وضع الكاتب والصحفى العراقى مشكور الأسدى، ( المتوفى 1991 )، إسم قاسم الرجب فى طليعة الأسماء الرائدة لليقظة الفكرية فى العراق الحديث؛ كان مشكور الأسدى الاديب العراقى صحفيا ومراسلا ادبيا للعديد من الصحف والمجلات العربية وقد أثنى الدكتور طه حسين على جهوده فى أحاديثه التى ذكرها صهره الدكتور الزيات فى كتابه، ( ما بعد الايام).
كتب مشكور الأسدى : لو أنصف العراقيون تاريخهم الفكرى لأقاموا تماثيل ثلاثة رواد عراقيين وهم؛ الزهاوى الشاعر الفيلسوف، لإدخاله الأفكار الحديثة الى العقل العراقى، ورفائيل بطى رائد الصحافة الحديثة، وقاسم محمد الرجب الذى جعل مطبوعات الخافقين فى متناول العراقيين، ( رفعة عبد الرزاق محمد).
من الأسماء الاولى التى عملت فى تجارة الكتب قبل ظهور المكتبات الشهيرة ببغداد؛ عبد اللطيف ثنيان، ومحمد رشيد السعدى، وداود صليوا، وعبد الامير الحيدرى والملا خضر، ثم تأسست المكتبة العربية لصاحبها نعمان الأعظمى سنة ،1908 وتلى ذلك مكتبات أخرى قبل الحرب العالمية الاولى.
ما قصة قاسم الرجب ؟
يقول الدكتور جليل العطية، ( لو شئنا أن نقرن أسم الرجب باحد، لذكرناه الى جانب محمد بن إسحاق النديم صاحب كتاب الفهرست، و حاجى خليفة، صاحب كتاب كشف الظنون عن أماسى الكتب والفنون وسواهما من اساطين الوراقيين القدامى).
قاسم محمد الرجب ولد فى الاعظمية، ( 1917- 1974)، مكتبى عراقى بل هو من أبرز المكتبيين العراقيين الرواد، إذ كانت مكتبته، ( المثنى )، بمثابة منتدى ثقافى ودار للنشر ومطبعة وأداة لتسهيل وصول الكتاب الى أيدى محبيه، رغم الكثير من العوائق، فهو من الأوائل الذين أسهوا باستنساخ أمهات الكتب العربية عبر ما يسمى انذاك ب ( الاوفست )، وفضلا عن ذلك فقد أصدر مجلة تعنى بالكتاب علما وفنا وتجارة تلك هى مجلة المكتبة، ( الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف).
ولد قاسم محمد الرجب فى حى الأعظمية ببغداد سنة 1917، أى مع موعد إحتلال بغداد من قبل الانكليز، ابان الحرب العالمية الاولى، لذلك لم تتيسر له فرصة إكمال دراسته، فتوقف عن الدراسة الى الصف السادس الابتدائى.
كتب عنه حميد المطبعى فى موسوعة أعلام العراق فى القرن العشرين، وقال بأنه إشتغل فى بداية حياته العملية فى المكتبة العربية فى سوق السراى ببغداد سنة 1937.
كان قاسم فى نحو الثانية عشر من عمره عندما باشر العمل الشاق وعلى الرغم من جهوده وإستقامته وإطاعته الا أن صاحب المكتبة كان يسومه العذاب، حيث يروى لنا فى مذكراته، كنت إذا احتجت الى عشرة فلوس اجرة عودتى بالسيارة من بغداد الى الأعظمية، محل سكناى، وطلبت منه أى من صاحب المكتبة – الاعظمى هذا المبلغ فإنه يتلكاْ ويرفع اصبعه الى ( الروزنامة )، مشيرا أن الشهر لم ينته بعد فأضطر أن اذهب ماشيا على الأقدام حتى لو كان الجو باردا، قارس البرودة.
كانت المكتبة العربية تقع فى سوق السراى الذى كان يضم المكتبات وباعة القرطاسية وصاغة الذهب وغير ذلك وكانت تعد من خيرة المكتبات ودور النشر ولقد نشر صاحبها العديد من الكتب التراثية طبع طائفة منها فى بغداد والاخرى فى القاهرة.
لم تكن تجارة الكتب فى العراق قبل ان يقبل قاسم محمد الرجب على تنظيمها الإ عملية تجارية صرفة، تخضع لمتطلبات السوق، وقد ذكر الرجب فى مذكراته نماذجا عديدةً على ذلك، فضلا عن كونها تجارة غير رابحة لضعف المستوى الثقافى ولتفشى الامية، وقد كان بيع الكتب يجرى داخل المساجد ومدارس العلم ولا نعلم عن باعة الكتب ;فى القرن التاسع عشر، الإ النزر اليسير حتى إذا أقبل القرن العشرين وبداْت الأفكار الحديثة تدخل العراق بعد إنبثاق الحركة الدستورية وبعض مظاهر الحريات العامة بداْت عملية تجارة المطبوعات تاخذ مسارا متقدما، ( رفعة عبد الرزاق محمد).
كانت المكتبة العربية لصاحبها الكتبى العراقى الرائد نعمان الاعظمى، ( 1888 – 1953 )، من أشهر دور الكتب ومنتدى لرجال الفكر والعلم والادب، كما يعد نعمان الاعظمى من أوائل الناشرين العراقيين ومن اشهر مطبوعاته، ( تاريخ بغداد )، للخطيب البغدادى و ( الحوادث الجامعة )، الذى نسبه محققه مصطفى جواد الى إبن الفوطى، ثم تراجع عنه فيما بعد. وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التى جناها الرجب من عمله فى هذه المكتبة اذ تعلم اسرار الكتبيين والناشرين، فقد عانى الرجب شظف العيش ومشاق الحياة وقد قدم فى مذكراته صورة طريفة لإستاذه نعمان الاعظمى ووسائله الطريفة فى العمل المكتبى، غير أن ألمعية الرجب وعصاميته وضُحَت منذ البداية، فقد برع فى عمله وكسب خبرة واسعة فى تجارة الكتب وأحوالها، فقام بإفتتاح مكتبة صغيرة فى وسط سوق السراى، سوق الكتبين، قبل انتقاله الى شارع المتنبى فى منتصف الاربعينيات من القرن المنصرم، سمّاها مكتبة المعرى سنة 1935، ثم غير اسمها الى مكتبة المثنى، طبقا لنصيحة صديقه عبد الستار القره غولى، ليحصل على تخويل توزيع مطبوعات نادى المثنى بن حارثة. وفى غضون سنوات قليلة نمت مكتبة المثنى وإتصل صاحبها بدور النشر العربية الكبيرة وتوسعت خبرته وذاع امره بين كبار الكتبيين العرب بعد ان بزّ العراقيين منهم، فتراجعت المكتبات الكبيرة الأخرى أمام نشاطه، واخذت منشورات مكتبة المثنى، وقسم كبير منها يُطبع فى القاهرة وبيروت، تنتشر يصورة مدهشة، ولسعة نشاطها إنتقلت الى بناية كبيرة فى وسط شارع المتنبى فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى، كما حصلت على حق توزيع معظم الصحف والمجلات العربية، حيث كانت كل المجلات العربية مختوم عليها بختم بيضوى وصلت بالطائرة، سعر المجلة، و توزيع مكتبة المثنى – بغداد، ( الدكتور اكرم عبد الرزاق المشهدانى).
قاسم الرجب الذى نشاْ فى الاعظمية وإشتغل عاملا فى المكتبة العربية وهو فى سن الثانية عشر من عمره كان ذكيٌ، يحب مطالعة الكتب ويستمع الى زوار المكتبة العربية وجلاّسها حين يبدون آرائهم فى الكتب ودرجاتها واهميتها.
ويذكر حميد المطبعى فى موسوعته، أنه فى سنة 1937، إختمرت فى ذهن قاسم الرجب فكرة فتح مكتبة فأسس مكتبة المثنى اول الامر فى دكان صغير مقابل سوق الذهب ثم إنخرط فى سلك الجندية واسهم فى ثورة رشيد عالى الكيلانى ضد الإنكليز ورجاله فى العراق سنة،1941، ثم واصل بعدها العمل فى المكتبة متنقلا من دكان الى اخر، وأخيرا أشترى بيت الدكتور صائب شوكت وهو طبيب معروف آنذاك وحوله الى مكتبة المثنى ببغداد فى شارع المتنبى.
يذكر قاسم الرجب فى مذكراته : صلتى بسوق السراى تعود الى سنة 1930- 1931، يوم تركت الدراسة واتصلت به وكان عمرى اثنتى عشرة سنة عندما إشتغلت عاملا صغيرا بالمكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمى، وكنت يومذاك فى الصف السادس من المدرسة الابتدائية، وكان مرتبى الشهرى 600 فلس، ولم اكن قد راْيت بغداد كثيرا لأننى كنت من سكنة الاعظمية، فكنت اراها بالسنة مرة او مرتين وفى أيام الاعياد فقط، فلما إتصلت بالمكتبة وبالسوق كنت أعجب لما تحتويه من كتب، اذ لم اكن قد رأيت مكتبة من قبل بحجمها، حيث كان سوق السراى آنذاك زاخرا بالمكتبات الصغيرة منها والكبيرة، امثال المكتبة الوطنية لعبد الحميد زاهد والمكتبة الأهلية لعبد الامير الحيدرى، والمكتبة العصرية لمحمود حلمى، ومكتبة الشرق لعبد الكريم خضر، وهناك مكتبات صغيرة منتشرة من اول السوق الى آخره، ومنهم من يعرض بضاعته على الرصيف امثال حسين الفلفلى وأحمد كاظمية وغيرهم.
وكان يتردد على السوق الكثير من العلماء والأدباء والشعراء، أمثال جميل صدقى الزهاوى، وطه الراوى الذى كان مشجعٌ ومرغّب للكتاب فى جميع مجالسه الرسمية والبيتية، ومصطفى على، وغيرهم. وكان أكبر زبون للسوق وللكتاب هو عباس العزاوى، فكان يتردد الى السوق اربع مرات او اكثر فى كل يوم فلا يفوته كتاب مطبوع او مخطوط، وكان روفائيل بطى من محبى مكتبة المثنى الناشئة ومشجعيها، وكان لا يمر يوم الا وزارها. واقترح على يوما، على الرجب، أن يحجز لى حقلا صغيرا فى جريدته، ( البلاد )، ليقرض بعض الكتب التى تصل لى، ولم اكن يومئذ أهتم بمثل هذا، ولكن ترغيبه والحاحه على بإستمرار حملنى على قبول الاقتراح، فهياْت بعض الكتب وأعددتها للتقريض بناءا على رغبته، وكان اول اعلان كتبه لى ونشره فى جريدته اعلان عن كتاب صغير هو؛ ( النزاع والتخاصم فيما بين بنى امية وبنى هاشم )، لتقى الدين المقريزى … ولم أكن اتصور ان يكون لمثل هذا الاعلان البسيط كل هذه الأهمية وهذا الاثر، فقد جئت كعادتى صباح يوم الى المكتبة واذا بى أرى جمعا من الناس ينتظروننى لأفتح المكتبة وكلهم يبتغون شراء هذا الكتاب، فبعت لهم وبقيت أبيع منه طول النهار حتى نفذت نسخه.
فى سنة 1935 تعرّف قاسم الرجب الى كوركيس عواد، ( 1908-1992 )، وكان عواد معلما فى إحدى مدارس الموصل، وكان قد درس فى دار المعلمين فى بغداد وتخرج سنة 1927، غير أنه بقى يتردد على العاصمة ويمضى الكثير من أوقاته فى دير الكرمليين، حيث ملتقى الأب انستاس مارى الكرملى، (1866- 1947)، ويعرج الى سوق السراى… تم التعارف بين الرجب وعواد وكانت تلك الفرصة بداية لصداقة حميمة امتدت طيلة عمر الرجلين وكان لذلك التعارف اثره فى تنمية الثقافة فى العراق والوطن العربى وتشجيع ودعم الكتاب العربى وحفظ ورصد المخطوطات.
كانت تلك الملاقات فى مكتبته الاولى فى سوق السراى ولم تكن تلك المكتبة يوم ذاك الا دكانا صغيرا لا يتجاوز بضعة أشبار مربعة، وكانت الكتب فيه قليلة ولكنها تتسم بميسم الطرافة والنفاسة.
كان كوركيس عواد منذ يفاعته مهتما بملاحقة الكتاب مطبوعا ومخطوطا، وبتوجبه من ( الكرملى ) راسل مجموعة من المستشرقين ودور النشر الإستشراقية والمكتبات المعنية ببيع نوادر المطبوعات وكانت إجادته الانكليزية تيح له مثل هذا التحرك.
لقد وضع كوركيس عواد كل معلوماته وخبرته بين يدى الرجب وبإختصار كان خبيرٌ ومستشارٌ ومكتب سكرتارية لمكتبة المثنى، فكان يتولى مراسلاتها باللغة الإنكليزية، ولهذا فإن المكتبة على صغر حجمها اكتسبت خلال فترة وجيزة سمعة عالية بل عالمية، ( د. جليل العطية).
يذكر الدكتور جليل العطية فى مقاله بتاريخ 12-10-2011 – قاسم الرجب وتجربته الرائدة فى النشر؛ كانت لقاسم الرجب ذاكرة عجيبة تسعفه فى معرفة ما إستورده من مطبوعات عربية على مدى تلك السنين بل هو يعرف اين إستقرت، فهو يقول لك مثلا ان النسخة الوحيدة فى العراق من ( فهارس المكتبة الجغرافية ) تجدها فى مكتبة المتحف العراقى، وأن نسخة كتاب، ( الفلاحة الاندلسية )، لإبن العوام تجدها فى المكتبة العامة ببغداد، وأن نسخة الف ليلة وليلة المطبوعة فى بولاق هى اليوم فى المكتبة الفلانية. كان قاسم الرجب عصاميا ثقف نفسه بنفسه، ويمكن القول أنه يمتلك ثقافة مكتبية مخيفة فهو يعرف كل شيء عن الكتاب والموْلفين والمحققين والمترجمين، وكذلك اشياء كثيرة عن صناعة الكتاب والتجليد والورق وأنواعه وأسعاره والاحبار والغراء … الخ. وعندما كان عاملٌ فى ( المكتبة العربية ) كان يختلس الفرص لمطالعة الكتب الأدبية والتأريخية، وكان صاحب المكتبة يضطهده بشكل لا يصدق، فهو يمتنع عن إعارته الكتب ويمتنع حتى عن بيعها له، اذ كان نعمان الأعظمى يرى أن مطالعة الكتب تصرف مستخدمه الرجب عن العمل، ولهذا كان يحرص على إبعاده عن هذا الدرب، درب الثقافة والعلم.
مجلة المكتبة
لعل أهم ما انجزه قاسم الرجب هو إصداره أول مجلة عراقية تعنى بالكتاب، وهى مجلة المكتبة، وقد صدر عددها الاول فى ايار 1960، وجاء فى ترويستها، أنها قائمة شهرية تصدرها مكتبة المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب – بغداد شارع المتنبى – تلفون 63588، وهى بحجم صغير، قياس؛ 14×20سم، وتباع النسخة الواحدة ب 50 فلسا. وفيما بعد تغيرت الترويسة لتصبح – مجلة شهرية للكتب والكتاب، وقد عبر صفوة المفكرين وعلماء المشرقيات عن فرحتهم بصدور المجلة وابدوا إعجابهم بها وأثنوا على خططها الثقافية، كما حظيت بتقدير أعلام الباحثين والمثقفين فى البلاد العربية، وممن أسهم فى تحريرها الدكتور صالح احمد العلى والدكتور يوسف عزالدين وعبد الرزاق الهلالى والدكتور مصطفى جواد وكوركيس عواد وفوْاد جميل والدكتور عماد عبد السلام روْوف وجليل العطية وعلاء الدين خروفه والدكتور على جواد الطاهر وغيرهم كثيرون … ( انظر الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف؛ قاسم الرجب، 1917-1974، ومكتبة المثنى ومجلة المكتبة).
تضمنت أبواب المجلة المختلفة الكثير من الفوائد التاريخية، منها؛ حركة الكتاب العربى فى كل مكان وأخبار المخطوطات وخزائنها وفهارسها، ومن الأبواب مطالعات فى الكتب، – اخبار الأدب والدباء – معرض الكتاب – رسائل القراء – أخبار ثقافية – صدر حديثا كتب جديدة، غير ان أطرف ما نشرته هذه المجلة واهمها حلقات كتبها قاسم الرجب باسم مذكراتى فى سوق السراى، ضمنها ذكرياته عن تجارة الكتب وأحوال الكتاب والموْلفين منذ أن كان عاملٌ فى المكتبة العربية.
(*) باحث وكاتب اقتصادي
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية