في القسم الأول عرضنا وناقشنا، بصيغة عامة، مفهوم الأزمة المالية العالمية وأبعادها، بسياقها التأريخي، ثم أشرنا الى طبيعتها الحالية كازمة تطال العالم كله، وهي بادية وكأنها ازمة بنيوية عالمية تهزّ الآن الرأسمالية العالمية الجديدة في مركز ثقلها في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن تأثيراتها البالغة جداعلى بقية العالم لم يجر التطرق لها في ذلك القسم الأول من هذا المقال. وعليه، فسيتم في هذا القسم الثاني بحث هذه التأثيرات، بعد أن نفصّل قليلا في طبيعة تلك الآثار، من منظور عوّلمة صراع العلاقات الإقتصادية والتجارية على نطاق العالم المنقسم اليوم بين دول تستحوذ وتهيمن على التجارة الدولية، كمنتج، من جهة، وكمحتكر، عموما، لشراء منتجات الدول الفقيرة والمستلبة، وخصوصا منها الدول الريعية المتخلفة، كالعراق، من جهة ثانية. وللربط بالمفاهيم العامة للأزمة المالية العالمية التي عُرضت في القسم الأول، لابد من مدخل تمهيدي أكثر تحديدا في هذا القسم من البحث.
المدخل:
مدخلنا هو أن نرسم صورة عامة، ثم ندخل في تلافيفها من أجل إسناد مقولاتنا وفروضنا الفكرية المستمدة من تأمل التـاريخ، كصراع من أجل الموارد النادرة والمحدودة، والمتجددة منها والناضبة، والتأريخ هنا، طبقي/ أثني/ سياسي/ إجتماعي، وليس مجرد سجل محايد لإحداث عن النشاطات الإقتصادية التبادلية الدولية.
ينبغي علينا، أولا، أن نشير، بإقتضاب، الى مسار التجارة الدولية عبر حقب من التأريخ، ومن هي التي كانت تشكل أطراف التبادل التجاري؟ وبأية شروط وظروف وكيف تتوزع فوائض التبادل بين دول العالم، أقلية غنية مهيمنة من جهة، وغالبية فقيرة ومسحوقة، من جهة أخرى؟ وحين تتخّلى الدول الفقيرة عن إملاءات مستعمريها السابقين في مجال الإدارة الإقتصادية “الحرة” لإسواقها، إزدادت شعوبها فقرا وجوعا ومرضا، تحت نظم، أقامها قادتها، بعد التحرر من الأستعمار المباشر، إتسمّت بالإستبداد والأسواق المقيّدة، وسُميّ بعض من هذه الدول “إشتراكية”. ولكن بعضها الآخر، وخصوصا بُعيد الحربين العالميتين، تبنّى النظام الإشتراكي على نمطين، أو حتى ثلاث سابقين؛ النمط “السوفيتي”، والنمط ” الصيني”، وربما النمط “اليوغسلافي التيتوي”، فهذه، ربما، أفلحت في كسر بعض حلقات الفقر والدخول الى عوالم النمو وإشباع الحاجات وتحصيل فوائض أفضل من نتائج التبادل التجاري الدولي، على الرغم من هيمنة الدول الرأسمالية “الحرة”. ولكن، ماذا حصل قبل أكثر من عشرين عام، أي بعد إنهيار المعسكر السوفيتي النمط، واليوغسلافي النمط؟ وليس هنا المجال لبحث الأسباب والعوامل الموضوعية، بل نترك الأمر لبحث مستقل لاحقا. ما حصل هو ان بقي ثابتا النمط الصيني، بل واصبح يتقدم اليوم بمعدلات فريدة ومتميزة وعالية من الإنتاج والنمو والسيطرة المتزايدة على حصة كبيرة ومتنامية من فوائض التجارة الدولية، على الرغم من فقدان “الحرية” الكاملة للأسواق، و بوجود هيمنة الحزب الواحد، وغياب التعددية الديمقراطية؟ ماذا حصل؟ أين هي قهقهات العم سام بإنتصار الرأسمالية العالمية، كنمط أرقى قيميا وماديا وإنسانيا، بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي في مطلع تسعينات القرن الماضي!! حتى إدعى أحد مفكريهم المدعو فوكوياما بان البشرية قد وصلت الى “نهاية التأريخ”، بإنتصار الرأسمالية، فباتت النمط النهائي للنمو البشري؟ أين النصر؟ وأين السر؟ هل يكمن بآلية السوق؟ آه من آلية السوق! وبدون فساد! آه من الفساد! وبدون بيروقراطية وطبقات طفيلية شائهة! آه من البيروقراطية الشائهة! لننظر الى الصورة الإجمالية التالية، لعلها تقدم إيضاحا مبسطا للصورة اللفظية العامة السابقة!
أن صورة العالم، تحت نُظم تبادل، حددتها أنماط ونماذج مختلفة للنمو والتبادل في العالم، بين دول متباينة القوى، ناهيك عن تلك التي نظمّها العديد من الإتفاقيات التجارية، الثنائية والإقليمية والدولية، إبتداءا من إتفاقيات الدول المستعمِرة مع مستعمَراتها، كما في حالة الكمونويلث البريطاني، الى أتفاقيات التجارة التفضيلية، PTAs؛ والإتفاقية العامة للتعريفات الجمركية، ((GATT، وصولا الى إتفاقية التجارة الحرة الدولية، FTA؛ الى جانب عدد كبير من الإتفاقيات الثنائية والإقليمية وغيرها من الإتفاقيات المناطقية الحرة. (أنظر1). ولسنا هنا في مجال إستعراض إقتصاديات التجارة الحرة و/أو المقّيدة، ولا المبادئ الإقتصادية التي تساعد على قياس آثار الرفاهية أو (النمو)، الممكن تحقيقها من خلال التجارة بين طرفين أوكيانين أو أكثر، على وفق نظرية باريتو للتبادل التجاري الأكفء التي تقوم على منحنيات التفاضل لكل من المشتري و البائع. وهذا، بالطبع، موضوع شائك وممتع ويقع خارج نطاق هذه الورقة. ان دراسة تأريخ التجارة الدولية تحكي، وبحيادية موضوعية، قصة الصراع من أجل الموارد المادية والتقنية والعلمية، وحصائلها للأطراف وبالتالي للشعوب المتصارعة من أجل العيش و الرقي أو الإثنين معا. ولم تكن تلك الحصائل، عبر التأريخ، كلها سيئة، على الرغم مما إنطوت عليه من نهب يقوم به القوي على حساب الضعيف، ولكنها إنطوت أيضا على نقيض ديناميكي، حيث أخذ الضعيف يتعلم من مصائبه وإستلابه، ولذلك بدا يطالب ببعض العدالة، ومن هنا جاءت الإتفاقيات لتخفف من غلواء الإستلاب، ولكن القوي لم يكن ليوقعها إلا بعد أن يضمن تفوقه فيها، بل هو قد يتبرع للضعيف، ليساعده ليزيد إنتاجه ويقدم له ضمانات مغرية ليحصل هوعلى إنتاجه، والضعيف سيستفيد بالطبع، ولكنه، مع ذلك سيكون على منحنى تفاضل لا يلامس منحنى تكاليفه المادية وغير المادية، (الخدمية والثقافية والإجتماعية وحتى النفسية، وفقا لمنحنيات باريتو، فهو بهذا المعنى مجرد سلعة أو قوة عمل يجري التساوم عليها أوعلى منتوجاتها لإقتنائها بأبخس الأسعار، فهو إذن صراع على فائض القيمة، وذلك هو، أصلا، مفهوم التجارة الحرة! ولكن ما يُهدّأه، أي الصراع، هو أنه ينطوي على بعض القدرة على المساومة، طالما يتوفر بعض الوعي المعرفي لدى المُنتِج الضعيف، وهذا ما قد توفره له الحرية بشروطها الإنسانية).
لو نظرنا الى خارطة العالم الجغرافية والسكانية اليوم، وبعد قرون من التبادل التجاري، فماذا نجد؟ نجد بأن الغالبية الساحقة من سكان العالم البالغ أكثر من ستة مليار نسمة، تقع في آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية، حيث تتركز الموارد الطبيعية الهائلة، كالمعادن والنفط والغاز والمساحات الزراعية الشاسعة المنتجة لأكثر من 60% من الغذاء في العالم؛ (الحبوب والبقول واللحوم، وماشابه)، بينما يتركز ما يقارب ربع سكان العالم في القارة الأوربية والأسترالية وأمريكا الشمالية وكندا، وهي ايضا تتمتع بموارد طبيعية ومياه ومساحات زراعية شاسعة، وهي الأعظم أنتاجا وتقنية وقوة ومنعه، بل هي المهيمنة على التجارة الدولية حيث تشكل البضائع التي تنتجها اكثر من 60% من مجموع البضائع المتاجر بها عالميا؛ والولايات المتحدة وحدها تهيمن على 25% من هذه التجارة. وهذا يعني أن ربع سكان العالم يهيمن على مسارات التجارة الدولية، ناهيك عن الثروات المتراكمة والدخول الفردية والإجمالية التي لا يمكن مقارنتها بما يقابلها لدى بقية سكان العالم الذي يعيش ربعه بمستوى المجاعة، ومايقرب من ثلثه بمستوى خط الفقر، ولا يشكل متوسطو ومرتفعو الدخول بينهم نسبة مهمة بالمقارنة الى مستوى قرائنهم في الربع الغني المترف من العالم. فهل أدت قرون من التجارة الدولية الى توزيع الرفاه والموارد والمنافع الناشئة عنها بصورة أفضل مما كانت عليه في العصر الإستعماري الذي إختفى بمفهومه القديم؟ ربما، بمعنى ان نسبة سكان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية الذين كانوا يموتون جوعا وحرمانا بالسابق اصبحت أقل بكثير، بينما إزدادات الفجوة النسبية في مستويات العيش والثروة والقوة بين العالمين، الغني القوي، من جهة، والفقير الضعيف، من جهة ثانية. ولكن هذه الصورة ليس إطلاقية، بل هي نسبية، فهناك أثرياء وراجات وملوك وحكام في أسيا وافريقيا، ممن يملكون ما لاتملكه دول. ولو اضفنا الى تجارة البضائع في السوق العالمية، تجارة الخدمات، وخصوصا المصرفية والتأمينية والتقنية والثقافية والتعليمية، لوجدنا أن الدول الرأسمالية اليوم تكاد تهيمن، تماما على التجارة الدولية، بمفهومها الواسع. وهذا يعني بان أي إختلال في التدفقات النقدية والمالية التي يفترض أن تكون موازية للتدفقات السلعية، سيؤدي الى إختلالات جوهرية في طبيعة العلاقات الإقتصادية والمالية المعوّلمة، وربما سيؤدي الى زيادة مديونية العالم الرأسمالي، ومركز ثقله هنا الولايات المتحدة، وعدم قدرته على الإيفاء ماليا، وربما سلعيا أيضا، فتبدأ دوامة الأزمة تقود المؤسسات المالية والمصرفية في أوربا وفي الولايات المتحدة بالذات الى هاوية الإفلاس. ومن هنا تنشأ محنة الأزمة المالية العالمية التي نحن بصدد إضفاء مزيدا من التفصيل عليها، من أجل الوقوف على آثارها بوضوح. (2)
كيف نشأت الأزمة الحالية، وكيف تفاقمت وإمتدت الى خارج الولايات المتحدة، في أوربا تحديدا؟ وما هي آثارها المباشرة وقريبة الأجل، وغير المباشرة، وربما بعيدة الأجل، على الدول الرأسمالية، من جهة، وبقية دول العالم، الشركاء التجاريين، ومن ضمنهم الدول الريعية التي تحصل على أودها من بيع نفوطها وغازها وموادها الخام والغذاء الذي تنتجه في السوق العالمية، من جهة أخرى، وماهي المخارج في النهاية؟؟ لتجنب السرد الطويل، لابد من تأجيل التفاصيل والتركيز، للإجابة على هذه الأسئلة، بالنقاط الآتية في ثلاث مجموعات؛
أليف؛ عوامل نشؤ الأزمة؛
ليست هذه هي الأزمة الأولى التي تعرض لها العالم الرأسمالي، أو دوله الرئيسة، فهناك أزمات دورية عديدة، ولكنها محدودة الأثر وقابلة للتطويع، وهي الناشئة عما يسمى بالدورات الإقتصادية. وهناك الأزمات الإقتصادية والمالية الكبرى، كما كان يتنبأ بها الفيلسوف العظيم كارل ماركس، كما حصل في كومونة باريس، وفي الكساد التضخمي العظيم في ألمانيا في عام 1929، او الكساد التضخمي الهائل في الولايات المتحدة في عام 1931-1935، وليس هنا مجال البحث فيها، ولكن يكفي القول بأن أساسها كان الصراع على الإنتاج وفائض القيمة والنزوع للهيمنة على الأسواق العالمية والمستعمرات ومناطق النفوذ وغير ذلك. ولكن رئيس الولايات المتحدة، آنذاك، فرانكلين روزوفلت عالج الأزمة الأخيرة بحزم وتشريعات فاعلة للضرب بقوة على أيدي المصارف والمؤسسات الإئتمانية التي خلقت إقتصادا رأسماليا وهميا يقوم على المضاربة وإصدار الأوراق المالية التي لاقيمة لها، مما أدى الى إفلاس المؤسسات المالية وإرتفاع البطالة الى حدود مخيفة، وهبوط البؤس بكامله على الناس والشغيلة وحتى على الطبقات المتوسطة، فعالج الأمر بيد من حديد حيث أصدر تشريع كلاس-ستيكول، (Glass- Steagall)، في عام 1933 الذي بموجبه انقذ النظام المصرفي الإنتاجي، أي المرتبط بالسوق العيني الحقيقي للإنتاج، وترك مصارف المضاربة الوهمية أو الإسمية لتفلس وتموت، كما خسر ونُكب معها المودعون المضاربون والطفيليون من السماسرة والوكلاء. (3) أن الأزمة الحالية التي إبتدأت في الولايات المتحدة منذ منتصف عام 2007، أخذت ابعادا أكبر، وذلك لأن المصارف وبيوت تأمين وبيع العقارات والمؤسسات المالية الكبرى، بل الأكبر في العالم، كانت و لا تزال لها نفوذ سياسي طاغ، مما حال ليس فقط دون تركها تموت، بل وكوفئ مدراؤها ومالكو اسهمها بمبالغ فلكية على حساب المستهلك الأمريكي، وعلى حساب حماية العاملين في خطوط الأنتاج الصناعي من التسريح، كما أشار الإقتصادي الأمريكي، الحامل لجائزة نوبل، البروفيسور جوزيف ستيكلتز. (3)
وقبل الإسترسال في الموضوع، لابد من توضيح فكرة أساسية، وهي ان الطلبين الإستثماري و الإستهلاكي، ناهيك عن الوسيط، يتحددان بالدخل المتاح للإنفاق ومستوى العرض المتحقق للسلع ( بضائع وخدمات)، وبمستوى ما يسمى بالطلب الفعّال. والمفروض أن التدفقات النقدية والمالية تساوي أو تعادل قيم البضائع والخدمات المعروضة، فإن زاد ضخ النقد، مثلا، من خلال الدخول المنفقة والدخول المقترضة، كإستثمارات وخدمات، فإنها تمنح على أساس ما ستحققه من فوائد وعوائد في وقت لاحق، وإذا لم توازي بقيمّها إنتاج مماثل، فإننا هنا سنخلق إقتصادا وهميا، حيث تزداد الديون، من جهة، وتتضخم الكتلة النقدية بالتداول، وتنخفض الإدخارات، فترتفع الأسعار إرتفاعا كبيرا، وتزداد المديونية مستحقة السداد. أما البنوك والمؤسسات المالية، صحيح أنها تكسب فوائد لا تأتي، لكنها لاتستطيع إلإيفاء لسداد ديونها هي الأخرى، فتعجز وتصبح على شفا الإفلاس. لنأخذ مثالا، من سوق العقارات، فكل مواطن أمريكي يستطيع شراء بيت أو فيلا إضافية، بمجرد تقديم طلب لتمويل صفقته أو العقار المعروض من بيوت المتاجرة بالعقارات، بعد دفع مبلغ صغير، ويحوزه وربما يسكنه، دون أن يسدد ثمنه بالكامل، ويزداد عرض العقارات، ويتصاعد الطلب عليها، ولكن ليس هناك نقد مساوٍ لقيمتها، وخصوصا، بسبب الطلب الشديد عليها، فترتفع أسعارها والفوائد المترتبة عليها، الى أن نصل الى نقطة، تصبح المصارف وبيوت المال غير قادرة على تلبية طلبات القروض لشراء العقارات، فيكّف الطلب أو ينحسر وتنخفض أسعار العقارات، وتخسر المصارف والشركات المالية، ويُطالب المقترضون بالتسديد ، وهم لم يعودوا قادرين على بيع وثائق التمليك الأولية لغيرهم للتسديد، وهنا تحدث (وحدثت) الطامة الكبرى، فلا أحد يشتري ولا أحد يبيع، فيُسرح موظفون وعمال، وتُحجز أو يتم إخلاء عقارات، (Foreclosures)، وحتى دخول المقترضين برسم تملك عقارات، وتظل فارغة ولا أحد يشتري، فتنهار أسعارها، وتتوقف شركات البناء عن العمل، ويُسرّح المزيد والمزيد من عمال البناء ومهندسيه وفنييه، ويحصل كساد تضخمي هائل، ويضطر المستهلكون والمقترضون الى التقشف وربما الإنتقال للعيش في مكان آخر أو يعصون فيها، وقد يحاكمون، ويخسر العملاء، وتخسر الحكومة التي أنفقت لتقديم المنافع والشركات التي تنتج الكهرباء وغيرها من المنافع، وهكذا تدور الدوامة! وقد سُمّيت هذه الأزمة بفقاعة “رهون المساكن”، (Housing Bubble). في هذه الحالة، كيف تعالج الحكومة الأمر؟ سنتطرق لهذا الأمر لاحقا، ولكن للمناسبة نقول، بأنها عملية يراد بها كسب الوقت ولإيقاف التداعي، فتذهب الحكومة الى المصارف والمؤسسات المالية وتقول لهم؛ هاكم فوائدكم، ولا تفلسوا وإستمروا في عملكم!! فهل هذا حلّ؟، سنرى أدناه. ولكن بعض المؤسسات، مع ذلك تعلن إفلاسها للخروج من أزمتها، ولهذا الأمر مضاعفات مالية ونقدية وإقتصادية، لا مجال لتفصيلها. وهكذا أفلست أعظم مجموعة شركات للتأمين والإئتمان في العالم، مثل المجموعة الأمريكية للتأمين،AGI) )، وهكذا سقطت الليمان برذورز، وسيتي كروب، والبنك الأمريكي، وفردي مي، وغيرها الكثير من عمالقة بيوت المال والمصارف والتأمين والإئتمانات، لاسيما منها تلك التي إبتدعت نظم إئتمان متنوعة وهائلة تجعلك تشتري وانت “نائم”! وهذا ما نقصده بالإقتصاد الوهمي، أي غير العيني الحقيقي. أنها عملية تراكم ليس رأسمالي عيني، إنما رأس مال نقدي، يوهم بوجود ما يقابله من سلع، فالجشع من اجل الأرباح، تحت نظام إئتماني “فالت” بإسم الحرية الإقتصادية، وإعتمادا على “يد آدم سميث الخفية”، بأن السوق ستصحح نفسها، وإذا بنا امام مؤسسة الإحتياطي الفدرالي، بتوجية من الحكومة والسلطة التشريعية، تتدخل لشراء المصارف، فتضخ خمسة تريليون من الدولارات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، دون أن ترمش لها عين، ولا يهمها ذلك، لأن العملية لا تتطلب سوى طبع أطنان من ورق، تسميها دولارات. كما أنها تخطط لزبادة مديونيتها لبقية العالم والتي