حكومة حيدر العبادي هي الحكومة الخامسة بعد حكومتي علاوي والجعفري الانتقاليتين وحكومتي المالكي الدستوريتين، وهي الحكومة الثالثة الدستورية، كل هذه الحكومات الاربعة الماضية كانت تعي اهمية وضرورة اجراء التعديلات التشريعية لسببين:
الاول سبب دستوري والثاني بسبب العصرنة، فالسبب الدستوري كان يحتم على السلطتين التنفيذية والتشريعية استحداث والغاء وتعديل التشريعات لكي تتلاءم مع الواقع الجديد الذي حصل بعد عملية تغيير النظام السياسي السابق وتبعاته، هذا الواقع الجديد الذي تأطر بالدستور العراقي الدائم لعام 2005 والذي قلب نظام الحكم من نظام شمولي محكوم من قبل حزب قومي واحد الى نظام ديمقراطي تعددي محكوم بالنتائج التي تفرزها الانتخابات الدورية المتعاقبة، وايضاً قلب هذا الواقع الجديد من دولة مركزية واحدة محكومة بحكومة مركزية صارمة الى دولة فدرالية محكومة بحكومات اقليمية ومحلية متعددة الى جانب الحكومة المركزية المحددة الصلاحيات، وافرز الواقع الجديد كذلك تحول الاقتصاد العراقي من اقتصاد اشتراكي مسيطر عليه مركزياً الى اقتصاد السوق الحر المدعوم من الحكومة المركزية. بمعنى اخر تحول الدولة من دولة حاكمة الى دولة راعية.
والسبب الثاني لاهمية الأصلاح التشريعي هو العصرنة والتحديث الطبيعي للتشريعات، فالدول التي تنمو وتستقر بشكل طبيعي وتطور مخرجاتها باستمرار هي الدول التي تقوم بتحديث تشريعاتها لكي تواكب التطور العالمي في تلبية متطلبات الحياة الانسانية المتعاظمة فتقوم بمراجعة تشريعاتها في كل فترة زمنية تتحدد مدتها حسب سرعة التطور العالمي في اساليب الادارة والانتاج فقد تحتاج للمراجعة التشريعية كل ثلاث سنوات لمواكبة التطورات والاختراعات الألكترونية المتزايدة او قد تحتاج لمراجعة التشريعات الاقتصادية كل عشر سنوات او تحتاج لمراجعة التشريعات الاجتماعية كل عشرين سنة وهكذا…
ان التغيير الذي حصل في الدولة العراقية في 2003 هو ولادة دولة جديدة على انقاض دولة ذات تشريعات قديمة وبالية وغير محدّثة منذ عقود طويلة بسبب طبيعة الحكم الشمولي اولاً وبسب المشاكل والازمات التي رافقت هذا الحكم من حروب وحصار وغيرها لم يكن يسمح باجراء عملية تحديث تشريعي حقيقي، ولكن للأسف ظلّت الدولة العراقية الجديدة طيلة العشر سنوات الماضية تخوض في نفس انقاض الحكم السابق ولم تشهد تغييراً واصلاحاً حقيقياً للمنظومة التشريعية لمواكبة عملية التغيير الدستوري الشاملة التي حصلت إلا بشكل خجول وضعيف وغير مدروس بعناية، لا بل كانت معظم التشريعات الصادرة تتناقض مع بعضها وايضاً كان معضمها تُشَرّع وتولد وتولد معها متطلبات ومبررات وضرورات تعديلها.
هذا الوعي والادراك باهمية الاصلاحات التشريعية لم يتصل بارادة قوية لاحداثه بالسرعة المطلوبة لمنع انتشار الامراض الاجتماعية والادارية والمالية والانهيارات الأمنية والصراعات الطائفية والأثنية والحزبية التي حصلت طيلة السنوات العشر الماضية، ويتجلى ضعف الارادة هذا في صور استمرار بعض العقليات القانونية والادارية التقليدية. بالاضافة الى اشغال المواقع والمناصب الوسطية في الوزارات من وكلاء وزارات ومدراء عامين ومدراء فما دون من قبل شخصيات لا تمتلك الحد الآدنى من الكفاءة والاختصاص في الغالب بعد شغرت كثير من هذه المناصب لاسباب عديدة ، منها السياسية ومنها اجتثاث البعث او في كثير من الاحيان توسع الملاك الوظيفي واستحداث وظائف للترضيات السياسية والمحاصصاتية . ان اهم ما تتصف به هذه الشريحة المهمة لاحداث التغيير السريع هو ان معظم هؤلاء الذين يتبوؤون هذه المناصب القيادية الوسطية يريدون ان يحافظوا على مواقعهم التي اتت عليهم بالرواتب والامتيازات والأُبـَّـهة والبهرجة ولا نقول اكثر من ذلك فأنهم يمسكون العصا من الوسط دائماً ويفتقدون الى الجرأة في اتخاذ القرار الوظيفي والاداري السليم والشجاع او تقديم المشورة القانونية او التشريعية السليمة للقيادات العليا التي هي ليست بالضرورة صاحبة اختصاص او انها ايضاً بالضرورة على قدر عالي من الكفاءة والخبرة بسبب الطبيعة السياسية للمنصب الوزاري او الاعلى منه، هذه البدعة التي افرزتها حكومات المحاصصة.
لقد عملت كمستشار قانوني اقدم في شركة انظمة الادارة الدولية Management Systems International (MSI) مع اكثر من 23 وزارة قطاعية عراقية خلال السنتين الماضيتين ولحد الآن، ومن خلال مشروع اصلاح التشريعات الاقتصادية العراقية (إصرار) على طريقة المقصلة التشريعية لـ(سكوت جيكوبس) Regulatory Guillotine (Scott Jacobs) الذي تمً تبنّيه من قبل مكتب رئيس مجلس الوزراء وبالشراكة والتعاون مع الوكالة الامريكية للتنمية، حيث كان اساس عملنا ينصب على تقديم التوصيات والمقترحات والمسودات التشريعية لتحديث التشريعات الاقتصادية بما يتلاءم مع الدستور العراقي الجديد وبما يلبي احتياجات اقتصاد السوق والتنمية والاستثمار فقمنا بتشكيل 25 فرق عمل يعمل بالتوازي مع الدوائر القانونية لخمسة وعشرين وزارة قطّاعية وجهة غير مرتبطة بوزارة وطيلة السنتين الماضيتين من العمل ومع بعض الاستثناءات، لم اجد الجدّية والحماسة المطلوبة لاحداث التغيير وتقديم التوصيات لصانعي القرار ضمن إطار الجدول الزمني المحدد لتنفيذ هذا المشروع ولدي امثلة موثقة على ذلك. فعلى سبيل المثال قمنا بعشرات اللقاءات والورش مع الوزارات المعنية من جانب ومع كبار المختصين من القطاع الخاص من جانب آخر لمعالجة وتحديث تشريع يعنى بادارة احد القطاعات الاقتصادية، وبعد مناقشات وتبادل آراء طويل وبعد معالجة واستنفاذ كل الملاحظات والاراء توصلنا الى مسودة تشريع نهائية بهذا الخصوص وتم رفعها الى الجهة العليا المختصة لغرض اصدار هذا التشريع ، تفاجئنا بوجود ملاحظات اضافية اخرى من قبل جهات حكومية مختلفة حول هذا التشريع ومعظم هذه الملاحظات من نوع ” وفسّرَ الماءْ بعد الجهدِ بالماءِ” وهكذا اصبحنا ندور في حلقة مفرغة وهذه قصة احد اهم الأسباب التي ادت الى بطئ عملية الاصلاح التشريعي وهي انعكاس لصورة “راوح مكانك”
من هنا تبرز اهمية احداث انقلاب تشريعي جدي سريع وغير متسرّع وحسب طرقة المقصلة التشريعية التي جربت واستخدمت في حوالي 40 دولة حول العالم ولتلافي التأخير في عملية التشريع فان هذه الطريقة تعتمد على اصدار التشريعات الشاملة Omnibus Bill وبطريقة الحزمة التشريعية الواحدة One Legislative Package.
باعتقادي ان هذا الموضوع يجب ان يكون من اول أولويات الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء في بداية مهمته الشاقة والتى نتمنى ان ينجح بها خلال الاربعة سنوات القادمة وان يتلمس الشعب العراقي أول نتائجها خلال السنتين القادمتين باذن شاء الله.
” وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ” صدق الله العلي العظيم.
* مستشار قانوني وأول رئيس لمفوضية الانتخابات
الأستاذ عادل اللامي المحترم
تحية طيبة
أتفق مع كل ما وردَ في مقالتك (الاصلاح التشريعي… التحدي الأكبر لحكومة العبادي)، سوى جزئية واحدة غير صحيحة تضمنتها المقالة في العبارة: وافرز الواقع الجديد كذلك تحول الاقتصاد العراقي من اقتصاد اشتراكي مسيطر عليه مركزياً الى اقتصاد السوق الحر المدعوم من الحكومة المركزية. بمعنى اخر تحول الدولة من دولة حاكمة الى دولة راعية. للأسف الكثير من السياسيين والقانونيين وحتى بعض الاقتصاديين يتصوّرون إنّ النظام الاقتصادي الذي كان سائداً في الاتحاد السوفيتي السابق وبقية الدول الاشتراكية هو إقتصاد إشتراكي، وهذا غير صحيح، لأنّ النظام الاقتصادي في تلك البلدان آنذاك كان يمثل رأسمالية الدولة الاحتكارية. لذا، فانّ الاقتصاد الاشراكي بقيَ كنظرية في الكتب فقط، ولم يجرِ تطبيقه على أرض الواقع كما تنص علية نظرية الاقتصاد الاشتراكي. وعندما نورد مفهوم الاقتصاد الاشتراكي، فانّ الموضوع يتمحور حول علاقات الانتاج (القوة العاملة وملكية وسائل الانتاج)، ولا أريد أن أخوض في هذا المجال تفصيلياً، لكونه يتطلب التفصيل الدقيق والاطالة، والملاحظة لاتتسع لذلك.
مع التقدير
د . عبد علي عوض – باحث إقتصادي وكاتب