لعل من أهم القوانين التي شرعها المدير الإداري لسلطة التحالف المؤقتة بول بريمر في إطار تنظيم الحياة المالية والاقتصادية للعراق هما قانون البنك المركزي العراقي رقم ( 56) لسنة 2004 وقانون المصارف العراقي رقم ( 94 ) لسنة 2004 .
وما يهمنا ونتناوله هنا هو قانون البنك المركزي العراقي الذي نرى انه جاء وفقا لأسس اقتصادية ومالية رصينة أخذت بها معظم الدول المتقدمة منها والنامية وهي ضرورة جعل السياسة النقدية مستقلة عن السياسة المالية وبالتالي عن ضغوطات السلطة التنفيذية وذلك إدراكا لحقيقة ان لكل من السياستين أولوياتها ووجهة نظرها ولا نقول تناقضاتهما أوتعارضهما اذ الأصل ان تصب السياستان معا في بوتقة واحدة وهي التطور الاقتصادي وتوفير ظروف التنمية المستدامة والاستقرار النقدي والحفاظ على استقرار أسعار الصرف وتجنب مخاطر التضخم التي إذا استفحلت فقد تطيح بالسياسات الاقتصادية عموما .
فللسياسة المالية أولوياتها من حيث التوسع في مستويات وأوجه الإنفاق العام لاعتبارات قد يكون في طليعتها عوامل سياسية في وقت تتراجع فيه المعايير الاقتصادية الى الخلف ، وليس من شك ان يكون لهذه السياسة المالية التوسعية اثار سلبية على مجمل العملية الاقتصادية وهنا يأتي دور السياسة النقدية بانتهاج سياسة نقدية وإجراءات تكميلية تخفف من الآثار السلبية للسياسة المالية التوسعية .
ومن هنا فقد جاء قانون البنك المركزي ، موضوع مقالتنا هذه، بمبادئ وقواعد تختلف عن مبادئ وفلسفة قانون البنك المركزي السابق رقم (76) لسنة 1976 وليس من شك ان هذا الاختلاف لم يأت عبثا او بدون مبررات موضوعية ولم يأت مصادفة وغني عن القول ان لسياسة الانفتاح والحرية الاقتصادية التي اعتمدها العراق بعد إسقاط النظام الدكتاتوري دورها هي الأخرى في إقرار المبادئ والقواعد التي جاء بها قانون البنك المركزي الجديد .
وما بهمنا من هذه المبادئ والقواعد تلك التي جاءت مختلفة في القانون الجديد عن سلفه والتي تعزز استقلالية البنك المركزي وهي :
اولا – تعيين المحافظ ونائبيه والمناصب الرئيسة فيه :
في القانون الجديد تتولى سلطة التعيين ، وهي هنا رئاسة الوزارة ، ترشيح المحافظ ونائبيه إلى مجلس النواب الذي له الحق في إقرار او رفض هذا الترشيح وبالتالي فأن المحافظ يكون
مسئولا أمام مجلس النواب وليس أمام مجلس الوزراء ولمجلس النواب مساءلة المحافظ وعزله إن رأى ذلك .
اما في القانون السابق فان المحافظ ونائبيه يعينون بمرسوم جمهوري ( المادة الثامنة عشرة).
ثانيا – استقلالية السياسة النقدية
فلقد نصت المادة (19-2) من القانون الساري المفعول على ان القرارات التي يصدرها مجلس ادارة البنك المركزي تصبح سارية المفعول فور صدورها وهذا دليل ساطع على استقلالية البنك المركزي ، في حين اشترط القانون السابق عرض القرارات التي تتعلق بالسياسة النقدية والائتمانية على وزير المالية ليرى رأيه فيها وله ان يعيد ما لا يراه متفقا معه الى مجلس إدارة البنك لإعادة النظر فإذا أصر الأخير على موقفه يعرض الموضوع على مجلس الوزراء للبت في الأمر( المادة الرابعة عشرة) .
وفي القانون الجديد ثمة دليل آخر على نية المشرع تعزيز استقلالية البنك المركزي هو خلو
مجلس الإدارة من ممثل لوزارة المالية إذ يتشكل هذا المجلس من المحافظ ونائبيه وثلاثة من
كبار المديرين في البنك وثلاثة إفراد ممن لديهم الخبرة المالية والمصرفية والقانونية المناسبة (
المادة 11) في حين إن مجلس ادارة البنك في القانون الملغي كان يضم ممثلا عن وزارة المالية
لا تقل درجته عن مدير عام ( المادة الثامنة) .
ثالثا – إقراض الحكومة
فلقد حظر القانون الحالي على البنك المركزي منح أية ائتمانات مباشرة او غير مباشرة للحكومة أو لأية هيئة عامة أوجهة مملوكة للدولة (المادة 26-1 ) ، وذلك على النقيض من القانون السابق الذي أجاز منح الحكومة سلفا مؤقتة لتغطية عجز مؤقت في الميزانية الاعتيادية علن أن لا تتجاوز هذه السلف 15% من أجمالي الإيرادات المخمنة للميزانية الاعتيادية ( المادة الحادية والعشرون )
ان القول باستقلال البنك المركزي عن الحكومة لا يعني انه يعمل بمعزل عن الدولة ولا يلتزم بفلسفتها وتوجهاتها العامة بل العكس فهو جزء من المنظومة الحكومية يتأثر بسياساتها ويؤثر فيها ويراقب التطورات المالية والاقتصادية ويتصرف إزاءها بحدود صلاحياته ومسؤولياته وليس أدل على ذلك من السياسة التي انتهجها البنك المركزي لكبح جماح الضغوط التضخمية الحادة التي شهدها الاقتصاد العراقي منذ نهاية عام 2005 واستمرت لبضع سنوات لاحقة إذ شرع باعتماد سياسة نقدية انكماشية تستهدف تقليص عرض النقد وتقليص حجم الائتمان وذلك برفع أسعار الفائدة ورفع نسبة الاحتياطي النقدي
Legal Reserve Requirement فضلا عن فتح نافذة الاستثمار للمصارف التجارية لديه لآجال مختلفة ونرى انه كان لسياسة البنك المركزي الأثر الأبرز بخفض معدلات التضخم تلك وذلك بالتضافر مع عوامل أخرى، لكي لا نغمط حق الآخرين ، كان لها دورها أيضا ولعل من أهمها إنهاء أزمة الوقود والنجاحات الأمنية النسبية التي تحققت .
وعندما بدأت السياسة النقدية الانكماشية تؤتي أؤكلها شرع البنك المركزي بتخفيف حدة تلك الإجراءات وبدأ بتخفيض أسعار الفائدة تدريجيا وتخفيض نسبة الاحتياطي النقدي ، ولقد حافظ البنك المركزي على سياسته هذه حتى أمكن احتواء الضغوط التضخمية وتراجعها الى مستويات مقبولة .
ولابد لنا هنا ان نعرج على نفي الأمين العام لمجلس الوزراء السيد علي العلاق من أن الحكومة طلبت ربط البنك المركزي بها أو أنها تستهدف إضعاف استقلاليته موضحا ان السياسات العامة للدولة هي من اختصاصات الحكومة الاتحادية وان السياسة النقدية جزء من السياسة الاقتصادية .
وأضاف السيد الأمين العام لمجلس الوزراء ” أن تقارير ديوان الرقابة المالية أشرت ضعف رقابة البنك المركزي على عمليات التحويل الخارجي ووجود عمليات وهمية تنطوي على تهريب منظم للأموال ” .
وهنا لابد من ملاحظة التناقض في تصريح السيد الأمين العام لمجلس الوزراء فهو يقول ان السياسة النقدية هي جزء من السياسة الاقتصادية التي هي جزء من السياسة العامة للدولة وهذه من اختصاصات الحكومة الاتحادية ولاشك ان المآل الوحيد لهذا التسلسل هو ربط السياسة النقدية بالحكومة المركزية وينفي بذات الوقت ان تكون الحكومة قد طلبت ربط البنك المركزي بها وهذا في رأينا ينطوي على تناقض واضح إذ أنه لا يعني في واقع الأمر غير ربط السياسة النقدية بالحكومة المركزية وهو أمر يتعارض كليا مع قانون البنك ويتعارض مع قرار المحكمة الاتحادية .
إن تنسيق العمل بين الحكومة الاتحادية والبنك المركزي قائم من خلال وجود البنك المركزي في اللجنة الاقتصادية لمجلس الوزراء ولا نجد ما يمنع من فتح قنوات أخرى لهذا التنسيق .
يشير السيد الأمين العام الى ضعف رقابة البنك المركزي على عمليات التحويل الخارجي أي وجود ضعف في الأداء وهو بهذا يسعى إلى إيجاد المبررات لطلب ربط البنك المركزي وبالتالي السياسة النقدية بالحكومة الاتحادية لإصلاح هذا الخلل ومعالجته . وإذا افترضنا جدلا إن هناك ضعفا في الأداء فهل يرى السيد الأمين العام إن إصلاح شأن البنك المركزي وهو مؤسسة مستقلة بموجب القانون ، لا يتحقق إلا بإنهاء استقلالها وربطها بالحكومة الاتحادية , وإذا كان هذا سبيل الدولة الجديد لتصحيح أداء المؤسسات فهل نربط مجلس النواب ،الذي يتفق الجميع على ضعف أدائه كما يعرف الجميع ، بالحكومة الاتحادية وهل غاب عن السيد الأمين العام أن أداء الحكومة نفسها الذي لو قلنا انه ضعيف لما أصبنا غير الحقيقة .
ولابد لنا هنا من أن نذكر السيد الأمين العام برأي المحكمة الاتحادية الأخير الذي شدد على استقلال البنك المركزي ليس هذا فحسب بل على أن لا جهة أخرى تملك صلاحية إصدار أوامر أو تعليمات إليه .
وبناء على ما تقدم نرى أن ربط البنك المركزي وبالتالي السياسة النقدية بالحكومة المركزية وبالتالي بالسياسة المالية هو إجراء ينطوي على مخاطر جسيمة على مجمل العملية الاقتصادية فضلا عن كونه خرقا للقانون .
*مصرفي عمل سابقاً في البنك المركزي العراقي
موفق حسن محمود – استقلالية البنك المركزي العراقي بين المبررات الاقتصادية والتشريع
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية
تحياتي أستاذ موفق ودمت رافدا خصبا في علوم البنوك والاقتصاد