تجاوزت الآن أكثر من 14 تريليون دولار، ربما بنفس الأسلوب، معتمدة على كون الدولار عملة الإحتياطي النقدي العالمي، ولا أحد سيرفضه! وهنا مكمن الخطورة، وسنرى لماذا لاحقا. ولا ننسى العوامل الجوهرية الأخرى التي عجّلت بنشؤ الأزمة المالية، وزيادة المديونية الى هذا الحد المخيف. ومن أهمها، الإنفاق العسكري الهائل بعد تأريخ 11 ايلول 2001، بعد غزو افغانستان، ثم العراق حتى الوقت الحاضر، فطبع الدولار بماكناته الجاهزة لا يكلف شيئا، وإصدار سندات الخزينة يساوي قيمتها الورقية والدعائية. فتتصاعد الديون للدول الأخرى، ويتحتم دفع المزيد من مليارات الدولاارات لتسديد الفوائد على السندات. ومصارفها كذلك تحتضن تريليونات الدولار التي أودعتها الدول الدائنة، كدول الخليج والصين والشركاء الآخرين، ممن يضعون ويوظفون إحتياطاتهم بالدولار لدى مصارف و مؤسسات الولايات المتحدة، على امل دفع مستورداتهم عند الضرورة من الفوائد المتحققة عليها. وهكذا تدور عجلة الأزمة الطاحنة. (4)
باء؛ الآثار القريبة والبعيدة على الدول الرأسمالية، وفي مقدمتها أمريكا وأوربا:
بالنسبة للولايات المتحدة، أولا، بسبب ضخ النقود الهائل، سترتفع الأسعار دونما زيادة في النمو والإنتاج، بسبب البطالة المتصاعدة، ( قد تصل قريبا الى 10%)، والتقشف بسبب المديونية الشخصية، (رغم إنخفاض سعر الفائدة الى صفر)، وبسبب مديونية وإفلاس أهم بيوت المال، يتصاعد العجز في الميزان التجاري، ويرتفع العجز في الميزانية الفدرالية و كذلك لدى بعض حكومات الولايات، فيتدهور سعر صرف الدولار الأمريكي، وتُثار الشكوك حول مستقبله، كعملة إحتياط عالمية، ولكن الحكومة الفدرالية لا تنفك، من خلال مؤسسة الإحتياطي الفدرالي، بقيادة برنانك، حتى تضخ المزيد من الدولارات، ليصل الى أكثر من 5 تريليون دولار لحد الآن، ولم تتوقف المطابع عن عملها، ليل نهار!! (5)
بالنسبة الى أوربا والإتحاد الأوربي؛ فالمشكلة هنا هي كونها شريك تجاري مهم للولايات المتحدة، وتمتلك إحتياطيات بمليارات الدولارات، لكن تقليدها الأعمى لنظم الإئتمان الأمريكية، وإستنادها الى مستوردات وصادرات متصاعدة ومستقرة من والى الولايات المتحدة، فهي لابد أن تجد نفسها أمام نفس الأزمة، فالتسديد عن صادرات الى أمريكا بدولارات يتآكل سعر صرفها، يعني أنها تخسر، وتسديد مستورداتها من أمريكا بدولارات منخفضة بطريقة الإئتمان معناه خسارة إضافية، وإنخفاض الطلب الأمريكي على صادراتها يعني بطالة، كما أن شركات التأمين الأمريكية المفلسة لا تغطي خسائرها، فتنحدر بالطبع، أولا، الدول الأوربية الأقل متانة، وهي اليونان، والبرتغال واسبانية، وحتى إيطاليا وإيرلنده. ولكي لا يزحف الخطر على الدول ألأمتن، كألمانية وفرنسة، والى حد أقل الى المملكة المتحدة، يقوم الإتحاد الأوربي، بإقناع الدول الرصينة، كالمانية، بتقديم قروض إغاثة باليورو لإنقاذ اليونان، أولا، ومحاولة دعم وتثبيت الدولة الأخرى المشرفة على الكارثة، كالبرتغال وغيرها، وكل ذلك لمنع تداعي اليورو بدوره لإن إرتباطاته بالدولار قوية، وقد يستفيد الباون البريطاني وقد لا يستفيد، إعتمادا على وضعه الإنتاجي ومستويات البطالة في داخل إقتصاده.
نعود الى الآثار على بقية دول العالم وفي مقدمتها الصين، ودول الفائض الدولاري، كدول الخليج العربية النفطية، فهذه، شاءت أم أبت، تملك إحتياطياتها بالدولار، وهي مرتبطة به، بسبب تعاملها التجاري الأغزر مع الولايات المتحدة، لما يتطلبه ذلك من إستخدام للدولار الأمريكي. فإذا كانت مصدّرة الى أمريكا، فهي تخسر وإذا كانت مستوردة فهي تربح، في حالة كون أمريكا تملك طاقة كافية لتلبية حاجاتها الإستيرادية، ولكن في ظل الكساد التضخمي قد لاتستطيع. وهنا عليها أن تشتري من مصدر آخر، محوّلة دولاراتها الى عملة ذلك المصدر، فتخسر، بسب تدني سعر صرف الدولار. وهنا الحيرة والخسارة المحتملة التي يعتمد حجمها على حجم التعامل مع أمريكا وحجم الدولارات المملوكة من قبله. أما الصين الحصيفة فقد توقعت قبل غيرها سير الأزمة، وقبل أن تتفاقم، أنفقت مئات المليارات الأمريكية لشراء مواد وخامات منها، حتى ولو كانت لا تحتاجها آنيا، وقبل حصول تدهور كبير في سعر صرف الدولار. ثم قبضت بأغلبية ما تملك من دولارات، ( وهي تملك ما يقرب من تريليون ونصف تريلبون منه)، قبضت على أذونات وسندات الخزينة الأمريكية، مهددة ببيعها في السوق العالمية، إن لم تسدد ليس فقط فوائدها، إنما أيضا تسييلها على شكل سلع أمريكية تصدر لها!! أليست هذه حصافة صينية؟! أما الدول الريعية، فلنا معها طرحا مستقلا لاحقا للأهمية، هنا أو في القسم الثالث الذي سيلي القسم الثاني هذا. والخلاصة فإنها إن لم تفعل شيئا ستخسر بشكل مريع. اما إذا إتكلت على الله وعلى العم سام، متفائلة بالخير، فالغد ليس ببعيد!! (6)
جيم؛ ما هي الخارج؟
قد تكون للمخارج عدة منافذ، فبعضها أولي ومرحلي، وبعضها عسير ويستغرق وقتا، وقد يتطلب حلولا عالمية، وليست أمريكية فقط. ونحن نعتقد بأن على أمريكا، ألإ أن تعود الى فرانكلين روزوفلت، وتعيد تشريعه الكلاس-ستيكول، فتضرب مصارف المضاربة والقمار الوهمي، كما فعل. وان تعتمد سياسة واقعية، فتحفّز الإنتاج وتعطي الأولوية لبيوت المال والمصارف الإستثمارية وليست الإستهلاكية. وأن تعيد النظر ببناء إحتياطي لعملتها الدولارية، دونما الإكتفاء بسمعته الدولية، كعملة إحتياطي عالمي. وان تلجأ الى شراء دولاراتها بالخارج بشراهه، حتى لو ضغطت على انتاجها وأصولها الثابتة، لإستخدامها لمقايضتها بدولاراتها السارحة بفيضان في الخارج، فتعيد لهذا الدولار هيبته، قبلما يفلت الأمر في الغد الآتي.
أما دول بقية العالم، بضمنها الدول النفطية الريعية، فأمامها خيارات، سيئة وجيدة. فقد تعلن موت الدولار، وتطالب بنظام نقدي جديد، يعتمد إحتياطي من الذهب، ولكن، ربما، بإبتداع مرونة كافية، لكي لا يتقيد بقيود كميات الذهب المحدودة في العالم. أو اللجؤ الى نظام سلّة العملات الرئيسة في العالم، بديلا عن الدولار. الدعوة الى نظام نقدي جديد تماما يعقد في أمريكا، وتحت رعاية صندوق النقد الدولي وبمشاركة الأمم المتحدة، لإجتراح نظام لا يستبعد الدولار، ولا الذهب أو غيره، ولكنه مزيج، قد يصبح سهل ممتنع، حيث يعطي لقيصر ما لقيصر ولله ما لله! فحقوق السحب التي يصدرها صندوق النقد الدولي، قد تصبح هي عملة الإحتياطي، على الرغم من علاقتها الوثيقة بالدولار، على أن توزن حقوق السحب هذه بمعدل أوزان مأخوذه من سلة من العملات الرئيسة العالمية، كاليورو والفرنك السويسري والريال السعودي، (والأخير ينام على ذهب اسود، هو النفط، وإذا تجاوزه العراق بهذا الخصوص، فلم لا يحل محله او يعايشه)، وربما غيرها أيضا. أما إذا كانت الإجراءات الأمريكية جاهزة، فالمقترحات أعلاه لا لزوم لها، ولكن ينبغي التمسك بها، كصمام أمان، عندما يغدر الزمان!!!!
الخلاصة:
عرضنا، وبصورة مكثفة، طبيعة وآثار الأزمة المالية العالمية إنطلاقا من مركز ثقلها في الولايات المتحدة، وأشرنا الى بعض المخارج والحلول الأولية واللاحقة، كما نتصورها، ولكن، بطبيعة حال، يدخل البعد السياسي في الموضوع، وقد يخرج بحلول تحافظ على هيمنة الطفيليين في القطاعات المصرفية، ولو لمدة أطول. ولا بد من التنويه، بأن النظم الديمقراطية الغربية كانت ولا زالت تعج بالحلول التوفيقية التي بعضها يؤجل قبائح الرأسمالية، فيبعد شبح ماركس، وبعضها يصرّ على إدامة حرية الأقوياء أمام زخم حرية الضعفاء، متمسكا بإيقونته، ميلتون فريدمان. ونحن هنا قد لا نكون أمام مواجهة بين كارل ماركس وميلتون فريدمن الداعي الى الرأسمالية غير المقيدة الراهنة، ولكن المصالح النهائية ستنتهي بتوفيق الصراع بشكل أو آخر دون أن تسكته الى الأبد. ولوسُؤلنا، وماذا عن الأفراد الخائفين من ضياع مدخراتهم الدولارية أو المعتمدة على دخول تُكسب من بيع ما يملكون بالدولار الأمريكي. فالجواب الحذر، هو أن يحوّلوا إدخاراتكم الى ما يساويها من ذهب أو فضّة الآن، ما دام سعر الأونصة من الذهب الآن يقارب ال1500 دولار، ومرشح أن يتضاعف خلال ثلاث سنوات. اما المتقاعدون الذين يستلمون رواتبهم بالدولار، فلهم الله، ما لم تُربط رواتبهم تلك بمؤشر الأسعار الزاحفة، إن لم تكن الزاعقة. (6)
د. كامل العضاض
16/07/2011
لبنان__ __________
*الكاتب، إقتصادي متخرج في جامعة ويلز في بريطانية، بجميع مراحله الدراسية، وله دراسات وبحوث إقتصادية قياسية عديدة، وعمل لسنوات بصفته مستشارا إقليميا في الأمم المتحدة في الحسابات القومية والإحصاءآت الإقتصادية.
بعض المصادر:
- Barry Eichengreen and Douglas A. Irwin; ‘The Role of History in Bilateral Trade Flows”.
- Anthony J. Venables; “Spatial Disparities in Developing Countries:
- Cities, Regions and International Trade” November 2003.
- 3.LaRouche webcast: “The Greatest Crisis in Modern History”, Austarlian Standard Times, May, 2010.
- 4. Joseph E. Stiglitz; “Wall Street’s Toxic Message”, July, 2009.
- 5. Daily Wealth- “Online Service”.
- 6. Daily Wealth- “Online Service”.
القسم الثالث
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية