة سياسية ملتبسة، او بتشغيل منظومة المنشآت العديدة على احواض الانهر، او بكفاءة البنى التحتية، او بتنظيم الاولويات في حالات الجفاف الممتدة او الفيضانات المفاجئة، اوبسياسات خزن المياه وتوقيتات اطلاقها للاستخدامات المتعددة، او بتوزيعها على شبكة المستفيدين من العاملين في الزراعة والصناعة وغيرها، ام بتنقيتها وضخّها لاغراض الشرب، او بجمعها بعد الاستخدام ومعالجتها من الملوثات، او في التخلص منها كمياه صرف صحي، او مياه بزل تجمع وتقذف في النهاية خارج الحدود، وغير ذلك من اجراءات متشابكة.
ثامنا: ان ادارة الموارد المائية هي منظومة اجراءات وعمليات متداخلة ومتتالية تتضمن التخطيط والتشغيل والصيانة والتسعير والتأهيل البيئي وانعاش الاهوار، اضافة الى تطوير حزمة القوانين والتشريعات اللازمة لتنظيم القطاع المائي، وفي مقدمتها حدود المسؤوليات والسلطات التي تتمتع بها الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية بادارة او استخدام المياه، وهي وزارة الموارد المائية، ووزارة الزراعة، وامانة بغداد، ووزارة البيئة، ووزارة البلديات والاشغال العامة، والادارات المحلية، واقليم كردستان، وغيرها مما يتطلب تطبيق اسس الادارة المتكاملة وتحسين حوكمة القطاع المائي افقيا على مستوى المؤسسات المركزية، وعموديا على مستوى علاقة المركز بالاقاليم والمحافظات ومستخدمي المياه.
تاسعا: قصور الدستور العراقي في تناوله لقضية ادارة الموارد المائية، مما سيخلق ازمات مستعصية وخلافات لا نهاية لها بين الاقليم (او الاقاليم في حالة انشائها مستقبلا) وبين المحافظات خاصة في اوقات الشحة.
فالمادتان 110- ثامنا و114- سابعا من الدستور العراقي تصنفان الموارد المائية الى خارجية، تخضع حصريا للسلطة المركزية، وداخلية تخضع للسلطات المحلية وهذا اغفال لطبيعتها المتحركة والمتجددة، وتوزيع غير سليم للصلاحيات، اذ لايمكن في ظل هذين المعيارين تأمين حقوق المواطنين في الحصول على حاجتهم من المياه بغض النظر عن اماكن سكناهم سواء في اعالي الانهر
او ذنائبها.
عاشرا: حاجة القطاع المائي الى تطبيق مبدأ مركزية الادارة ولا مركزية الخدمات، وما يتطلبه ذلك من تشريعات وقوانين وسياسات واضحة تؤمن ان ادارة الموارد المائية في عموم البلاد هي مسؤولية السلطات الاتحادية حصرا، في حين ان الخدمات المتعلقة بها، كانشاء شبكات التوزيع ومحطات المعالجة والتحلية وادارة البنى التحتية وغيرها، ترحّل الى السلطات المحلية التي يجب الزامها بقواعد حماية البيئة والمصلحة الوطنية العليا.
* سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)
لتنزيل الملقال كملف بي دي أف انقر هنا
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية