عنوان هذه المقالة مستوحى من مقابلة أجرتها جريدة «الحياة» مع د. مهدي الحافظ، وزير التخطيط العراقي السابق، نشرت تحت عنوان “تقرير للبنك الدولي يوصي بتطوير القطاع المالي في العراق” (بغداد، هشام عبد الوهاب، الحياة، السبت 7 يناير/كانون الثاني 2012). لم يتجاوز ما ذكره الدكتور الحافظ عن قطاع التأمين العراقي خمسة عشر كلمة من تصريح تجاوزت كلماته ستمائة كلمة. قال:
“ان قطاع التأمين لا يزال محدوداً، ويخضع لهيمنة مؤسسات تابعة للدولة وغير مشمولة بالرقابة المطلوبة”
وكما قلنا في مقالات سابقة لنا فإن قطاع التأمين لا يشغل سوى حيز مفرط في الصغر، وأحياناً غير دقيق، في تفكير الاقتصاديين العراقيين.[i] وما التصريح أعلاه إلا نموذجاً آخراً لقلة الاهتمام بالموضوع والمرور السريع عليه. وما جاء في التصريح هو ترديد لما ورد في تقرير البنك الدولي الذي ينطوي على مغالطات فيما يخص قطاع التأمين وهو مما لا يليق بمؤسسة تضم الخبراء ولها من الموارد البحثية مما لا يتوفر عند غيرها.
نرحب بتصريح الدكتور الحافظ وذكره لقطاع التأمين وهو أول من يقوم بذلك، وبسرعة، بعد صدور تقرير البنك الدولي. ونأمل أن يقوم غيره من الاقتصاديين العراقيين، وكذلك المعنيين بالنشاط التأميني وممارسيه، مناقشة تصريحاته، وكذلك مناقشة تقرير البنك وما ورد فيه من وصف واستنتاجات وتوصيات بشأن قطاع التأمين تقوم على إدخال الخصخصة وتطبيق تجارب أسواق أخرى على العراق ولاعتبارات إيديولوجية – وهو ما سنحاول إبراز جوانب معينة منه في هذه الورقة.
لنستعرض مصادر تصريح الدكتور الحافظ كما وردت في تقرير البنك المعنون القطاع المالي العراقي بإشراف الخبيرة المصرية سحر نصر، [سحر وليس سهر] كما ورد في الحياة، الصادر في أول كانون الثاني 2010. ومن خلال الاستعراض نناقش الأفكار الواردة في التقرير.
محدودية قطاع التأمين
يذكر تقرير البنك التالي حول محدودية الانتاج في قطاع التأمين:[ii]
لا يمكن تقييم حجم سوق التأمين بصورة مناسبة من جراء قلة البيانات المتوفرة. يعتقد بعض المشاركين في السوق أن قيمة الإجمالي السنوي الكلي لأقساط التأمين المسجلة لكل شركات التأمين تتراوح بين 60-80 مليون دولار أمريكي بالنسبة لشركات التأمين غير المملوكة للدولة، وحوالي أربع أو خمس أضعاف هذه القيمة لشركات التأمين المملوكة للدولة. إعادة التأمين غير منتشرة بصورة كبيرة، ويُعتقد أن أقساط إعادة التأمين تساوي 16-25% من إجمالي أقساط التأمين المسجلة.
صحيح أن البيانات الاحصائية عن حجم السوق قليلة لكن معدو التقرير كان بإمكانهم مراجعة شركة إعادة التأمين العراقية التي تدير اتفاقيات إعادة التأمين نيابة عن معظم شركات التأمين المرخصة بمزاولة النشاط التأميني للحصول على بيانات ومعلومات أخرى. أو كان بإمكانهم طلب البيانات من الاتحاد العام العربي للتأمين حيث يقدم وفد سوق التأمين العراقي تقريره كل سنتين لمؤتمر الاتحاد. لكنهم لم يفعلوا إما قصداً أو جهلاً بهذين المصدرين. أو كان بإمكانهم أيضاً الاستفادة من التقارير السنوية لشركة التأمين الوطنية، المملوكة للدولة منذ تأسيسها سنة 1950، وهي الأكبر والأغنى بين جميع شركات التأمين العراقية، لتقييم حجم أقساط التأمين وتطورها على مدى السنوات الماضية، والاستفادة منها في رسم سيناريوهات نموها في المدى القصير. وهنا أيضاً، أهو تقصير أم جهل من جانب معدي التقرير؟
لم يذكر التقرير، في نسخته العربية المترجمة، عدد شركات التأمين العاملة في العراق التي صارت تقرب من ثلاثين شركة (عدد الشركات في النسخة الإنجليزية 23 شركة). أما “أقساط التأمين المسجلة”، سواء ما تعلق منها بأقساط شركات التأمين الخاصة أو شركات التأمين المملوكة للدولة، فهي من نتاج الخيال أو قائمة على افتراضات غير مدروسة وغير واقعية، ولا علاقة لها بواقع النشاط التأميني والإنتاج الحقيقي لأعمال التأمين.
في دراسة لم تنشر بعد بعنوان “ملامح من محنة قطاع التأمين العراقي” (كانون الأول 2011) ذكرنا ما يلي عن أقساط التأمين المكتتبة:
وإذا كانت شركة التأمين الوطنية، شركة عامة، هي الأقدم والأغنى بين شركات التأمين العراقية الأخرى العامة والخاصة قد حققت دخلا بلغ 60,561,538 ألف دينار عراقي سنة 2010[iii] (ما يعادل 51,761,998 دولار أمريكي، بضمنه 11,030,013 دولار يمثل صندوق التأمين الإلزامي، البحري-هياكل، الطيران، السيارات التكميلي، الزراعي، الحياة، فردي وجماعي، ترانزيت وإعادة تأمين وارد) فالدخل المتحقق لدى الشركات الأخرى أقل بكثير منه. فقد بلغ مجموع دخل أقساط إحدى شركات التأمين الخاصة، النشطة، سنة 2010، ما يزيد قليلاً عن مليار ونصف المليار دينار عراقي.[iv] وحسب معطيات شركة إعادة التأمين العراقية بلغ دخل الأقساط المكتتبة سنة 2010 للشركات 8,463,031,129 دينار (ما يعادل 7,233,356 دولار أمريكي) في فروع الحريق، والحوادث العامة، والهندسي والبحري-بضائع، في حين اكتتبت شركة التأمين الوطنية لوحدها في تلك السنة ٍ16,047,835 دولار. وهكذا نرى كم هي ضئيلة نسبة دخل التأمين إلى الموازنة فهي بحدود 0.022%.
ترى لماذا أهمل معدو التقرير مثل هذه البيانات المتوفرة خاصة وأن أحدهم قابل مدير عام شركة التأمين الوطنية العامة؟
القول بأن “إعادة التأمين غير منتشرة بصورة كبيرة” كلام فضفاض. ترى هل المقصود به أن شركات التأمين المباشر لا تشتري حماية إعادة التأمين الاتفاقي والاختياري أم أنه افتئات على شركات التأمين العراقية؟ كيف يستقيم هذا القول مع ذكر شركة إعادة التأمين العراقية كواحدة من الشركات المملوكة للدولة المهيمنة على قطاع التأمين؟ (ص 67 من التقرير).
ويذكر التقرير أن “أقساط إعادة التأمين تساوي 16-25% من إجمالي أقساط التأمين المسجلة” دون أن يعرف القارئ إن كانت هذه النسبة تمثل أقساط إعادة التأمين التي تمر من خلال شركة إعادة التأمين العراقية إلى شركات إعادة التأمين العالمية أو تمثل هذه الأقساط مضافاً إليها أقساط إعادة التأمين الاختياري التي تحولها شركات التأمين المباشر إلى هذه الأسواق لشراء الحماية المطلوبة.
ربما يكون السبب وراء القول بعدم انتشار إعادة التأمين بصورة كبيرة هو الرغبة الدفينة في تحويل شركات التأمين العراقية إلى شركات واجهة تقوم بإصدار وثائق التأمين للشركات الأجنبية العاملة في العراق، والنفطية منها بشكل خاص، لقاء قسط بسيط (هو في الواقع أجر لقاء خدمة)، ودون الاستفادة من اتفاقيات إعادة التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية. بهذا المعنى فإن انتشار إعادة التأمين مقيّد، وهذا يحرم شركات التأمين العراقية من تطوير قدراتها الاكتتابية فنياً ومالياً وهي الخاسر الأكبر في علاقة غير متكافئة مع الشركات الأجنبية.
لا يقدم لنا التقرير سبباً لمحدودية إنتاج التأمين: إرث سنوات العقوبات الأممية (1990-2003)، حروب النظام والغزو والاحتلال وما ترتب عليه من تفكيك وتحطيم للبنى الارتكازية، واقتتال طائفي، وغياب للأمن، تدهور الطبقة الوسطى وقلة الدخل المتوفر للإنفاق على التأمين، والدور التخريبي لقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 (الأمر رقم 10) في توفير الغطاء القانوني لتسريب أقساط التأمين إلى الخارج، واشتراطات الشركات الأجنبية العالمية العاملة في العراق والنفطية بوجه خاص على شركات التأمين العراقية، الخاصة والمملوكة للدولة، بعدم الاحتفاظ بأقساط التأمين أو بحدودها الدنيا ولصالح شركات التأمين المقبوضة وشركات إعادة التأمين الدولية. وغيرها من أسباب لتفسير ضعف الطلب للحماية التأمينية.
هيمنة شركات التأمين المملوكة للدولة ومشروع خصخصتها
قول الدكتور الحافظ ان “قطاع التأمين .. يخضع لهيمنة مؤسسات تابعة للدولة” يقوم على ما جاء في التمهيد للتقرير حول النتائج الرئيسية للدراسة. فبالنسبة لقطاع التأمين، كان الاستنتاج أن هذا القطاع “صغير تهيمن عليه الشركات المملوكة للدولة وغير خاضع للرقابة.” (ص vii). وجاء بعض التفصيل في ص 67:
تهيمن شركات التأمين المملوكة للدولة على هذا القطاع. وسبب هيمنة شركات التأمين الثلاث المملوكة للدولة (شركة التأمين الوطنية العراقية، شركة التأمين العراقية، الشركة العراقية لإعادة التأمين) يعود إلى أن كل أو معظم العقود الحكومية لخدمات التأمين يتم منحها لشركات التأمين المملوكة للدولة. وعلى الرغم من أن المادة 81 من قانون تنظيم شركات التأمين تقضي بأن العقود الحكومية للتأمين يتم الحصول عليها من خلال مناقصة (منافسة) عامة، يتم فيها السماح لجميع شركات التأمين المرخصة بالمشاركة، ولكن المفهوم السائد هو أن شركات التأمين المملوكة للحكومة يتم منحها عادةً عقود التأمين الحكومية.
شركات التأمين الخاصة لها مشاكلها بعضها ناشئ عن ضعف قاعدة رأس المال والاحتياطيات المالية والكوادر المدربة وغيرها وصغر حجم دخل الأقساط المكتتبة. بعضها يتشكى من غياب الرعاية الحكومية لها بدلاً من تأكيد وجودها الفاعل في السوق القائم على التنافس. وتتشكى أيضاً من حصر تأمين منشآت الدولة ومؤسساتها، وكذلك عقود شركات النفط الأجنبية، لدى شركات التأمين العامة. ولها الحق في ذلك لأنه يتعارض مع متطلبات التنافس، ومع أحكام المادة 81 – ثالثاً من قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 التي نصت على ما يلي:
يجري التامين على الاموال العامة والاخطار التي ترغب الوزارات او دوائر الدولة في التامين ضدها بالمناقصة العلنية وفقا لأحكام القانون ولجميع المؤمنين المجازين في العراق حق الاشتراك فيها.
وقد تدخل ديوان التأمين العراقي من خلال مخاطبة شركات النفط العراقية، الشريكة لشركات النفط الأجنبية، لضمان التزامها بأحكام قانون تنظيم أعمال التأمين. وبهذا أصبح التأمين على عقود جولة التراخيص النفطية مفتوحة لجميع شركات التأمين الأعضاء في الديوان. لكن الفرق بين شركات التأمين الخاصة والعامة يظل قائماً فيما يخص دخل أقساط التأمين وحجم رأس المال وعدد الموظفين والمهارات الفنية المتوفرة وهو يميل لصالح الشركات العامة، بفضل متانتها المالية أساساً، لكن عدداً قليلاً جداً من الشركات الخاصة تتمتع بكفاءة متميزة في إدارة أعمالها. ولعل المنافسة في تقديم الخدمات، وليس الأسعار، بين الشركات الخاصة والعامة كفيلة بالكشف عن ضعف بنيوي لشركات تأمين خاصة لا تتوفر على عناصر تعينها على نمو حقيقي في حجم أعمالها. التركيز “البازاري” لبعض هذه الشركات على الاكتتاب بأسعار غير فنية، للحصول على الأعمال، يخدمها في الأمد القريب لكنه لا يساهم في بناء سوق متين للتأمين.
من المفارقات أن شركات التأمين الخاصة تتشكى من هيمنة شركتي التأمين المملوكتين للدولة (تنتجان 80% من أقساط التأمين) لكنها تطلب دعماً من الحكومة لتعزيز مكانتها في السوق – أي تطلب من الحكومة أن تحتضنها كي تنجح في المنافسة السوقية! ووعدا ذلك لم تقم هذه الشركات بدراسات معمقة، ولم تثابر في تعزيز الجهد الجماعي للضغط على صانعي القرار، وفضح الممارسات الضارة لدى طالبي التأمين ولدى شركات التأمين ذاتها.
ويعزي التقرير بطء نمو سوق التأمين إلى هيمنة شركات التأمين الحكومية (ص 68) دون توضيح العلاقة السببية بين بطء النمو والهيمنة، ويكتفي، بعد الفقرة التي اقتبسناها أعلاه عن هيمنة الشركات المملوكة للدولة، باستنتاج غير منطقي وغير مؤسس على وقائع وأرقام فيما يخص العراق، بهذا الزعم:
اتضح أن هيمنة شركات التأمين الحكومية أبطأت من نمو سوق التأمين، ولذا من أجل أن ينمو سوق قطاع شركات التأمين بالسرعة الطبيعية، يجب التفكير في خصخصة شركات التأمين المملوكة للدولة.
بيت القصيد هو الخصخصة بغض النظر عن ضرورته من عدمه فيما يخص شركات التأمين المملوكة للدولة العراقية. وبهذا الشأن نقتبس هنا مطولاً من دراسة حديثة لنا تلقي بعض الضوء على مطلب الخصخصة.[v]
نُقرٌّ أن إيقاع العصر يستدعي التغيير والتعامل مع الضرورات والشروط المستجدة ولكن شريطة أن يكون التعامل من منظور تأسيس اقتصاد “رأسمالي” مُنتج يحافظ على المصالح الوطنية. ويقتضي ذلك إعادة تعريف الوظيفة الاقتصادية للدولة للتحول من الاقتصاد الريعي، وتقويض طفيلية القوى السياسية الماسكة بمقاليد السلطة (سلطة المال من خلال الريع والفساد والإفساد وسلطة السياسة من خلال التمثيل البرلماني وكذلك سلطة الأمن). وهي ذات القوى التي قزّمت الدولة، ككيان محايد، من خلال إقحام المحاصصة في بناء مؤسساتها.
وبالنسبة لقطاع التأمين فإن
“نشاط التأمين سيبقى مرتبطاً بالدرجة الأولى بمقدار التطور الاقتصادي المحلي بصورة عامة، وما يتبعه من تطور في قطاع البنوك كمصدر لتمويل الاستثمار وكوسيط في النشاط التجاري بصورة خاصة. وفي الحالتين، فإن التوقعات تعتمد بالدرجة الأساسية على مقدار النجاح المحقق في إحداث التغيير الاقتصادي الجذري (الاستراتيجية والسياسات وإقامة البنية الأساسية المادية والاجتماعية والبيئية العامة) وليس فقط تحقيق زيادة في الإيرادات النفطية. ومن واقع التطورات الراهنة والمحتملة في المدى القريب، فإن من المستبعد أن تزداد فعاليات التأمين على المستوى الكلي كما يتمثل في نسبة حجم أقساط التأمين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع كثافة سوق التأمين، كما في معدل إنفاق الفرد على التأمين كالذي تظهره ميزانية الأسرة.”[vi]
اعتماداً على هذه الرؤية هل ستساعد إعادة هيكلة شركات التأمين في زيادة دور هذه الشركات ضمن الاقتصاد المُنتج؟ وهل هي فقرة من مشروع تقليص الاعتماد على الموارد الريعية أم انها واحدة من الإجراءات غير المنتظمة في رؤية متكاملة لتوجيه الاقتصاد العراقي (كما هو الحال مع رأسمالي ما بعد 2003، من العرب والكرد، ممن يعملون في أكثر من مجال دون أن يكون لديهم رؤية لتحقيق التكامل بين هذه المجالات؟ وذات التفكير ينطبق على سياسات القوى السياسية الحاكمة). البديل المرتجى هو المشروع الوطني المتكامل للتنمية القائم على إعادة النظر في توزيع الريع النفطي، وتحديداً تقليص الاعتماد عليه والذي من شأنه أن يحدد معالم السياسات الاقتصادية التفصيلية التي تصب في المشروع. وخلاف ذلك سيسود الاستغراق في الجزئيات كما هو حال الرأسماليين الجدد.
لنلاحظ أن الريع النفطي الذي يتكدس لدى المصرف المركزي العراقي (وقد بلغ الآن، آب 2011، 58 بليون دولار) لا يمثل دخلاً لقوة عمل المنتجين أو الفائض المتحقق للرأسماليين لقاء تشغيلهم لاستثماراتهم الإنتاجية أو الضرائب التي يدفعونها لخزينة الدولة. هو ليس إلا إيرادات النفط الخام المُصدر. ولأن استقلال المصرف المركزي له الأولية العظمى، كما رسمها مستشارو بول بريمر، انحسر وبالأحرى ألغي دور المصرف في المساهمة في التنمية الاقتصادية وما يترتب عليها من دور لقطاع التأمين. هو الآن ليس إلا حارساً للإيرادات النفطية ولا دور له في التنمية الاقتصادية. وقد كتبنا في مكان آخر:[vii]
“أن الهوس بالسياسة النقدية، كما يمارسها المصرف المركزي، لا يساعد في إعطاء دفعة لبدء عملية النمو الاقتصادي. فتركيز السياسة على احتواء التضخم من خلال رفع القيمة التبادلية للدينار العراقي مع الدولار الأمريكي لم يؤدي إلى النتيجة المطلوبة في الوقت الذي تم فيه زيادة أسعار المحروقات وتأثيرها المتنامي على أسعار السلع والخدمات. وبدلا من أن يكون عاملا فاعلا في التنمية الاقتصادية تم إعادة تكييف المصرف المركزي على أسس نيوليبرالية:[viii] التأكيد على استقلالية المصرف (لإلغاء أي دور للمصرف في تمويل الحكومة أو تمويل العجز)، الحد من التضخم (لتحويل أنظار المصرف من الاهتمام بأهداف أخرى كالمساهمة في تحقيق استخدام كامل للعمالة، ودعم السياسة الصناعية أو تخصيص الاعتمادات لقطاعات اجتماعية معينة كالإسكان والتطبيق غير المباشر للأدوات النقدية (معدلات الفائدة للمدى القصير).”
إن لم يكن تجاوز الريع هو المطلوب فقد تكون إعادة الهيكلة من الخطوات المطلوبة لدخول العراق كعضو في منظمة التجارة العالمية من خلال التمهيد لرفع القيود والضوابط ومنها (بالنسبة لشركات التأمين): التخلي عن إلزامية إسناد حصة من الأخطار لشركة الإعادة الوطنية (وبالنسبة للعراق فإن الحصة الإلزامية قد ألغيت أواخر ثمانينيات القرن الماضي)، وإلغاء تعرفات الأسعار (ولكن ليس هناك تعرفات حقاً في العراق)، والسماح للشركات الأجنبية للمساهمة بكامل رأسمال الشركات – أي دون الحاجة لشراكة عراقية. هناك شركات تأمين خاصة يساهم فيها رأس المال العربي والأجنبي.
هل تقتضي إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي خصخصة شركات التأمين العامة بعد أن فقدت هذه الشركات سنة 1997 موقعها الاحتكاري الذي كان مفروضاً بقوة القانون. كانت هذه الشركات حتى ذلك الوقت، وبالأصح منذ سنة 2000 عندما تأسست أول شركة تأمين خاصة، تتمتع بريع داخلي بفضل التحكم في منافذ التوزيع أو قل احتكار هذه المنافذ. ولا يزال بعض من هذا التحكم قائماً فيما يخص إدارة تعويضات التأمين الإلزامي إذ ليس لشركات التأمين الخاصة دور في هذا المجال، ولها الحق في المشاركة مما يتطلب مراجعة لقانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات لسنة 1980 وتعديلاته.
قد تكون إعادة الهيكلة من متطلبات التحديث كي يكون السوق العراقي على مستوى أسواق التأمين الأخرى في العالم العربي. وهذا يتناغم أيضاً مع شروط صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي – إخراجه من الإرادوية في تسيير الاقتصاد الوطني وإخضاعه لقوى السوق. لكن هذا التبرير ضعيف ولا ينهض به واقع سوق التأمين العراقي في الوقت الحاضر فالمنافسة بين الشركات العامة والخاصة قائمة، والسوق يخضع لقوى العرض والطلب خاصة بعد أن أكد ديوان التأمين العراقي على الشركات النفطية الالتزام بأحكام قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 في استدراج عروض التأمين من جميع شركات التأمين العراقية من خلال المناقصات. وكان عدم الالتزام بالأحكام موضوع مساءلة وانتقاد من قبل شركات التأمين الخاصة.
لكن التحديث مطلوب بحد ذاته لمواكبة التغيرات الحاصلة في العالم دون أن يتطلب ذلك خصخصة شركات التأمين العامة. وقد رصدنا بعض ملامح التحديث في دراسة سابقة لنا[ix] نقتطف منها العناوين الفرعية التالية مع القليل من التعليق:
الإطار القانوني – إعادة النظر بقانون تنظيم أعمال التأمين اسمة 2005.
الإطار التنظيمي – تنظيم الهيكل الهرمي والشفافية والمساءلة، إضافة إلى أمور أخرى، تنطبق على الشركات الخاصة والعامة على حد سواء.
سياسة الاستخدام.
الاستقلال المالي لشركات التأمين العامة – تحقيق استقلال ذاتي مالي حقيقي للشركات لتعمل دون الرجوع إلى وزارة المالية في أمور صغيرة وكبيرة على حد سواء.
المهارات اللغوية والتدريب المستمر.
تكنولوجيا المعلومات – إدخال واستعمال تكنولوجيا المعلومات بشكل واسع (information technology) يمثل الشكل الأكثر وضوحاً لعملية تحديث قطاع التأمين.
الأغطية التأمينية – مراجعة وثائق التأمين وإعادة صياغتها لتكون سهلة الفهم على المؤمن لهم وتتماشى في نطاق تغطيتها مع ما هو متوفر في أسواق التأمين المتقدمة.
التعامل مع جمهور المؤمن لهم – التخفيف من البيروقراطية الثقيلة في التعامل مع المؤمن لهم لتعزيز الثقة بالفائدة المرجوة من الحماية التأمينية.
ويتطلب تحديث التعامل مع المؤمن لهم إيجاد دائرة مظالم لهم يمكنهم من الرجوع إليها في حالات التجاوز والاختلاف والإهمال من قبل شركات التأمين.
ومن الوسائل الأخرى لتعزيز ثقة الجمهور وكذلك الالتزام بالمعيار الأخلاقي والفني للعمل إصدار مدونة لقواعد السلوك code of conduct لقطاع التأمين برمته لتكون شركات التأمين خاضعة للمساءلة بموجبها.
تعزيز التغلغل التأميني والكثافة التأمينية – وهما معياران لقياس مساهمة قطاع التأمين في الاقتصاد الوطني.
ربما يكون التبرير تحرير الدولة من أعباء كونها أكبر رب عمل. وهو صحيح وآخذ بالتضخم بفضل سياسة تكريس المحاصصة الاثنية والطائفية بإقحام المزيد من الموظفين في مؤسسات الدولة حتى ولو بشهادات مزورة. لكن شركات التأمين العامة، رغم أنها توظف ما يزيد عن الف وخمسمائة موظف إلا أن هؤلاء لا يشكلون أي عبء على خزينة الدولة لأن الشركات تحقق فائضاً يكفي لتمويل الرواتب والمصاريف الأخرى زيادة عن تمويل الخزينة بأرباحها ورسم الطابع ولها استثماراتها العقارية وغيرها.
لقد شهد قطاع التأمين تدهوراً كبيراً بسبب الحروب والعقوبات الدولية افقدته الموارد المالية والبشرية للتحديث من الداخل. هل لذلك صار التوجه نحو إعادة الهيكلة واستدراج الشركات الأجنبية، وهو ما تشجع عليه الحكومات العراقية، هو الحل للنهوض من الواقع الراكد؟ أي أن إعادة الهيكلة ضرورية لإدخال التكنولوجيا (المعرفة الجماعية عن كيفية إنتاج السلع والخدمات بأسوب أكثر كفاءة) وتحسين نوعية الخدمات المقدمة للمستهلك، حتى إذا تطلب الإصلاح إزاحة المُنتِج، الرأسمالي، الوطني، كما هو حاصل في قطاع النفط من خلال تقزيم دور شركة النفط الوطنية المرتجاة وحصر دور الرأسمال الوطني في أعمال هندسية صغيرة.
مناصرو القطاع الخاص يؤكدون على ريادية القطاع في ابتكار المنتجات وتعظيم الانتاج ورفع كفاءته. لكن شركات التأمين الخاصة، التي تأسست بموجب قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997، لم تقدم حتى الآن لسوق التأمين العراقي ما يشهد على مثل هذه الريادية.
هل الوصول إلى تأمين أعمال مؤسسات الدولة هي ما ترغب به هذه الشركات؟ هي حقاً تريد ذلك دون أن تدعو إلى خصخصة شركات التأمين المملوكة للدولة، فهي قادرة على التعايش معها لا بل ان الشركات الخاصة تستمد شيئاً من قدرتها الاكتتابية من خلال اتفاقيات إعادة التأمين التي تديرها شركة إعادة التأمين العراقية المملوكة للدولة. وما استمرار هذه الاتفاقيات وتحسين شروطها سنوياً إلا بفضل دخل أقساط التأمين التي تكتتب بها شركة التأمين الوطنية والشركة العراقية للتأمين. وكذا الأمر بالنسبة لمجمعات التأمين المشتركة بين الشركات الخاصة والعامة.
مجرد تحويل أقساط تأمين أعمال الدولة من شركات التأمين العامة إلى شركات التأمين الخاصة لا يستلزم بالضرورة نمو أقساط التأمين فالطلب على الحماية التأمينية لا يتحدد بعدد شركات التأمين أو بملكية هذه الشركات. هناك عوامل اقتصادية واجتماعية وأخرى قانونية تؤثر على مستوى الطلب. وبعد أن تحقق مطلب المساواة في التنافس مع الشركات المملوكة للدولة لِمَ لا تعمل شركات القطاع الخاص على تطوير الانتاج خارج أعمال الدولة؟
الخصخصة ليست عصا سحرية لحل مشاكل شركات التأمين الخاصة أو زيادة إنتاج أقساط التأمين. علينا البحث عن أسباب أخرى وراء عدم التطور السريع لشركات القطاع الخاص ونمو حجم أقساط التأمين المكتتبة لجميع الشركات.
من المغالطات الفجة في تقرير البنك الدولي أنه
لا يوجد تأمين إجباري، والتأمين الإجباري على السيارات شائع جداً في العالم كله، تماماً مثل الأشكال الأخرى من التأمين الإجباري مثل التأمين على العمال ضد الإصابات والحوادث في مكان العمل، ولكن لم يتم إنشاء تأمين إجباري في العراق. يجب تطوير التأمين الإجباري على السيارات لكي يوفر حماية للأشخاص المصابين في حوادث السيارات. بمجرد سريان التأمين الإجباري على السيارات، فسوف يكون خطوة هامة لمساعدة قطاع التأمين على النمو.
هذا الكلام فيه إساءة لذكاء ممارسي التأمين في العراق وإغفال أو جهل مفرط من خبراء البنك الدولي بقوانين التأمين الإلزامي على حوادث السيارات في العراق التي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي (قانون التأمين الإلزامي من المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات رقم 205 لسنة 1964) وتتوجت بإصدار القانون رقم 52 لسنة 1980 (قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات) وتعديلاته.
غياب الرقابة المطلوبة على النشاط التأميني
جاء في التمهيد للتقرير أن النتائج الرئيسية، بالنسبة لقطاع التأمين، أن هذا القطاع “صغير تهيمن عليه الشركات المملوكة للدولة وغير خاضع للرقابة.” (ص vii)
لنا أن ننقد ديوان التأمين العراقي وقانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وقد قمنا بذلك في العديد من دراساتنا المنشورة في مجلة التأمين العراقي، ومجلة الثقافة الجديدة وفي مراسلات مع أركان التأمين في العراق. كما كتب زملاء لنا في العراق عن ذات الموضوع وكتاباتهم منشورة في مجلة التأمين العراقي ومرصد التأمين العراقي وبعض كتاباتهم كانت بصيغة خطابات موجهة للديوان ووزارة المالية التي لم تحظ بالاهتمام. ولكن لم يجر الانتباه إلى أيٍ من هذه الكتابات واكتفى معدو التقرير بلقاء مع مدير عام شركة التأمين الوطنية، السيد صادق فاضل عليوي، وربما آخرين في سوق التأمين العراقي لم يرد اسمهم في صفحة الشكر والتقدير في التقرير (ص xi).[x]
انتقد معدو التقرير قانون تنظيم أعمال التأمين والديوان وجمعية شركات التأمين إلا أنهم لم يذكروا أن القانون والمؤسسات التي تمخضت عنه هو من صنع أمريكي قام بتحرير مسودته مفوض التأمين في ولاية أركنساس لحساب شركة بيرنغ بوينت المُعينة من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. والقول أن قطاع التأمين ليس خاضعاً للرقابة بحاجة إلى تكييف. الديوان ضعيف في رئاسته وطاقمه الوظيفي. فمنذ سنوات والديوان يُدار من رئيس بالوكالة، بعدما هرب الرئيس الأول من العراق خوفاً على حياته، ربما لأن الرئاسة يخضع لبازار المحاصصة وتجاذباته. تابعية الديوان لوزارة المالية يشل من إرادة رئيسها بالوكالة لتنفيذ مهامه في استخدام الكوادر وتفعيل الرقابة ولو عن بُعد (الرقابة الموقعية ليست مقررة في القانون). ومع هذا أصدر الديوان مجموعة من التعليمات تنفيذاً لبعض أحكام القانون.
وإذا كان لنا أن نفرد نقداً أساسياً للديوان، من غير ما أتى تقرير البنك الدولي على ذكره اعتماداً على المبادئ الأساسية للهيئة الدولية للمشرفين على أعمال التأمين، فهو فشله في تعديل العيب الأساسي في قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 وهو السماح المضمر فيه لتجاوز إجراء التأمين مع شركات تأمين عراقية. وهذا السكوت عن التأمين مع هذه الشركات يفسر تدني أقساط التأمين المكتتبة.[xi]
غياب الرقابة المطلوبة على النشاط التأميني صورة خاصة من حالة عامة تنطبق على جميع مجالات الحياة في العراق ومنها النفط الخام المصدر والمهرب.
تقييم عام
مما يؤسف له أن الدكتور الحافظ لم يتقدم بموقف نقدي خاص به واكتفي بترديد ما جاء في تقرير البنك الدولي تجاه قطاع التأمين خاصة وأنه من بين القليل من الاقتصاديين الذين يتابعون الشؤون الاقتصادية بدقة معرفية وتجربة عملية.
لا نشارك الدكتور الحافظ حماسته بأن دراسة البنك الدولي «تأتي في وقت حساس للغاية بالنسبة إلى تطوير الحياة الاقتصادية في البلاد، وتقدم مساهمة كبيرة لجعل القطاع المالي في جميع اركانه عنصراً مشجّعاً للتغلب على الصعوبات التي تواجه الاقتصاد». لقد كان الوقت الممتد منذ الغزو الأمريكي حتى اليوم حساساً في “تطوير الحياة الاقتصادية” وغيرها من مجالات الحياة فيما يخص المصالح العامة للناس، وإدارة الموارد الريعية صوب تنمية الاقتصاد وليس مجرد مراكمة الأرقام عن النمو و”الإنجازات” غير المترابطة. وقد فشل المشروع الأمريكي ومن يمثله في العراق في التغلب على الصعوبات، الموروثة والجديدة، التي تواجه الاقتصاد. وفيما يخص ركن التأمين فإنه لن يكون “عنصراً مشجّعاً للتغلب على الصعوبات التي تواجه الاقتصاد” إن هو ظل على حاله أسيراً لفوضى التنافس المُقامِر من قبل العديد من دكاكين (عفواً شركات) التأمين والغطاء القانوني لتسريب أقساط التأمين خارج العراق.
لنكرر هنا ما ثبتناه في مكان آخر:
لا نأتي بجديد في القول ان الاقتصاد وكذلك النشاط التأميني المرتبط به يخضع للتغير إلا أنه في المرحلة الحالية لا يتمتع بالدينامية الكافية لتحقيق نقلة نوعية كتجاوز طبيعته الريعية ليحتل القطاع المالي (المصرفي والتأميني كمثال) مكانة أكبر في التنمية الاقتصادية. هذا الوضع يعكس غياب الرؤية الاقتصادية والسياسات الموجهة مثلما يعكس حالة “الحصار” غير المعلنة على نشاط القطاع: قوانين وعقود غير ملائمة (قوانين التأمين والاستثمار وشروط التأمين في عقود الدولة)، ضعف الحماية الإعادية، غياب سياسة تأمينية وطنية، يضاف لها هشاشة الثقافة التأمينية على المستوى المؤسسي والشعبي.[xii]
لندن 9 كانون الأول 2012
http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=50803&spell=0&highlight=%E3%D5%C8%C7%CD+%DF%E3%C7%E1
نشرناها بعد ذلك في مرصد التأمين العراقي:
Stagnation of Iraq’s Insurance Market
Rodney Lester, The Insurance Sector in the Middle East and North Africa Region: Challenges and Development Agenda, World Bank, November 2010.
http://iraqinsurance.wordpress.com/2011/11/10/stagnation-of-iraqs-insurance-market/
نشرت بتلخيص في جريدة المدى بتاريخ 11 تشرين الأول 2010:
http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=50803&spell=0&highlight=%E3%D5%C8%C7%CD+%DF%E3%C7%E1
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية