نشر الزميل الدكتور بارق شبر في هذه الصفحة بتأريخ 26/6/2010 مقالاً بعنوان “الصراع على الموارد في العراق ونقد المعادلة الصفرية”. وقد وردت في ذلك المقال أفكار للكاتب لا أتفق معه عليها وهي كما يلي:
أولاً: المحاور الثلاثة التي وردت في المقال لا تقع جميعها في دائرة لعبة المعادلة الصفرية، وانما المحور الثاني وحالة معينة من المحور الثالث فقط. المحور الثاني يتكلم عن الحدود والموارد المائية… الخ. ففي حالة تعديل الحدود العراقية مع احدى الجارات مثلاً نجد أن الكيلو متر المربع الواحد الذي يعطى للجارة سيكون خسارة مماثلة للعراق (والعكس صحيح). كذلك الأمر في حالة تقاسم مياه دجلة بين تركيا والعراق نجد أن كل مليون متر مكعب أضافي من المياه تحتجزه تركيا سيكون خسارة مماثلة للعراق. وينطبق الأمر كذلك على الحقول النفطية المشتركة، وهكذ نجد أن تقاسم الموارد الطبيعية بين العراق وجيرانه يخضع لمنطق المعادلة الصفرية بامتياز.
ثانياً: بخصوص المحور الأول كما ورد في المقال، نرى أنه “ذو بعد دولي ويدور بين الشركات النفطية الدولية ومن خلفها الدول المالكة لهذه الشركات والمستهلكة للنفط….. وبين العراق”. ان هذه عقود اقتصادية أطرافها العراق من جهة والشركات العالمية من جهة أخرى والمفروض بمثل هذه العقود أنها تُبرم برضا الطرفين المتعاقدين – نحن هنا لا نتكلم عن عقود الامتياز المجحفة في ظل استعمار بريطانيا للعراق، وهي لم تبرم برضا الطرفين – وكل طرف يعتقد بأنه سيخرج رابحاً من هذه العلاقة وإلا لامتنع عن التوقيع أو المصادقة على العقد، وهذا ما بدأ يفعله العراق منذ سبعينيات القرن الماضي. وبهذه الحالة، وبخروج الطرفين رابحين، ستنتفي الخسارة وسيكون المجموع أكثر من صفر، فأين هي المعادلة الصفرية إذن؟
السياسة النفطية
أما بخصوص موضوع هذا المحور (الأول) والمقارنة مع السياسات النفطية التي اتبعتها دول الخليج، كالامارات والسعودية، فأنا أوافق الكاتب بأن سياسة العراق النفطية كانت متشددة قياساً بسياسات دول الخليج. على أن الذي حدث ينبغي أن لا يُنظر له بمعزل عن الأسباب التأريخية والسياسية والاجتماعية لهذه البلدان، وهي أمور لا مجال للخوض بها في هذا المكان. وحتى وإن افترضنا جدلاً بأن العراق اتبع سياسة نفطية “وفق منطق الذكاء الفطري لمؤسس الدولة السعودية عبد العزيز ال سعود ومؤسس دولة الامارات العربية الشيخ زايد آل النهيان” كما يقول الكاتب، فان ما سيتراكم في العراق من بناء وثروات لغاية سنة 1980 سيقضي عليها صدام بحروبه العبثية وسننتهي في نفس المكان الذي نحن فيه الآن. أم ان الكاتب يريد أن يغير حتى تأريخ العراق للثلاثين سنة الماضية؟ انهم ساسة العراق الذين ابتلانا الله بهم منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى ولغاية هذه الساعة، ولا أعرف متى ينضج السياسي العراقي ويتعلم من التجارب السابقة، ومتى يتعلم الحكمة من الغير على الأقل. إن الذين تمكنوا من السيطرة على مقاليد الحكم بالعراق في تأريخه الحديث – باستثناء واحد أو اثنين ومنهم فيصل الأول – هم ليسوا بُناة بلدان!
لاحظت أن الكاتب في المحور الأول يقارن بين السياسة النفطية التي اتبعتها السعودية والامارات مع تلك التي اتبعها العراق، حيث يقول:
“لقد تبين لمعظم العراقيين بأن الطريقة التي اختارتها هذه الدول في ادارة الصراع مع الشركات النفطية الدولية وفق منطق الذكاء الفطري لمؤسس الدولة السعودية عبد العزيز ال سعود ومؤسس دولة الامارات العربية الشيخ زايد آل النهيان، وهو أن الفائدة من استخراج النفط تعود على الطرفين، الوطني والاجنبي، ولو بدرجات متفاوتة في المراحل الاولى، كانت الاكثر نجاعةً من النهج الذي اختاره من يسمون انفسهم بـ “الوطنيين الشرفاء” المتسلطين على العراق وفق منطق (كل شيء او لا شيء)”.
أنا الآن لست في وارد الدفاع عن السياسة النفطية التي اتُّبعت في العراق منذ البداية والمقارنة بينها وبين تلك التي اتُّبعت في دول الخليج، لكن لابد لي أن أقول إن اجراءات تأميم العمليات النفطية التي بدأت في 1972 وانتهت في 1975 وضعت العراق على الطريق الصحيح. وقد أبلت شركة النفط الوطنية بعد ذلك بلاءً حسناً، فأضافت نحو 45 مليار برميل الى احتياطيات العراق الثابتة في غضون ثماني سنوات وصعدت بسعة العراق الانتاجية الى ما يقارب أربعة ملايين برميل يومياً في نهاية سنة 1979، وكان مخططا لتلك السعة أن تزداد في السنوات اللاحقة. وفي تقديري أن العراق كان سيلحق خلال عقد الثمانينيات – لولا نشوب الحرب – حتى بمستوى الانتاج السعودي لو أراد ذلك. أما من الناحية الاقتصادية فإن عقد السبعينيات هو العصر الذهبي للاقتصاد العراقي حيث انصبّت الجهود على تنمية القطاعات السلعية (وبالأخص قطاع الصناعات التحويلية) وبناء البنية التحتية (بضمنها توفير الخدمات الأساسية) وكذلك الجهود العظيمة التي بُذلت في سبيل محو الأمية … الخ حتى ان الأمم المتحدة وضعت العراق في مقدمة الدول النامية التي كانت ستقلع لمستوى الدول الصناعية. ولكن – ولشديد الأسف – قفز صدام حسين الى قمة السلطة وخطف الجمل بما حمل، والباقي أصبح تأريخا معروفا للجميع!
و في السطور الأخيرة من ذلك المحور ذكر الكاتب ما يلي:
“وليس من الغريب، وفي محاولة لردم الفجوة الاقتصادية الكبيرة مع دول الجوار، ان نرى بعض العجالة من وزارة النفط العراقية في تنظيم جولات التراخيص الاولى والثانية وابرام عقود الخدمة النفطية مع عدد كبير من الشركات النفطية الدولية يعد رقماً قياسياً في تاريخ الصناعة النفطية العراقية. من المبكر الحكم على هذا النهج الجديد بأنه يمثل الخروج النهائي من منطق المعادلة الصفرية، لاسيما ان هناك اطرافا سياسية عديدة ومن بينهم بعض الاقتصاديين العراقيين المعروفين تتهم وزارة النفط ببيع الثروات النفطية الوطنية للشركات الاجنبية وتطالب بالغاء العقود المبرمة التي تعتبرها غير شرعية”.
يبدو من فهمي لهذا الكلام أن الكاتب يقول إن وزارة النفط العراقية تبنت الإسراع في منح العقود النفطية خلال العام الماضي من أجل ردم الفجوة الاقتصادية الكبيرة مع دول الجوار … ولكن ربما ستُعرقَل هذه الجهود من قبل جهات سياسية واقتصادية … الخ. ولربما كنت أنا أحد المقصودين بهذه الاشارة لكوني قد نشرت مقالاً بعنوان “دولة القانون تبدد 75 مليار دولار من أموال الشعب العراقي وتعرض أمنه الغذائي للخطر”. وأنا أكرر هنا، يا سيدي الفاضل، وبالفم المليان ما قلته بتلك المقالة وأخاطب وزير النفط: ما هكذا تورد الابل يا سعد!
سراج وظلمة
يقول المثل الشعبي العراقي في وصف التطرف بالعمل “لو بسراجين لو بالظلمه” والسراج كما تعرفون هو الآلة التي ينبعث منها النور، والتطرف هنا هو أما انارة المكان بشدة (بسراجين) أو تركه بظلمة دامسة. ألا توجد منزلة بين المنزلتين (وهو ما يقول به المعتزلة وهم أصحاب العقل) وهذا ما أبحث عنه؟ لم هذا الصعود المفاجئ الى 12 مليون برميل يومياً والتسبب باغراق السوق وتدميرها في حالة الانتاج بهذا المستوى الجنوني، أو عدم الصعود الى 12 مليون برميل يومياً والانتاج بما يمكن أن تتحمله السوق مع الحفاظ على تماسك منظمة الأوبك وهذه الحالة – في تقديري – ستسبب للعراق خسائر مادية قيمتها 75 مليار دولار على أقل تقدير. ثم لماذا اعطاء جميع الحقول دفعة واحدة الى الشركات الأجنبية ما يتسبب في القضاء على مستقبل شركة النفظ الوطنية؟ ألا تهمكم شركة النفط الوطنية؟ لماذا تطورت شركة أرامكو السعودية، حتى أصبحت الآن تتحمل دوراً ريادياً (وحضارياً) في نهضة المملكة العربية السعودية، ولكن من جانب آخر تُرسل شركة النفط الوطنية العراقية الى “التفصيخ” بموجب قرارات 1987 الخرقاء وتلحق أوصالها بوزارة النفط وهي مجموعة دوائر بيروقراطية لا علاقة لها بفنون الادارة الحديثة لشركات النفط؟ ثم لماذا، بعد التى واللتيا وبعد أن أوشك العراق على اعادة الحياة لشركة النفط الوطنية، يأتي أحدهم ليبعثر حقولها ويخنق الشركة الوليدة وهي بالمهد؟
وأخيراً لماذا تنتزع الحقول الحالية المنتجة من سيطرة شركة النفط الوطنية، وهي بوليصة تأمين حياة الشعب العراقي والسند المتبقي لتشغيل موظفي الحكومة، بل شبكة الأمان لاستمرارية الدولة العراقية، أقول لماذا تنتزع تلك الحقول وتوزع على شركات أجنبية لمدة 20 – 25 سنة علماً أن الهم الأول لتلك الشركات هو خدمة مصالح حملة أسهمها؟ أليس بامكان شركة النفط الوطنية القيام باعادة تأهيل تلك الحقول وزيادة انتاجها؟ نعم يمكنها ذلك بمساعدة شركة استشارية – تقوم مقام الكفاءات الوطنية التي تفتقدها الشركة الآن – للتعاقد مع شركات مقاولة لانجاز الأعمال المطلوبة وبأموال عراقية لا تتجاوز في البداية 2 – 3 مليارات دولار. ولطالما خصصت وزارة المالية في السنين القليلة الفائتة مثل تلك الأموال الى وزارة النفط ولكن الأخيرة لم تستغل تلك التخصيصات الاستثمارية استغلالاً كفوءاً وفي الأوجه المطلوبة. وبعد كل هذا التوضيح، هل كان واجباً على وزارة النفط اللجوء الى الشركات الأجنبية حتى في الحقول المنتجة، وبالتالي تعريض الأمن الغذائي للشعب العراقي الى الخطر؟
صراع على الموارد
ثالثاً: نأتي الآن الى المحور الثالث الذي يقول الكاتب فيه:
“المحور الثالث والأخطر على الاطلاق هو الصراع الداخلي على الموارد والذي يدور على جبهات داخلية عديدة وعريضة وتشارك فيه كل الاحزاب والكيانات السياسية. وليس ثمة مبالغة في القول بأن الصراع يدور حالياً بين الكل وضد الكل، بعد ما كان قبل التغيير في عام 2003 جبهة واحدة للصراع بين عائلة الدكتاتور صدام حسين وباقي مكونات المجتمع العراقي. لا نرى فرقاً جوهرياً بين الوضعين فكلاهما يعبر عن هيمنة منطق المعادلة الصفرية على سلوك الفرد العراقي في تعامله مع الآخر (اما انا أو انت). ونعتقد بأن الفساد الاداري والنهب العلني للمال العام واللذين اصبحا الثقافة السائدة في المجتمع العراقي يمثلان التجسيد الواقعي لمنطق المعادلة الصفرية”.
مرة أخرى أنا لا أعتقد أن ما جاء في المحور الثالث يندرج في دائرة منطق المعادلة الصفرية إلا اللهم اذا اعتبر الكاتب موارد العراق جميعها غنيمة أو كعكة كبيرة وأن جميع سكان العراق لصوص أو متنافسون بحالة مستمرة فيما بينهم، وكل واحد منهم يحاول الحصول على أكبر حصة من تلك الكعكة. نعم، هنا وتحت هذا الشرط ينطبق منطق المعادلة الصفرية، إذ كلما حصل شخص على قدر أكبر من استحقاقه الفعلي فإن مجموع حصة الباقين سينقص بمقدار الزيادة التي أخذها ذلك الشخص. ولكن هذه حالة وهمية لا يمكن أن تحدث بأي بلد إذ لا يُعقل أن يتحول شعب بكامله الى لصوص أو متنافسين ليقتسموا غنيمة تتمثل بموارد بلدهم. ففي الحالة العراقية الحقيقية هناك شعب مسكين ومغلوب على أمره في هذه المرحلة من تأريخه. ثم هناك طبقة موظفين فسدت فساداً كبيراً في ظل صدام حسين وازداد فسادها خلال فترة الحصار الاقتصادي. ثم تغولت طبقة الموظفين هذه بعد سقوط النظام وبعد أن شاهدت واستمرأت الفساد الرهيب الذي أصبحت تمارسه الطبقة الحاكمة الجديدة. هنا، في هذه الحالة، عندك طبقة موظفين أجيرة للشعب فهي تأخذ أجرتها من ميزانيته، ولكنها فاسدة فهي تأخذ الرشى من رب العمل (الشعب) حتى تنجز أعمالها المختلفة المكلفة بها، فأين منطق المعادلة الصفرية هنا؟ لا يوجد. الحل هنا هو بتر هذه الطبقة أو استئصالها إن لم تَتُب.
بقي أن نعالج مسألة الطبقة الحاكمة التي تتكون منها الاحزاب والكيانات السياسية في الوقت الحاضر. هنا يمكن أن نقول ان منطق المعادلة الصفرية لا يطل برأسه الكريه علينا إلا عندما تتميز هذه الطبقة بالأنانية وحب الذات وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة – وهي كذلك. فقبل الانتخابات – وهو ما يجري بالوقت الحاضر – يتوسل الحزب أو الكيان السياسي بكافة مكونات الشعب ويبذل الغالي والنفيس من أجل إرساله الى قبة البرلمان، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك بعد الانتخاب ليتحول ذلك الحزب أو الكيان السياسي الى سيد والشعب هو المسود. تلك، مع الأسف، هي صفات طبقة العراق السياسية هذه الأيام، وكلما أوغلت هذه الطبقة بتلك الصفات كلما نشط منطق المعادلة الصفرية وانعكس سلباً وبشدة على البلاد وشعبها.
سجال السلطة
انظر الى السجال الدائر حالياً بين السيد المالكي والدكتور اياد علاوي. شخصياً كنت أتمنى لو أن السيد المالكي تنحى للدكتورعلاّوي حال اعلان نتائج الانتخابات، وبذلك كان سيضرب لنا وللعالم أجمع مثلاً رائعاً في تداول السلطة سلمياً، ولدخل التأريخ كأول رجل دولة في تأريخ العراق الحديث يضع اللبنة الأولى لبناء دولة ديمقراطية عربية. ولكان استولى على عقول وقلوب الشعب العراقي بقيادته ائتلاف دولة القانون لتأليف حكومة ظل ضمن معارضة قوية وحكيمة، تراقب الحكومة كالنسر وتسدد خطاها كلما زاغت عن جادة الصواب. ولربما تيسر لها مستقبلا أن تسقطها بسحب الثقة عنها لو تبين أن أداءها لا يستقيم مع تطلعات الشعب في تحقيق الأمن وإرساء الاستقرار وتوفير الخدمات وبناء البنية التحتية وتنمية الاقتصاد. ولكن، ولشديد الأسف خاب ظني بهذا الخصوص، فالسيد المالكي ولحين كتابة هذه السطور لم يتزحزح قيد أنملة عما يعتقده بأن منصب رئاسة الحكومة هو من حقه وليس من حق غيره.
هذا على صعيد رئاسة الحكومة، أما على صعيد توزيع الوزارات ومناصب الدولة العليا، فهنا تتجلى مسألة توزيع الغنيمة بأبشع صورها. فهذا الكيان يريد كذا وزارات بضمنها وزارة الداخلية وذاك الكيان يريد كذا وزارات بضمنها وزارة الخارجية وذلك الحزب لايقبل بأقل من وزارتين سياديتين وواحدة خدمية وهذا الحزب لابد أن تكون وزارة التجارة ضمن حصته. وهكذا كلما كثر الدسم في وزارة ما كلما اشتد الصراع عليها باعتبارها ضيعة أو بقرة حلوبا ترفد الساسة وأحزابهم وكياناتهم بما يحتاجونه من موارد الشعب العراقي المظلوم.
كان الله في عونك يا عراق ويا شعب العراق! هل سيستيقظ يوماً ساسة العراق ليدركوا كم هو الضيم الذي ألحقوه بشعبهم الصابر، أم أنهم سيسوقون البلاد الى المجهول الذي لا يحمد عقباه؟ إن هذا الأخير هو ما نخشاه!
* خبير نفطي واقتصادي مقيم في لندن
الوصاية على المصارف واثارها على الجهاز المصرفي والسياسة النقدية