الموارد المائية و حماية البيئة

د. حسن الجنابي: العراق وتركيا وملف المياه المشتركة

لتنزيل الملف بكامله بصيغة بي دي أف انقر هنا

 الجزء الاول: بين المخاوف المشروعة والتهويل

اولا:
حملت جريدة الصباح في عددها الصادر يوم 23 تشرين الاول 2013 عنوانا رئيسيا لافتا باللون الاحمر في اعلى صفحتها الاولى جاء فيه عن لسان حال تركيا: “لا نية لقطع المياه عن الاراضي العراقية”، وكان بمناسبة قبول رئيس مجلس الوزراء العراقي دعوةً من رئيس الوزراء التركي لزيارة تركيا، ضمن مساعي ترطيب الاجواء بين البلدين كما جاء في الخبر. كما ابرزت الصحف العراقية قبل ايام ، بما فيها جريدة الصباح، دعوة نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسين الشهرستاني، للحكومة الاتحادية لتشكيل هيئة وطنية لمتابعة حقوق العراق في نهري دجلة والفرات، حيث القى بعض الضوء على حجم برامج السيطرة والتخزين في اعالي النهرين وابدى قلقه من نقص الموارد المائية الواردة الى العراق، مشيرا بوضوح الى ان هذا النقص لا يعود لاسباب طبيعية بل للاعمال التي نفذتها دول الجوار التي تشترك مع العراق بالنهرين وروافدهما.

ثانيا:
يظهر العنوان الرئيس لجريدة الصباح مدى حساسية الملف المائي مع تركيا، ليس على المستوى الرسمي فحسب بل على المستوى الشعبي ايضا، اذ مثلت قضية المياه المشتركة مع الجوار قلقا وطنيا حقيقيا منذ السبعينيات، وقد ظهر بأوسع اشكاله بعد العام 2003، في ظل تفاقم جملة من الازمات، بما فيها الوضع المائي، ممثلا بشحة المياه او تلوثها وانحدار انتاجية الارض وانتشار التصحر وكثافة عواصف الغبار، وانكشاف ابعاد جريمة تجفيف الاهوار العراقية، وغير ذلك من مظاهر كان الحديث عنها محرما قبل العام 2003. كما مثلت وقفة البرلمان العراقي السابق في العام 2009 بضرورة ادخال الملف المائي في الاتفاق الستراتيجي مع تركيا مقابل المصادقة عليه، نقلة نوعية بحجم الاهتمام الشعبي والرسمي بقضية المياه، ومثّل ذلك بشكل ما استجابة للقلق الشعبي حول القضايا الوطنية المصيرية ومنها قضية المياه. اما العبارة المقتبسة باللون الاحمر كعنوان رئيس في الصباح فقد لا تكون قد وردت على لسان الضيف الزائر، وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الامة التركي، لكن “نوايا قطع المياه” من عدمها مثيرة للقلق ومخيفة لجهة ان قطع المياه عن العراق امر محتمل، وهنا تبرز اهمية التناول الهادئ والعملي للقضية بعيدا عن الاثارة.
ثالثا:
الموضوع الذي اثاره السيد نائب رئيس الوزراء، يمثل هو الآخر تقدما مهما في ادراك قضية الامن المائي في العراق على مستوى السلطة التنفيذية، لان تشكيل مجلس وطني للمياه بصلاحيات واضحة هو آلية فاعلة لاصلاح القطاع المائي في العراق والارتقاء به لمستوى التحديات الجديدة. وللامانة لا بد من تأكيد اني حرصت على اثارة هذا الامر منذ العام 2004 وسبق ان تناولته في محافل وطنية عديدة، وكتبت بشأنه في مختلف الصحف، ومنها جريدة الصباح (راجع موقع ممثلية العراق الدائمة لدى الفاو للاطلاع على سلسلة المقالات حول الموضوع)، واعتقد ان العراق في الوقت الضائع عمليا فيما يخص الملف المائي مع الجوار الجغرافي، وقد تخلف عن الاستجابة لمعطيات الواقع المائي الجديد، وهو واقع تتحكم دول الجوار بمفاصله كلها، على خلاف ماكان سائدا عبر التاريخ، ولم يعد هناك ما يمكن انتظار حدوثه تلقائيا كحل للمشكلات المائية، حتى لو كانت العلاقات الثنائية او المتعددة الاطراف مع دول الجوار المشتركة بمياه الرافدين على افضل مايرام.
رابعا:
لقد ادرك برنامج الامم المتحدة الانمائي اهمية فكرة المجلس الوطني للمياه في العراق وعمل على الترويج لها وتنفيذها، وتعاون مع جهات حكومية متعددة واثمرت الجهود المشتركة عن اقرار الحكومة العراقية لمشروع القانون الخاص بالمجلس المقترح، وقُرئت مسودته في جلسات مجلس النواب لكنها التحقت بعد ذلك بقائمة القوانين التي يُنتظر تشريعها لانها قد تكون بحاجة الى توافقات سياسية يصعب تحقيقها في ظرفنا الراهن. ومن المؤسف حقا اخضاع قضية وطنية عليا لتوافقات يتطلب تحقيقها وقتا طويلا، وقد تُفرغ الفكرة من محتواها ولا تكون النتيجة مرضية بسبب معايير واعتبارات افرزتها العملية السياسية التوافقية القائمة على المحاصصة.
خامسا:
من الواضح ان الملف المائي مع تركيا يلقي بظلاله على العلاقة الثنائية بين البلدين منذ عقود، وسيبقى الامر كذلك في المدى المنظور، مهما تطورت وتشعبت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بل ان الملف المائي هو حجر الزاوية لاي تعاون قائم على الصداقة وحسن الجوار، ففي العراق مخاوف مشروعة من استحواذ دول الجوار على حقوقه المائية، وتلعب السياسة التركية بخصوص المياه المشتركة دورا في تعميق تلك المخاوف من خلال الاصرار على تنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول وخاصة تشييد السدود الكبرى، وآخرها انشاء سد اليسو على نهر دجلة بالقرب من الحدود العراقية، من دون معالجة القلق العراقي المبرر حول التأثير المدمّر للسد على العراق اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، وهو تأثير سبق لمنظمات ووكالات دولية محايدة ان لفتت اليه انظار الحكومة التركية، واتُخذت اجراءات سُحب اثرها الغطاء الدولي لمشروع سد اليسو، وقبله سد اتاتورك على الفرات، وخاصة لجهة تمويل المشروع، لمخالفته مبادئ القانون الدولي فضلا عن تهديده المحتمل للاستقرار، ولتجنب آثاره البيئية والثقافية حتى داخل الحدود التركية.

الجزء الثاني : إشكاليات دولة المصب وغطرسة دولة المنبع

اولا:

اقل ما يقال عن الدولة التي تقع في ذنائب الانهار المشتركة (اي دولة المصب)، في ظل التنافس المتزايد على استغلال الموارد المائية والسعي للتحكم بها، بانها غير محظوظة. والعراق يقع في ذنائب الانهار، وهو بذلك يتلقى نتائج افعال جيرانه في صدور ومنابع الانهار سلبا وايجابا. وواقعا فان سلبيات افعال الجيران على العراق في ادارة المياه تفوق كثيرا ايجابياتها، ان كان ثمة ايجابيات اصلا، ولكن السلبية الكبرى هي العجز المستمر عن التوصل الى اتفاق دولي (او اتفاقيات مع كل الاطراف) لادارة وتقسيم مياه الانهار المشتركة، وطغيان البعد السياسي على الموضوع، واستخدام منجزات الهندسة والتكنولوجيا لتكريس نزعة السيطرة المبالغ بها على جريان الانهار وتوقيت الاطلاقات المائية من السدود، حتى اضحت المياه، أثر ذلك، وبدون اعلان صريح، بل وحتى وسط نفيٍ رسمي، بيدقا على لوحة شطرنج تحركه عقلية الربح والانتصار المزعوم فيما يصطلح عليه باللغة الانكليزية بـ “Hydropolitics” وهو مصطلح يعني الاستخدامات الجيوبوليتكية للموارد المائية لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية تؤمن الزعامة والتفوق بالضد من امثولة الاستخدام الامثل والمستدام للموارد المائية لتحقيق منافع مشتركة.

ثانيا:

لايمكن تأمين حقوق دولة المصب بالنوايا الحسنة والامنيات، بل بالعمل المضني والمستمر،وبتحقيق شبكة مصالح مع دولة المنبع تكون بذاتها دافعا للعمل من اجل ادارة مشتركة للمياه تقوم على مبادئ الانتفاع المنصف والمعقول وتجنب الاضرار بالشركاء، حرصا من دولة المنبع على مصالحها الستراتيجية.وبما ان الدبلوماسية أوالسياسة والعلاقات الدولية ليست لعبةً بريئة،ولا يتحقق الانصاف بها تلقائيا، حتى لو كانت حقوق احد الاطراف واضحةً وضوح الشمس شرعا وقانونا، فيجب ان تتوفر في دولة المصب عدة شروط لتكون فاعلةً في تحقيق شبكة المصالح التي تحمي حقوقها ومنها الحقوق المائية واهمها: ان تكون الدولة قوية ومتماسكة اقتصاديا واجتماعيا ودبلوماسيا وعسكريا،ولايمكن هزيمتها او ابتزازها بهذه الحقول بسهولة، وبالاخص على مائدة المفاوضات، كخيار اوحد لحل الخصومات المائية.اما الشرط الثاني فهو كفاءة ادارتها للموارد المائية المتاحة لديها، فلا يستقيم منطق الخصام والصراع على الحقوق المائية، وان بشكله السلمي، مع الهدر والاهمال وسوء التخطيط والاستخدام المفرط وقلة انتاجية وحدة الارض او وحدة المياه. اما الشرط الثالث فهو ان تكون مطالبها بالمياه المشتركة واضحة وممكنة التحقيق،وموقفها التفاوضي سليم وقائم على معطياتٍ حقيقية وواقعية ، ويستند الى القانون الدولي والمصلحة المشتركة، التي تجسدها شبكة المصالح الحيوية مع دولة المنبع. وبالامكان سرد شروط اخرى لاتقلّ اهميةً ولكن المجال لايتسع لها.

ثالثا:

مرّت العلاقة المائية بين تركيا والعراق بمراحل شائكة، كانت بدايتها طيبة اذ حصل اثرها اتفاق عام 1946، الذي اعترفت وفقه تركيا بحقوق العراق،وتعهدت بالامتناع عن القيام بأعمال مضرّة به عند استغلالها للموارد المائية المشتركة. واظن ان الاتفاق المذكور حتّمته معطيات اهمها التقارب والاصطفاف السياسي للدولتين آنذاك، والاكثر اهمية هو ان تركيا لم تكن لديها الامكانيات المادية المطلوبة لتنفيذ منشآت كبرى في اعالي النهرين في حينه، ولا طموحات الزعامة التي طفحت في الثمانينيات والتسعينيات، كما لعب استعداد قادة البلدين للتفاوض حينئذ دورا في صياغة الاتفاق المذكور. لكن الاحداث العاصفة التي تلت ذلك وسعير الحرب الباردة ومارافقها من استقطابات جديدة،لم تسمح للبلدين بالاتفاق النهائي بشأن اقتسام مياه الرافدين، وحصلت شبه قطيعة امتدت الى الثمانينيات، حيث شكلّ البلدان مع سوريا لجنة فنية ثلاثية، لتطوير اتفاقية مقبولة للاطراف الثلاثة، ولكنها لم تنجز عملها فجُمّدت بعد اكثر من عشرة اعوام من العمل بمعدل اجتماع واحد او اكثر في العام. كما اسهم تهوّر النظام السابق وهوَسُه بالحروب الداخلية والخارجية بتراجع قضية المياه المشتركة الى مؤخرة اولوياته، وظهر عجزه عن التوصل الى اتفاقات تضمن حقوق العراق بمياهه، بل انه حوصر الى حدّ أجبر فيه على عقد اتفاقات امنية وعسكرية انتهكت وفقها تركيا سيادة العراق وارضه لمئات المرات، فضلا عن تفريطه بالسيادة على نصف شط العرب في وقت اسبق.

رابعا:

استفحلت في التسعينيات نزعة القوة المائية الاكبر لدى تركيا وبرزت طموحات زعامة وصدرت تصريحات لاعقلانية ومتغطرسة بشأن مياه الرافدين، بما فيها من قبل رئيس الدولة التركي آنذاك، اعتبر بها مياه الرافدين مياها تركيةً عابرة للحدود وقارن الثروة المائية في تركيا بالثروة النفطية لدى العرب، وسوّق افكار بيع المياه الى دول اخرى وغير ذلك، ما اثار سخطا كبيرا حتى من لدن وكالات ومجاميع دولية، في وقت كانت تركيا تسعى به للانضمام للاتحاد الاوروبي. لقد تزامن تصاعد الموقف المتزمت لتركيا حول الموارد المائية المشتركة مع دخول تنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول (غاب) مراحل متقدمة تكللت بانجاز سد اتاتورك، وهو رابع اكبر سد في العالم، وقبله سدّي كيبان وقره قايا، وملأه بطريقة استفزازية قطعت اثرها مياه الفرات تماما عن الجريان في مطلع العام 1990، اذ حُوّل النهر بكامله الى بحيرة اتاتورك، دون الالتفات الى الاحتجاجات العراقية والسورية، وكان ذلك تذكيرا مخيفا بقطع مياه الفرات في الفترة 1976-1977 حيث تزامن ملء سد كيبان في تركيا مع ملء سد الطبقة السوري فتعرض أثرها الفرات في العراق الى جفاف شبه كامل وكانت تلك كارثة لم يألف حدوثها سكان وادي الرافدين في السابق.

خامسا:

على مشارف الالفية الثالثة ومع تزايد احتمالات دخول تركيا للاتحاد الاوروبي، تغير الخطاب التركي حول المياه المشتركة نحو الافضل كثيرا، وبلغ أحسَنه في ظل حكومة السيد اردوغان، ولكن الخطاب السياسي المرن لم يتحول الى اجراءات عملية تسهم في التوصل الى اتفاق نهائي حول المياه المشتركة.
فقد استمر تنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول بوتائر متسارعة حتى بعد ادانة المقاربة التركية بتنفيذه باعتبارها مقاربة تتعارض مع اسس التنمية المستدامة، ومضرّة بيئيا وثقافيا ولاتسهم بترسيخ السلم، ولم تقم تركيا الا بتقديم مبادرة ثلاثية المراحل، مصممة لمنفعة طرف واحد فقط هو دولة المنبع، وما انفك المسؤولون الاتراك الحاليون والسابقون يتمسكون بها في مختلف المحافل الدولية، وكان آخرهم وزير خارجية تركيا السابق السيد يشار ياكيش الذي عرضها في مائدة مستديرة عقدت في مقر مجلس العموم البريطاني ضمن فعالية السلام الازرق التي يشرف عليها الامير الحسن بن طلال ويسهم بها من العراق السيد بختيار أمين الشخصية العراقية المعروفة، الذي قدم بالاجتماع نفسه رؤية وطنية مشرّفة لقضية الموارد المائية المشتركة.

الجزء الثالث : الشراكة المتكافئة مقابل أوهاوم القوة العظمى

اولا:

ان اهم شرط لنجاح المفاوضات المائية هو عقدها بين شركاء متساوين وحريصين على التوصل الى ادارة مستديمة للموارد المائية المشتركة. وبالمقابل فان اهم عائق امام الاتفاق التفاوضي هو شعور دولة المنبع بأن موقعها الجغرافي يمنحها سطوة وقوة اضافيتين تمكّناها من اخضاع دولة المصب لشروطها. وقد اظهرت غالبية الخصومات حول الانهار الدولية هذه النزعة، الا ما ندر، وان لم تتوفر رغبة التوصل الى اتفاق نهائي لدى جميع الاطراف، فان المزيد من التفاوض لا طائل منه. وقد بينت العديد من التجارب للاسف ان عدم التوصل الى اتفاق يرضي الطرف الاقوى، فانه لايأبه لاستمرار المفاوضات الى ما لانهاية، ان كان ثمة مفاوضات، او لاعادة النظر بما اتفق عليه، في حال وجود اتفاقيات دولية سابقة عقدت في ظروف مختلفة، او لا يرغب بالشروع بالتفاوض اصلا قبل احكام السيطرة شبه التامة على منابع المياه.

ثانيا:

لقد اشرت سابقا الى ان “الخلافات” او “الخصومة” المائية هي فعل مستمر بسبب حركية الموضوع. فالمياه عنصر متحرك زمنيا وجغرافيا، ويخضع لتقلبات الطقس والتغيرات او الاحتياجات الموسمية، الى جانب الاحترار المناخي وتأثيراته غير المعروفة تماما بعد، وغير ذلك. فالمياه تحدث في الطبيعة بصور متناقضة، بل ومتطرفة من الفيضان المدمر الى الجفاف القاتل، والشيء الوحيد المعروف عنها هو تاريخ وحجم حدوثها في الماضي، اي عبر الملاحظات والقياسات والمسوحات والمراقبة والسجلات والتوثيق. فالماضي في الميدان المائي هو حالة اليقين، اما المستقبل فهو حالة اللايقين، حيث ان الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما قد يحصل مستقبلا هو التنبؤ عبر المعادلات الرياضية والنماذج الرقمية المستندة هي الاخرى على توثيق احداث الماضي، وادخال جملة من الافتراضات للتنبؤ بالمستقبل وفق سيناريوهات متعددة، بغرض تطوير سياسات مائية مناسبة للسيناريوهات الاكثر احتمالا. ولذلك فان ديمومة الاتفاقية المائية تقاس بمدى استجابتها لهذا المعطى الواقعي، اي بقدر ابتعادها عن الحلول الميكانية والارقام الجامدة، بل بالاستناد الى حلول مرنة، عادلة وديناميكية يمكن تطبيقها في مختلف الظروف.

ثالثا:

في حالة نهري دجلة والفرات، فان التفاهم الاولي لعام 1946 بين العراق وتركيا لم يجد متسعا من الوقت لتنفيذه، كما فشلت اللجان الفنية المشتركة التي شكلت لاحقا في التوصل الى نتائج مقبولة، بسبب تعقيدات وافرازات الحرب الباردة، ثم جاء العائق الاعظم عندما شرعت تركيا بتنفيذ مشروعها الاكبر (غاب) الذي سعت به، من بين اهداف اخرى، للسيطرة المطلقة على جريان الرافدين، وتحقيق فكرة القوة المائية الكبرى في الشرق الاوسط، وخلق واقع جديد على الارض لايمكن تجاوزه او القفز عليه.وبالفعل اصبح بامكان دولة المنبع التحكم الكامل بجريان نهر الفرات منذ عام 1990، وهي السنة التي اكتمل بها بناء سد اتاتورك، وسيكون بامكانها خلال السنوات المقبلة التحكم شبه المطلق بجريان نهر دجلة بعد الانتهاء من تشييد سد اليسو،الا في حالات الفيضان الكبرى. وقد كان معروفا لأي متابع للملف المائي بين العراق وتركيا وسوريا، ومنذ الثمانينيات، انه لم توجد، ولن توجد، اية فرصة للتوصل الى اتفاقية نهائية لقسمة المياه المشتركة قبل عام 2015، وهي السنة التي خُطّط ان يكتمل بها مشروع (غاب)، وحيث سيكون الوضع التفاوضي لدولة المنبع بعد ذلك التاريخ مريحا جدا، اذ يتحرر المفاوض من ضغوطات الزمن وحراجة الموقف، بل من السعي للبحث عن بدائل مرضية لجميع الاطراف، لانه يتحكم بجريان الانهار.

ثالثا:

لقد انفقت تركيا على مشروع “غاب” مايقرب من ثلاثين مليار دولار، وهو مبلغ ضخم ينفق على مشروع استصلاح اراضي وارواء في بلد من بلدان العالم الثالث (واقعا لاتستطيع حكومة اي بلد من البلدان الديمقراطية المتقدمة الحصول على تفويض لانفاق مبلغ كهذا على مشاريع مشابهة)، لذلك فقد خلق المشروع ردود افعال سلبية من الدول الدائنة والوكالات الدولية.
فقد انسحب البنك الدولي من تمويل سد اتاتورك وانسحبت المانيا والنمسا وسويسرا من تغطية تأمين القروض المخصصة لسد اليسو من قبل مصارفها ووكالاتها المالية، وشهدت وتشهد تركيا عزلة دولية في المنتديات الدولية المعنية بالمياه، وآخرها المنتدى السادس للمجلس الدولي للمياه في مرسيليا الفرنسية، بالرغم من نجاحها في عقد المنتدى الخامس في اسطنبول. كما سبق ان صوتت تركيا الى جانب دولتين فقط بالضد من اتفاقية الامم المتحدة لاستخدام المجاري المائية الدولية للاغراض غير الملاحية لعام 1997 مقابل اكثر من مئة دولة مؤيدة للاتفاقية، وهناك شواهد عديدة لاطائل من الاسهاب بسردها. لكن ما هو مؤكد فان الاهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتوخاة من مشروع “غاب” لم تؤت ثمارها بعد، وباعتقادي انها لن تتحقق بالكيفية التي تخيلها مهندسو المشروع في النصف الثاني من القرن العشرين، لأن العالم قد تغير كثيرا،واظهرت المعرفة والتجربة البشرية ان البيئة هي كائن حي، وان النهر هو تكوين واحد من المنبع الى المصب ولايصح العبث بطبيعته الا بالحدود الدنيا التي تتطلبها التنمية المستدامة.

رابعا:

ان تركيا دولة جارة وصديقة يشترك العراق معها بوشائج كبيرة ومنها النهران العظيمان، ولا يصحّ الا ان يتمنى المرء نجاح خططها التي تعود بالنفع على المنطقة.
وبالمنطق نفسه تتطلب الصداقة الحقيقية ان يكون المرء صريحا، وهنا يفترض القول ان كلفة انشاء مشروع الغاب على العراق اكبر بكثير من كلفته على تركيا، مع فارق ان تركيا تسعى للانتفاع من المليارات التي انفقتها بعد اكتمال المشروع كعائدات وايرادات مادية واجتماعية،لكن العراق سيبقى يدفع فاتورته الى ما لانهاية، بصورة التدني بالايرادات المائية ونقص في الطاقة الكهرومائية من سد حديثة، والاختفاء التدريجي لبحيرتي الحبانية والرزازة، وتدهور البيئة ونقص انتاجية الارض وانتشار التصحر، وانحدار نوعية وكمية الثروة السمكية، وانكماش المساحات الخضر، ومخاطر تقلص وجفاف الاهوار، والهجرة من الارياف، والقضاء على التنوع البيولوجي، وتهديد السلم الاهلي، فضلا عما يمكن اعتباره مساسا بالسيادة الوطنية، لأن سيادة دولة المنبع على المياه التي تنبع من اراضيها مكافئة قانونا لسيادة دولة المصب على المياه الواردة الى اراضيها، وغير ذلك. وما لم يتم احصاء الاضرار والعمل على تعويضها بصيغة مقبولة، يكون الاتفاق حول قسمة او ادارة المياه المشتركة ناقصا.

خامسا:

القضية الاكثر اثارة، والتي هي بحاجة الى تحليل عميق وموقف جدّي، باعتبار بلدنا هو بلد المصب، هي ان مياه الرافدين وروافدهما اصبحت تصدّر الى العراق على شكل بضاعة ومنتجات زراعية. فالعراق يستورد منتجات زراعية كثيرة من دول الجوار التي تسيطر على منابع المياه، الى حد اغراق السوق العراقية بها احيانا، وبحيث تفقد معه المنتجات الزراعية العراقية قدرتها على الصمود في السوق نتيجة لضعف امكانياتها التنافسية، مما يتسبب بالمزيد من الخسائر والافقار لفئات شعبية كبيرة،وخاصة فقراء الفلاحين وسكان الريف.
واذا كانت هذه البضاعة المستوردة، تُنتج في مساحات مستصلحة حديثا في دول الجوار باستخدام مياه الرافدين (التي كانت برمتها مياها عراقية قبل بناء السدود) فان الامر بحاجة الى وقفة مراجعة واجراءات حاسمة تضمن حقوق العراق. فالجوار الجغرافي يحجز ويستخدم المياه الطبيعية الجارية التي كانت تدخل العراق منذ الازل بدون عوائق، ثم يصدّرها للعراق على شكل مياه افتراضية لانها استخدمت في سقي وانتاج المزروعات التي تملأ سوق الغذاء في العراق، وهذا يخلق بالطبع مشكلات اجتماعية واقتصادية وبيئية، ويجب ان تؤخذ هذه القضية بالاعتبار، الى جانب الاضرار المباشرة الاخرى التي ذكرت في الفقرة السابقة، في اي مفاوضات لقسمة مياه الرافدين المشتركة.


Normal
false
false
false
EN-GB
X-NONE
AR-SA


/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Normale Tabelle”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin-top:0cm;
mso-para-margin-right:0cm;
mso-para-margin-bottom:10.0pt;
mso-para-margin-left:0cm;
line-height:115%;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:11.0pt;
font-family:”Calibri”,”sans-serif”;
mso-ascii-font-family:Calibri;
mso-ascii-theme-font:minor-latin;
mso-hansi-font-family:Calibri;
mso-hansi-theme-font:minor-latin;
mso-bidi-font-family:Arial;
mso-bidi-theme-font:minor-bidi;
mso-fareast-language:EN-US;}

الجزء الرابع : العراق وتركيا وملف المياه المشتركة

04/12/2013

أولا:
تستمر تركيا في تشييد سد اليسو على نهر دجلة على مسافة 65 كم عن الحدودالعراقية، وقد قرأت في اكثر من موضع تصريحات مسؤولين اتراك اشارت الى ان بناء السد سيكتمل في العام 2015، بعدما اعلن في نهاية القرن الماضي عن اكتمال مشروع “غاب” عام 2010. وحقيقة فان الاستمرار في اعمال تشييد السد ينطوي على تحد واضح للرأي العام العالمي، فضلا عن المحلي والاقليمي، خاصة بعد ان سحبت الحكومات الاوروبية الثلاثة، المانيا وسويسرا والنمسا، تأييدها لتمويل نسبة تقدر بحوالي ثلث كلفة المشروع، الذي تزيد كلفته الكلية على مليارين ونصف المليار دولار.
هنا لا بد من ملاحظة قضية هامة وهي ان المبلغ الذي كانت ستحصل عليه تركيا من الكونسورتيوم المالي الاوروبي بحد ذاته ليس كبيرا، لان تركيا قادرة على ايجاده من ممولين آخرين، بينهم وكالات عربية، لكن الانسحاب من تمويل المشروع بعد الموافقات الاولية، مثّل ضربة كبيرة لطموح تركيا بكسب الموقف الاوروبي الى جانب مشروع “غاب” والقبول بالمقاربة التركية حول ادارة واستخدام مياه الرافدين دجلة والفرات، وبالنتيجة تعزيز فرص تركيا بدخول الاتحاد الاوروبي.

ثانيا:
لقد كان الدعم الاوروبي في البدء، دافعا لتركيا شجعها على الامعان في تجاهل تأثير مشروع “غاب” على العراق، وبدرجة اقل على سوريا، وقد اضعف الوضع العراقي منذ حرب الخليج الاولى قدرات العراق على الوقوف بحزم ضد إلحاق الاذى بحقوقه المائية، او تقليل الاضرار التي لحقت او ستلحق به، او في الضغط للاتفاق على صيغة مقبولة للطرفين (او الاطراف الثلاثة في حالة نهر الفرات)، اي تحقيق اتفاقية طويلة المدى لادارة مياه الرافدين المشتركة، فقوة العراق في السبعينيات والثمانينيات كانت متكافئة الى درجة كبيرة مع تركيا وسوريا، والاقوياء المتكافئون اكثر قدرة على اتخاذ القرارت، واقرب الى الاتفاق على الحلول العادلة والمرضية لجميع الاطراف، لكن تلك النافذة الزمنية لتحقيق اتفاقية دولية حول مياه الرافدين، اهدرت بعد تحطيم قدرات العراق اثر دخوله نفق الحروب والعزلة فاستبيحت سيادته على المياه والارض والسماء، واستكملت تركيا، ودول الجوار الاخرى، والى حد كبير، انشاء منشآت السيطرة والسدود الكبرى، وأدخلت بذلك عوامل اضافية الى طاولة التفاوض لتزيدها تعقيدا، لان هذه المنشآت اقيمت بقرارات انفرادية من دون التشاور مع العراق، بل واعتراضه، وهي تعمل لمصلحة طرف واحد وتسبب في غالب الاحيان اضرارا في دولة المصب.
ثالثا:
لا يضيف الخوض بالتفاصيل الفنية لمشروع سد اليسو شيئا مهمّا للنقاش، وهي تفاصيل بعضها معروف ومتاح، وسبق لي الكتابة عنها في الصحف العراقية، لكن من الضروري تذكير غير المختصين بمعلومات اساسية لغرض ادراك مخاطر المشروع على نهر دجلة ومنها ان سعة خزين سد اليسو تبلغ (11) مليار متر مكعب وهي اكثر من نصف معدل تصريف دجلة السنوي على الحدود العراقية البالغ (20) مليار متر مكعب، واكبر من التصريف السنوي في اوقات الشحة، حيث يتدنى الى (9) مليار متر مكعب سنويا، فمن المؤكد ان ايرادت نهر دجلة على الحدود العراقية ستنخفض الى حوالي النصف في السنوات الاعتيادية، وان هناك احتمالا كبيرا بقطع ايرادات النهر تماما عن العراق في السنوات الشحيحة، خاصة عند اكمال سد جزرة الاروائي على دجلة الى الاسفل من سد اليسو، والذي سيستخدم لإرواء مئات الآلاف من الاراضي المستصلحة. كما سيقلل سد اليسو من اهمية سد الموصل وفائدته في العراق الى درجة كبيرة، لان نصف ايراده السنوي في موسم الربيع حيث الذروة ستستخدم لملء سد اليسو، وذلك في وقت يستعد العراق فيه لانفاق مبلغ ضخم لتصليح اسس سد الموصل التي تعاني من خلل مزمن، وبذلك تتعرض الزراعة في حوض دجلة في العراق الى مخاطر واضرار كبيرة، وتنكمش مساحات الاهوار التي تتغذى من دجلة وغير ذلك الكثير.
رابعا:
اعتقد ان من يقلل من مخاطر سيطرة الجوار على موارد الرافدين المائية، او يهملها، يرتكب خطأً كبيرا في التقدير، إذ إن الامر يتعلق مباشرة بالامن الوطني العراقي. وينطبق الامر بنفس الدرجة على الذين يعتقدون ان لا حقوق لتركيا في الرافدين لمجرد انها لم تستغل مياه الرافدين قبل هذا التاريخ. هناك ايضا اصوات قليلة تروّج احيانا، عن سذاجة او جهل، الى فكرة ان يقوم العراق بمباركة وتمويل سد اليسو لكي يكون للعراق دور في تشغيله لاحقا، وهذه فكرة مرفوضة جملة وتفصيلا.
ان العراق بحاجة الى موقف تفاوضي ذكي وصارم وقابل للتحقيق، بعيدا عن التلويح بالحرب بقدر ابتعاده عن العواطف والشعارات، بل بالانخراط الواعي اقليميا ودوليا وثنائيا في عمل دبلوماسي مكثف، وبرامج ومشاريع وطنية واقليمية عابرة للحدود من اجل خلق شروط تشجع على التفاوض المباشر من موقع الشريك القوي، وليس الضعيف المستجدي الذي لا يملك غير الشكوى من دول الجوار في حالتي الفيضان والجفاف!!.
خامسا:
اقتبس فيما يلي فقرة من إحدى مقالاتي المنشورة قبل عامين عن نهر دجلة حيث قلت: “ان عددا قليلا من المواطنين يدركون، ان مياه الشرب التي يستهلكها سكان مدينة الناصرية الفراتية هي من مياه نهر دجلة وليس الفرات، وكذلك الامر مع مدن أخرى كسوق الشيوخ وغيرها، حيث يقع مشروع إسالة المياه الذي يغذي الناصرية وأقضيتها، في منطقة البدعة على نهرالغراف المتفرع عن نهر دجلة. كذلك الأمر مع مدينة البصرة، لان مياه نهرالغراف (وهو من فروع دجلة) تضخ لها خلال قناة مفتوحة يبلغ طولها (240) كم من منطقة البدعة الى البصرة، تسمى الآن “قناة ماء البصرة” وكانت تسمى “قناة الوفاء للقائد” وهي مخصصة لنقل مياه الشرب لسكان مدينة البصرة منذ منتصف التسعينيات!. قد يبدو ذكر هذين المثالين لمياه الشرب في الناصرية والبصرة، طريفا للبعض، لكنه امر محزن، لانه مؤشرعلى هول الكارثة التي حلت بالعراق وخاصة في الجنوب. فمياه الفرات في مدينة الناصرية غير صالحة للاستهلاك البشري حتى بعد معالجتها لأغراض الشرب بسبب ملوحتها العالية . لذلك لجأ سكان المدينة الى الاعتماد على مياه دجلة الواقعة على مسافة (50) كم من أجل الحصول على احتياجاتها من مياه الشرب. اما البصرة، التي كانت تطفو على بحيرات من المياه العذبة، سواء في شط العرب اوفي قنواتها الستة الشهيرة (السراجي والخورة والعشار والخندق والرباط وجبيلة)، فقد أصبحت منذ التسعينات اسيرة “قناة الوفاء للقائد” وهي كما ذكرنا من قبل، قناة صغيرة مفتوحة تجري لمسافات طويلة جدا من منطقة البدعة على الغراف الى شمال مدينة البصرة، وبذلك تكون عرضة للتخريب او الانهيار او التلوث، بعد ان تحولت المياه العذبة في البصرة الى مياه ملوثة ومالحة، وقنواتها الست الى حفر لقذف القمامة، منذ الحرب العراقية الايرانية وما تلاها من حروب”.
(يتبع)

 

الجزء الخامس  والاخير: المياه المشتركة في ضوء القانون الدولي

12/12/ 2013

اولا:
شهدت الدول المشتركة بمياه الرافدين، ولا تزال،مخاضا غير مسبوق، دخلت اثره مرحلة جديدة لها استحقاقات مختلفة، لذلك فمن غير المستبعد، في حال استقرار الوضع قريبا، توافقها على ترتيبات طويلة الامدبشأن قسمة المياه المشتركة.فالنتيجة النهائية لهذا المخاض ستكون في صالح الشعوب، وان خيار الاتفاق على استدامة الموارد الطبيعية المشتركة، وليس الاقتتال من اجلها، هو الخيار العقلاني الوحيد.فالشعوب تدرك ان الاخطار والتحديات التي تواجهها المنطقة لاتتوقف عند الحدود الوطنية، بل هي عابرة للحدود، سواء كانت التحديات طبيعية، كالتغير المناخي والتصحر والاوبئة، او تحديات سياسية-امنية تُنتهك اثرها سيادة البلدان والشعوب من دون تمييز. وسيصبح واضحا اكثر من اي وقت مضى، ان انتهاك حقوق احد الاطراف لايصب في مصلحة مجموع الاطراف، وان اضعاف الشريك ليس في مصلحة الشراكة، وان استنزاف الموارد المائية لدولة المصب لا يصب في مصلحة دولة المنبع، وان الاستدامة خير من المكاسب القصيرة الامد، او المكاسب الانتهازية الطابعة والمؤقتة التي تغري بها ظروف عدم الاستقرار السياسي في المنطقة.
ثانيا:
تتكرر الاشارة الى القانون الدولي للمياه والدعوات الى تطبيقه في خطب وتصريحات العديد من المسؤولين العراقيين من كل المستويات والاختصاصات،ويلجأ بعضهم الى تداول ارقام واحصائيات ومطالبات باطلاق كميات محددة من المياه من السدود التركية دون سند علمي او تبرير اقتصادي،ولن يفيدنا شيئا ذِكرُ الامثلة بهذه المناسبة،بقدر الدعوة الى ضرورة احترام اختصاصات مؤسسات الدولة المعنية وعدم القفز عليها. ففي النهاية لاتعكس تلك الخطب والتصريحات بالضرورة فهما واقعيا لقانون المياه الدولي وتطبيقاته على وادي الرافدين، لكنها في غالب الاحيان تنبع من المنافسة والتسابق على الظهور الاعلامي، ما يسبب مزيدا من الارباك وخلط الملفات، فتضيع الحقائق على المواطنين وسط ادعاءات متناقضة لا تصبّ بالنتيجة في مصلحة العراق.
ثالثا:
ان القانون الدولي للمياه ليس دستورا مكتوبا بفقرات وتطبيقات محددة صالحة لكل زمان ومكان، وليس وصفة جاهزة او حلا سحريا وفوريا للخصومات والنزاعات حول الحصص المائية وادارة الموارد المائية المشتركة، بل هو مجموع الاتفاقيات والمعاهدات والاجراءات والآليات والمبادئ المتفق عليها كأساس لتنظيم علاقات الدول المشتركة بالموارد المائية، المصنفة على انها مياه دولية، حول الطرق التي يتم بها استخدام واستغلال تلك المياه لتحقيق اهداف مشتركة، مثل الشراكة في الادارة والاستخدامات المتنوعة للمياه، او منع تلوثها، وضمان توزيعها العادل بين الدول،وحماية التنوع الاحيائي وخصوبة التربة،والتكيّف مع المعطيات المناخية والهيدرولوجية، وتحقيق التنمية والفوائد المشتركة، وما شاكل ذلك مما تفرضه الخصائص الفيزيائية والهيدرولوجية والسياسية لكل حوض او مجرى نهري دولي.
رابعا:
هناك قضيتان مهمتان يفترض ادراكهما بخصوص القانون الدولي للمياه، فضلا عن كونه اطارا عاما ومجموعة مبادئ مقبولة من المجتمع الدولي لحل الخصومات المائية، وهما: عدم الزامية القانون الدولي للمياه، بمعنى انه لا توجد آلية دولية للسهر على تنفيذه وتأمين عدم الاخلال بمبادئه من قبل اي دولة عضوبالامم المتحدة. اما الخاصية الثانية، وهي فائقة الاهمية، فان الاتفاقيات الثنائية بين الدول المتشاطئة تجمّد او تلغي مفعول القانون الدولي، لان الامر بالنهاية يخضع للسيادة الوطنية وحرية البلدان الاعضاء في اختيار آليات حل الخصومات مع دول الجوار التي تشترك معها بالموارد المائية، ولايمكن اجبارها على اتخاذ مواقف مخالفة، كما ان القانون الدولي لا يطبق تلقائيا في حال الاخلال ببعض مبادئه.من جهة اخرى يجب تأكيد ان الاتفاقيات الثنائية هي ليست نصوصا واتفاقيات “مقدسة”، ولايمكن بسببها التهرب من الالتزامات التي يفرضها القانون والاتفاقيات الدولية او الاقليمية حول المياه المشتركة، خاصة اذا تسبب احد الاطراف بأضرار تهدد مجاميع بشرية ومناطق واسعة باخطار كبيرة، وغالبا ما تتضمن الاتفاقيات الثنائية آليات مراجعتها حسب الضرورة.
خامسا:
ما ورد في الفقرة اعلاه بحاجة الى نقاش مستفيض، ولكن سأكتفي باثارة قضيتين مهمّتين تتعلق الاولى بمدى الزامية القانون الدولي، حيث ان الغالبية العظمى من الاتفاقيات الدولية، ومنها الاتفاقيات البيئية، غير ملزمة قانونا حتى للدول التي صادقت عليها، ناهيك عن الدول التي لم تصادق عليها اصلا، وان الاستثناء الوحيد فيما يخص الاتفاقيات البيئية، هي اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة التصحر (
UNCCD) لانها ملزمة قانونا للدول الاعضاء. لذلك فان المصادقة على اتفاقية دولية هي بمثابة اعلان عن الالتزام الطوعي للبلد المعني ببنود تلك الاتفاقية، ومن البديهي ان تترتب على ذلك الاعلان التزامات سياسية ومالية واخلاقية، ولكن الامر يعتمد بالنتيجة على مدى احترام الدولة نفسها لتوقيعها، وبالاخير لا شيء يجبرها ايضا على البقاء عضوا في الاتفاقية ان لم تحترم التزاماتها ضمنها، وبالطبع فان اللوائح الداخلية لتلك الاتفاقيات تتضمن آليات لانسحاب الاعضاء غير الملتزمين بها.اما القضية الثانية فهي ان عدم الزامية القانون الدولي للمياه لا يجيز تفسيره على ان دولة المنبع او اية دولة متشاطئة اخرى هي في مأمن من عواقب خرق مبادئ القانون الدولي، حتى وان لم تصادق على المعاهدات الدولية المعنية. لذلك فان معارضة تركيا – مثلا- لاتفاقية قانون استخدام مجاري الانهار الدولية للاغراض غير الملاحية لعام 1997، لا يعفيها من احترام الالتزامات التي تتضمنها تلك الاتفاقية، كما يمكن لأي مجموعة افراد ان يلاحقوا اي طرف يتسبب بالحاق الاذى بوسائل معيشتهم وبيئتهم اويهدد بقاءهم نتيجة لافعال ومشاريع تؤدي الى تغيير مجاري الانهار او تجفيفها او تلويثها الخ.
سادسا:
يرتكز القانون الدولي للمياه على أداتين،اولاهما القانون العرفي (
Customary Law)اي مجموع المبادئ والقواعد السائدة المستمدة من الخبرة الانسانية المنبثقة عن الاجراءات والممارسات المقبولة، التي استخدمت في حالات سابقة دون ان تكون بالضرورة مكتوبة. اما الاداة الثانية فهي الاتفاقيات الدولية، وهذه تصنف حسب مجالات تطبيقها الى:
1. اتفاقيات عالمية (
Global Treaties or Conventions)ان كانت شاملة لجميع الدول الاعضاء، وافضل مثال عليها هو “اتفاقية قانون استخدام مجاري الانهار الدولية للاغراض غير الملاحية” التي اقرتها الجمعية العمومية للامم المتحدة العام 1997،وهي اتفاقية غاية في الاهمية لكنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ بالرغم من انها حازت على اصوات الاغلبية الساحقة للدول الاعضاء في الجمعية العمومية،ولكن عدد المصادقات على الاتفاقية لم يبلغ بعد الحد المطلوب لادخالها حيز التنفيذ، علما ان تركيا صوتت ضدها في الجمعية العامة للامم المتحدة انذاك الى جانب دولتين اخريين فقط، فيما صوتت غالبية الدول الاعضاء لصالحها. ومع ذلك فان عدم دخول الاتفاقية حيز التنفيذ لم يمنع الاستناد اليها في حالات خصومة حسمت في اروقة المحكمة الدولية.
2. الاتفاقيات ذات الطابع الاقليمي، وافضل مثال عليها هو اتفاقية هيئة الامم المتحدة للتعاون الاقتصادي الاوربي (
UNECE) المعنونة بـ “اتفاقية حماية واستخدام مجاري الانهار والبحيرات الدولية لعام 1992” وقد دخلت حيز التنفيذ منذ العام 1996، وتجري حاليا عملية توسيع نطاقها لتشمل بلدانا اخرى من خارج اوروبا، وقد عبّر العراق رسميا عن رغبته بعضويتها مؤخرا.
3. الاتفاقيات الثنائية لقسمة المياه المشتركة، التي اشرنا الى اسبقيتها على الاتفاقيات الدولية في فقرة سابقة، وهي بالطبع اكثر اهمية من اي اتفاقية دولية اخرى، اذ ان الدول المتعاقدة وفقها تمارس حقوقها السيادية، ومن غير المعقول ان تبتعد الالتزامات الواردة فيها كثيرا عن مبادئ القانون الدولي لان ذلك سيكون سببا في فشلها السريع.
سابعا:
لابد من الاشارة الى مرجعية عالمية اخرى مهمة جدا في ميدان القانون الدولي للمياه وهي اتفاقية هلسنكي لعام 1966. فهذه الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ ايضا ولكنها مثلت خطوة كبيرة للامام في قانون المياه الدولي، وبالاخص ترسيخ المبادئ العامة لقانون المياه التي تمثل اليوم روح القانون الدولي وتنسجم تماما مع مطالب ومواقف العراق (وسوريا) ويمكن ايجازها كالتالي:
الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية المشتركة.
• عدم الحاق اي أذى ذي شأن بالدول المتشاطئة وان حصل ذلك فليجأ الى النظر بالتعويضات.
• واجب التعاون وتبادل المعلومات بين الدول المتشاطئة.
• حماية وصون الانظمة الايكولوجية والادارة المتكاملة للموارد المائية المشتركة.
• تبادل الآراء والاخطار المسبق عن المشاريع المخطط لها.
• تسوية النزاعات حول المياه المشتركة بالطرق السلمية.
من المفيد تأكيده ايضا ان القانون الدولي ابتعد في منحاه عن فكرة السيادة المطلقة على المياه لانها جارية ومتغيرة مع المواسم والطقس وان حدودها الجغرافية، وهي حدود طبيعية تحددها تضاريس الارض، تختلف عن الحدود السياسية التي هي حدود وهمية لاتخضع بالضرورة للتضاريس، وبهذا لايمكن ممارسة السيادة المطلقة على المياه كما هو الوضع على الارض اليابسة.
ثامنا:
لاشك ان نهري دجلة والفرات نهران دوليان، وينطبق الامر كذلك على العديد من الروافد التي تقع منابعها في دول الجوار، وان القانون الدولي يشكل اطارا صالحا لحل الخلافات بشأنها،وهو ينسجم تماما مع مصالح العراق كدولة مصب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي انسجام مطالب العراق مع مبادئ القانون الدولي كضمانة لحماية حقوقه المائية ومنع حدوث خلافات مع دولة (او دول) المنبع؟. الجواب كلا لان القضية شائكة وبحاجة الى عمل مكثف ومتواصل لخلق شروط القسمة المنصفة للمياه المشتركة.
اما السؤال الآخر الذي يحق ان يطرح فهو: هل يتيح عدم وجود اتفاقية ثنائية طويلة الامد بين العراق وتركيا المجال لتركيا لفعل ما تشاء في الموارد المائية المشتركة للرافدين؟ والجواب ايضا كلا، فعلى سبيل المثال كان تاثير المواقف الدبلوماسية العراقية كبيرا على قرار الدول الاوروبية الداعمة لتمويل سد اليسو، وذلك بوضع (153) شرطا كان على الجانب التركي تنفيذها كي يستمر دعمها المالي للمشروع، وعندما عجزت تركيا عن الاستجابة لتلك الشروط سحب الاوربيون دعمهم وكان ذلك نجاحا باهرا يمكن البناء عليه كثيرا لفرض شروط اخرى تحفظ حقوق العراق في دجلة.
تاسعا:
ان ملف المياه مع الجارة الشمالية تركيا ملف شائك ولكنه قابل للحل في مصلحة البلدين الجارين، وان ما نشرتُه عن الموضوع في جريدة الصباح لايعدو كونه اضاءات بحاجة الى تفصيل اكثر لاتتسع لها الصحافة اليومية، بل مراكز البحث والجامعات هي المكان الافضل للتوسع بدراسة هذا الملف الحيوي.

* سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: