بتاريخ 10 تشرين الأول قرأت على صفحة الفيسبوك للدكتور حسن الجنابي تعليقه على مقال السيد Mustafa Akyol المنشور في صحيفة نيويورك تايمس حول مقتل الحجاج هذا العام وقول السيد
Akyol:
“Throughout the Muslim world the notion of divine will is often used as an excuse for human error and neglect.”
“في جميع أنحاء العالم الإسلامي كثيراً ما يستخدم مفهوم الإرادة الإلهية كمبرر للخطأ البشري والإهمال.”
وقد آثرت إشراك خبير التأمين الأستاذ مصباح كمال بهذا القول، وذكرتُ إن ما يقوله الكاتب صحيح ولكنه فهم خاطئ لمعنى القضاء والقدر، ومن المناسب، لذلك، توضيح معنى القضاء والقدر من الناحية الاقتصادية والقانونية، وعلاقة ذلك بموضوع التأمين على العواصف والزلازل والفيضانات والمحاصيل الزراعية مع التعليق على المقال المشار إليه وربما التطرق لما يسمى بالتأمين التكافلي والتأمين التعاوني على الحياة.
جاء في تعليق زميلنا أن الموضوع يرتبط بالصدفة والحادثة العرضية أو الفجائية أو غير المتوقعة وما له علاقة بكوارث الطبيعة التي كنا نسميها بأعمال القوة القاهرة (ترجمة لتعبير Acts of God الذي لم يعد يستعمل الآن إذ استعيض عنه بتعبير major perils) في وثائق التأمين الهندسي.
وبالنسبة لسقوط الرافعة التي أودت بحياة العديد من الحجاج فإن الشركة المنفذة لمشروع توسيع الكعبة، مجموعة بن لادن، حسب ما ينقل من أخبار، مؤمنة لدى شركة تأمين سعودية (تأمين أعمال الإنشاء والمسؤولية المدنية الناشئة عنها).
كما تعرف، لم تتخبى السلطات السعودية وراء القضاء والقدر في تفسير هذا الحادث بل لجأت إلى تشكيل لجنة للبحث عن أسبابه. هذا موقف علماني. ولي مقالة ستنشر في الثقافة الجديدة حول علمانية مؤسسة التأمين.
أقترح زميلنا بأن أدلو بدلوي في الكتابة عن الموضوع، فكان هذا التعليق أولاً ومن ثم حكاية وخاطرة حول التأمين.
أولا – نعم، كما تفضلتم لجأت السلطات السعودية إلى تشكيل لجنة للبحث عن أسباب الحادث، وهذا موقف علماني ولم تتخبىْ وراء القضاء والقدر. معنى ذلك – حسب رأي – أن السلطات السعودية تفهم معنى القضاء والقدر حسب ما ورد في القران (سورة الحديد، الآية 22 و23 التي تنص: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير).
هذه الآية تقرر أن نظام الحياة وأحداثها وأفعال العباد وأرزاقهم وآجالهم تقع بعلم الله وتقديره لها قبل خلقها، وعلى المسلم ان يؤمن بذلك كشرط من شروط الايمان.
ثانيا – من شروط الايمان في اليهودية والمسيحية والاسلام أن يؤمن الانسان بقضاء الله وقدره.
أين يكمن الإشكال؟
ثالثا- يكمن الإشكال في هل أن الإنسان مُخيّر أم مُسيّر؟
الجواب إن الأقوال والأعمال التي تصدر عن الانسان هي باختياره وإرادته، وهو الأرجح عند أهل العلم. وفى الحديث أن النبي قال للأعرابي الذي ترك الناقة سائبةً متوكلاً على الله: (أعقلها وتوكّل). وهذا تعليم للأعرابي بأن يأخذ بالأسباب والمسببات مع التوكل.[1]
والآن إلى الحكاية.
في عام 1955-1956 كنت موظفاً صغيراً في كلية الهندسة ببغداد وكان العميد مستر رجى Mr Reggie الإنكليزي الجنسية،[2] (خلفه في العمادة الدكتور مهدى حنتوش) والفرّاش الذي أحببته (سيد رحمة)
أصدر مستر رجى أمراً بأن يرتدى الفراش (الكسوة) التي قررتها العمادة. وكانت توزع على الفرّاشين مجاناً، وكان من بينها غطاء الرأس (الكاسكيت). رفض سيد رحمة التخلي عن غطاء رأسه التقليدي (اليشماغ) وكاد أن يستغنى عن خدماته لولا تدخل العميد والسماح له استثناءً بلبس اليشماغ.
ليس هذا هو الموضوع.
الموضوع هو إنني كُلفت من قبل سيد رحمة بأن أمسك (صندوق الحسين). في بداية كل شهر، يدفع كل فراش إلى الصندوق من راتبه المبلغ الذي يتناسب مع مقدرته المالية ويتراوح بين (100 فلس إلى 250 فلس أو أكثر). تَجمّعَ في الصندوق مبلغ محترم بعد عدة شهور. كانت الفكرة من إنشاء الصندوق هي مساعدة أي فراش يمرُّ بمشكلة مالية، وهي على الأغلب نقل موتاه إلى النجف.
أليس هذا الصندوق هو جوهر (التأمين)؟
رجال الدين يحللون (بيت مال المسلمين) أو صندوق الحسين الذي كان بعهدتي ويحرّمون – لجهلهم – التأمين.
رحم الله “رجل التأمين” سيد رحمة. ورحم الله مستر رجى الذي عاد بعد ثورة 1958 إلى وطنه بعد أن أمضى عدة سنوات في خدمة العراق وقيل عنه بأنه لم يكن مهندساً بل كان حسب زعمهم (تنكجى).[3] لقد كانت كلية الهندسة قبل ثورة 1958 تضم نخبة من خيرة الأساتذة المهندسين في العراق بل في منطقة الشرق الأوسط وتحت إدارة مستر رجى الحائز على لقب الفارس من الملكة البريطانية.
(*) باحث اقتصادي وخبير تجاري
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 17 تشرين الأول 2015
[1] كتب الزميل مصباح كمال في تعليقه ما يلي: أشكرك على قراءتك للنص الديني وتأكيدك على أن القضاء والقدر predestination هي من شروط الإيمان في الأديان التوحيدية الثلاثة، وأن هذا الإيمان لا يلغي دور الأخذ بالأسباب (حديث الرسول مع الأعرابي) والعمل على إدارة الأخطار التي تحيط بنا: إما من طريق منع حدوثها أو السيطرة عليها والتخفيف من آثارها أو نقل أعبائها المالية إلى طرف آخر (شركة تأمين، على سبيل المثل). وأرى أنك ربما تقول بالتلاقي بين العلم والإيمان الديني، على الأقل في مجال التعامل مع أخطار الطبيعة وتلك التي يتسبب بها الإنسان من خلال العمل. وهو ربما يفسر اهتمامك بالتكافل كآلية تأمينية تستوحي بعض معطيات الدين للاستجابة للأخطار.
[2] منذ عام 1946 كان Mr Reggie عميداً لكلية الهندسة – بغداد. ربما كان قد حصل على ميدالية الفارس Knight Medal لقاء خدماته الجليلة في أربعينيات القرن الماضي. وقد ورد ذكر حصوله على ميدالية الفارس في مقال لطالب في كلية الهندسة في خمسينيات القرن الماضي، ولم اتمكن من اصطياد ذلك المقال. ربما نجد اسمه او سيرته بين اسماء من حصلوا على ذلك التكريم في الاربعينيات.
[3] وصف المهندسين بالتكنجية قديمة، يعكس موقف أفراد الارستقراطية المرتبطة بالأراضي والريف، مثلما يشهد عليه التاريخ الاقتصادي لدولة كبريطانيا. فهناك فكرة خاطئة أن رواد الثورة الصناعية في بريطانيا ” لم يكونوا غير سمكريين غير بارعين tinkerers جاهلين وأصبحوا ناجحين بالصدفة.” أنظر: عرض كتاب مارغريت سي جاكوب، اقتصاد المعرفة الأول: رأس المال البشري والاقتصاد الأوروبي، 1750-1850، شبكة الاقتصاديين العراقيين:
http://iraqieconomists.net/ar/2015/09/22/%d8%b9%d8%b1%d8%b6-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%85%d8%a7%d8%b1%d8%ba%d8%b1%d9%8a%d8%aa-%d8%b3%d9%8a-%d8%ac%d8%a7%d9%83%d9%88%d8%a8%d8%8c-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85/
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية